وجد علماء الفلك ثقب أسود هائلًا (SMBH) لديه نظام تغذٍ منتظم بشكل غير عادي. يمثل هذا الثقب العملاق نواة مجرية نشطة تقع في قلب مجرة (GSN 069) من نوع زايفرت 2 (Seyfert 2)، التي تبعد عن الأرض حوالي 250 مليون سنة ضوئية، وتبلغ كتلتها 400 ألف مرة كتلة شمسنا.
واستخدم فريق من علماء الفلك مرصد «XMM-Newton» التابع لوكالة الفضاء الأوروبية ومرصد تشاندرا للأشعة السينية «Chandra X-ray Observatory» التابع لناسا لمراقبة انبعاثات الأشعة السينية الصادرة من الثقب الأسود العملاق، واستطاعوا رصد توهج الثقب بانبعاثات الأشعة السينية كل 9 ساعات تقريبًا، إذ تنسحب المواد المحيطة إلى داخله.
وقد وجد الفلكيون سابقًا ثقبين أسودين ذوا كتلة نجمية يتوهجان بانتظام أثناء تغذيهما (أي جذبهما للمواد المحيطة إلى داخلهما)، ولكن لم يُشاهَد هذا النوع من الانتظام في الثقوب السوداء الضخمة من قبل.
ونُشرت ورقة بحثية عن هذا الاكتشاف بمجلة (Nature) بعنوان: «تسع ساعات من التوهجات شبه الدورية للأشعة السينية الصادرة عن نواة مجرية ذات ثقب أسود منخفض الكتلة».
والمؤلف الرئيسي للبحث هو جيوفاني مينيوتي (Giovanni Miniutti) من مركز «ESA» لبيولوجيا الفضاء بإسبانيا.
طبقًا للبحث المنشور، يستهلك الثقب الأسود العملاق مواد تقدر بأربعة أقمار ثلاث مرات يوميًا، هذا يعني أن كل مرة يتغذى فيها الثقب الأسود فأنه يستهلك ما يقرب من مليون مليار مليار رطل من المواد.
وكما قال مينيوتي في لقاء صحفي: «لدى هذا الثقب الأسود خطة للوجبات لم نر مثلها من قبل، فهذا السلوك لم يسبق له مثيل لدرجة أننا قد اضطررنا لصياغة تعبير جديد لوصفه: التوهجات شبه الدورية للأشعة السينية (X-ray Quasi-Periodic Eruptions)».
لوحظت انبعاثات الأشعة السينية الصادرة عن هذا الثقب الأسود العملاق منذ شهر يوليو عام 2010، لكنها كانت مستقرة. أما الورقة البحثية الجديدة فتعتمد على 54 يومًا من الملاحظة ابتداءً من ديسمبر 2018، بدأت بواسطة مرصد «XMM-Newton» التابع لوكالة الفضاء الأوروبية.
لاحظ الراصدون توهجين في 24 ديسمبر 2018، كما لاحظوا ثلاثة توهجات منتظمة أخرى في يناير.
بعدها طلب الفلكيون وقتًا أطول للرصد بواسطة مرصد تشاندرا التابع لناسا من أجل دراسة الأمر، ورصدوا بواسطته خمسة توهجات أخرى.
في أثناء التوهجات المنتظمة الحالية، يزداد نشاط انبعاثات الأشعة السينية بمقدار مرتين عن تلك الانبعاثات التي في الخلفية. ويحدث التوهج كل تسع ساعات ويستمر قرابة الساعة.
وأضاف المؤلف المساعد ريتشارد ساكستون (Richard Saxton) من المركز الأوروبي لعلم الفلك في مدريد بإسبانيا: «بدمج البيانات المأخوذة من مرصدي الأشعة السينية، تعقبنا تلك الانفجارات لمدة لا تقل عن 54 يومًا، ما أعطانا فرصة فريدة لمتابعة تدفق المادة المتكرر إلى داخل الثقب الأسود العملاق بتسارع وببطء».
في أثناء كل من تلك الانفجارات، يكون توهج الأشعة السينية أكثر لمعانًا بمقدار عشرين مرة منه في فترات السكون، كما تزداد درجة حرارة الغاز المتساقط من 1 مليون درجة فهرنهايت في فترة السكون إلى 2.5 مليون درجة فهرنهايت أثناء التوهج، وهي تماثل درجة حرارة الغاز المحيط بأكثر الثقوب السوداء العملاقة نشطة النمو.
