هناك عاصفة من النوع الذي بالكاد نفهمه داخل كوب الشاي؛ تتقلب جزيئات الماء بجنون، وتقترب من بعضها، وتجذب وتدفع بعضها بطُرقٍ فريدة من الصعب دراستها. بينما يعرف الفيزيائيون أن ظاهرة الترابط الهيدروجيني تلعب دورًا رئيسيًا في العديد من التكوينات الغريبة والرائعة للماء، تبقى تفاصيل معينة عن آلية عمل تلك التكوينات غامضة إلى حد ما، واتخذ فريق دولي من الباحثين نهجًا جديدًا لتخيل مواقع الجسيمات المكونة للماء السائل، والتقاط العيوب بدقة فيمتو ثانية، لكشف كيفية تصادم الهيدروجين والأكسجين داخل جزيئاته.
قد لا تساعدنا نتائجهم على إعداد كوب شاي أفضل، لكنها تقطع شوطًا طويلًا في تفسير نماذج كمية لروابط الهيدروجين، ما قد يحسن النظريات التي تفسر كون الماء حيويًا جدًا وضروريًا للحياة، ويملك خصائص مثيرة للاهتمام.
يقول الفيزيائي زيجي وانغ، الذي يعمل في مختبر التسريع الوطني SLAC التابع لوزارة الطاقة في الولايات المتحدة: «فتح هذا حقًا نافذة جديدة لدراسة الماء»، وأضاف: «يمكننا الآن أخيرًا أن نرى الروابط الهيدروجينية تتحرك، ونود ربط هذه الحركة بالصورة الأوسع نطاقًا، والتي تلقي الضوء على دور الماء في نشأة الحياة وبقائها على سطح الأرض، وتطوير أساليب الطاقة المتجددة».
وبعيدًا عن ذلك، تعد جزيئة الماء الواحدة معركة حضانة ثلاثية حول الإلكترونات، بين ذرتي هيدروجين وذرة أكسجين. يملك الأكسجين عددًا من البروتونات يفوق ما تملكه ذرتا الهيدروجين، لذلك يجذب الإلكترونات أكثر بقليل، وذلك يترك كل من ذرتي الهيدروجين مع وقت خالٍ من الإلكترونات أكثر من المعتاد، ولا تُترك هذه الذرات الصغيرة مشحونة شحنة موجبة تمامًا، لكنها تجعل الجزيء يأخذ شكل حرف V، مع منحدر لطيف من الأطراف موجبة الشحنة ونواة ذات شحنة سالبة بصورة أقل.
إذا وضعنا عددًا من الجزيئات مع طاقة كافية، سترتب الاختلافات الصغيرة في الشحنات نفسها وفقًا لذلك، إذ تتدافع الشحنات المتماثلة وتتقارب الشحنات المختلفة.
وبينما يبدو كل ذلك بسيطًا بما فيه الكفاية، فإن الآلية المحركة وراء هذه العملية ليست الحركة مباشرةً، وإن تكبير الإلكترونات تحت تأثير قوانين الكم المختلفة، يعني أننا كلما نظرنا بصورة أقرب، كلما كنا متأكدين أقل من خصائص معينة، ففي السابق اعتمد الفيزيائيون على التحليل الطيفي فائق السرعة، لفهم الطريقة التي تتحرك بها الإلكترونات في الصراع العنيف الساحر للماء، من التقاط فوتونات من الضوء وتحليل إشاراتها لرسم خرائط لمواقع الإلكترونات.
وللأسف، يترك ذلك جزءًا حاسمًا من المشهد، أي الذرات نفسها. وبعيدًا عن المتفرجين السلبيين، فهي تميل وتتأرجح في حدود قوى الكم المتنقلة حولها، ويقول عالم الفيزياء كيلي غافني في مختبر التسريع الوطني: «تبرز الكتلة المنخفضة لذرات الهيدروجين من سلوكها الشبيه بالموجة الكمية».
للحصول على رؤى داخل ترتيب الجزيئات، استخدم الفريق ما يسمى بجهاز انحراف الإلكترون فائق السرعة ميغا إلكترون فولط، الموجود في مختبر التسريع الوطني، إذ يُغدق الماء بالإلكترونات التي تحمل معلومات مهمة تتعلق بترتيب الذرات، عندما تتشظى عن الجزيئات.
ومع وجود ما يكفي من اللقطات، بُنيَت صورة عالية الدقة لهزة الهيدروجين، عندما تترابط الجزيئات وتنحني حولها، وتكشف كيف تسحب الأكسجين من الجزيئات المجاورة نحوها، قبل دفعها بعنف مرة أخرى.
يقول غافني: «ليست الدراسة الأولى التي تثبت بصورة مباشرة أن استجابة شبكة الروابط الهيدروجينية لدفعة الطاقة، تعتمد بصورة حاسمة على الطبيعة الميكانيكية الكمية لكيفية تباعد ذرات الهيدروجين، وهو ما اقتُرح منذ فترة طويلة أنه المسؤول عن الخصائص الفريدة للماء وشبكة روابطه الهيدروجينية».
والآن، بعد أن ثبت أن هذه الأداة تعمل مبدئيًا، يمكن للباحثين استخدامها لدراسة الاندفاع المضطرب لجزيئات الماء، مع ارتفاع الضغوط وانخفاض درجات الحرارة، ومراقبة كيفية استجابتها للمذيبات العضوية التي إما تعطي الحياة، أو تشكل مراحل جديدة مذهلة تحت شروط غريبة.
لم يسبق لأي عاصفة أن تبدو بهذه الروعة من قبل.
اقرأ أيضًا:
ترجمة: حلا بوبو
تدقيق: حسين جرود