سبب هذه التوهجات المنتظمة مازال غير معروف. الغاز المحيط بمجرة GSN 069 والذي تصل حرارته إلى 2.5 مليون درجة فهرنهايت، يماثل حرارة الغاز الذي يحيط بالثقوب السوداء العملاقة، وهو ما يمثل لغزًا لأنها درجة حرارة عالية جدًا لتكون قرصًا من المواد المتساقطة المحيطة بثقب أسود، ولذلك تمثل المجرة GSN 069 فرصة نادرة لدراسة تلك الظاهرة حيث يتكون الغاز الساخن ثم يختفي بشكل متكرر.
عادةً يتكون هذا الغاز الساخن، حسب اعتقاد علماء الفلك، نتيجة لتمزق نجم واستهلاكه بواسطة الثقب الأسود، ولكن الانتظام الواضح في المجرة GSN 069 ما زال لغزًا.
وصرحت المؤلفة المساعدة للبحث مارجريتا جيوستيني (Margherita Giustini) من مركز «ESA» لبيولوجيا الفضاء: «نعتقد أن منشأ الأشعة السينية المنبعثة هو نجم قد مزقة الثقب الأسود كليًا أو جزئيًا ويستهلكه شيئًا فشيئًا، أما التوهج المتكرر فهو قصة مختلفة تمامًا تحتاج إلى أن تُدرس بمزيد من البيانات والنماذج النظرية الجديدة».
مرة أخرى، رؤية ثقب أسود عملاق يستهلك الغاز من نجم ليس بالأمر الجديد، لكن التوهج المنتظم لمجرة GSN 069 هو ما يمثل لغزًا. يقترح الباحثون واضعو تلك الدراسة تفسيرين محتملين لجدول التغذي المنظم لذلك الثقب الأسود الهائل:
- تُبنى كمية الطاقة في القرص حتى تصبح غير مستقرة فتسقط المادة سريعًا بداخل الثقب الأسود مسببة انفجارًا، وتتكرر الدورة.
- يوجد تفاعل بين القرص وجسم آخر يدور حول الثقب الأسود، ربما هو بقايا النجم الممزق جزئيًا.
وبفضل المشاهدات المأخوذة عن مرصد تشاندرا، توصل فريق العلماء إلى أن مصدر انبعاثات الأشعة السينية يقع في قلب مجرة GSN 069، وهو المكان المتوقع للثقب الأسود الهائل.
وقد أظهرت البيانات المجمعة من مرصدي تشاندرا وXMM-Newton أن التوهج، رغم كونه منتظمًا، إلا أنه متغير، إذ يتناقص حجم ومدة وجبة الثقب الأسود بمعدل قليل، وتزداد المدة بين كل وجبة وأخرى، وستظهر المراقبة المستقبلية ما إذا كان هذا التغير سيستمر على نفس النمط.
تمثل المجرة GSN 069 نموذجًا ضئيلا للثقوب السوداء الهائلة عامةً، ففي المعتاد تبلغ كتلة الثقب الأسود عدة ملايين أو حتى عدة مليارات مثل كتلة شمسنا، في حين أن مجرة GSN 069 لا تحتوي إلا على حوالي 400 ألف مرة مثل كتلة شمسنا، ولعل هذا يفسر لماذا لم نشاهد مثل هذا النوع من التغذي المنتظم من قبل.
إن تقلب سطوع الثقوب السوداء الأكبر يكون أبطأ، وقد يستغرق شهورًا أو حتى سنين للوصول لهذه الدرجة من التوهج، وهو ما يفسر عدم رصد التوهجات شبه الدورية (QPEs) من قبل. فمراصد الأشعة السينية مشغولة دائمًا ومن الصعب استخدام أحدها لمراقبة هدف محدد لفترة طويلة.
وإن كان هناك عدة حالات سابقة شوهد فيها التزايد أو التناقص الكبير للأشعة السينية الناتجة عن الثقوب السوداء، اعتمدت تلك الملاحظات على عمليات الرصد المتكررة على مدار شهور أو حتى سنين.
بعض هذه التغيرات يكون أسرع من أن تفسره النظريات المعروفة للمواد المتساقطة من القرص المتراكم حول الثقب الأسود، ولكن قد يفسرها هذا الاكتشاف، إذ يمكن أن يكون هذا التغير سلوكًا مشابهًا لسلوك المجرة GSN 069.
اقرأ أيضًا:
لأول مرة: تقارير مبدئية ترصد تصادم بين ثقب أسود و نجم نيوتروني
ترجمة: عمر ونيس
تدقيق: أكرم محيي الدين