أطلقت شركة موديرنا الأمريكية أول تجربة سريرية للقاح يقي من الإصابة بفيروس عوز المناعة البشري HIV، وهو لقاح mRNA (الحمض النووي الريبي المرسال)، إذ يقدم التعليمات إلى مستضدات خاصة بفيروس HIV، ويُحتمل أن يُحفز استجابات مناعية معينة.
استغرق تطوير لقاح لفيروس HIV عقودًا من الأبحاث ومليارات الدولارات، ونأمل أن تساعد تقنية mRNA على تسريع العملية.
وتُدار هذه التجربة بالاشتراك مع مبادرة لقاح الإيدز الدولية غير الربحية (IAVI).
ما لقاح mRNA من شركة موديرنا لفيروس HIV؟
يُخضِع الباحثون لقاح mRNA للاختبار لمعرفة قدرته على تقديم التعليمات للمستضدات الخاصة بفيروس HIV، وتحفيز استجابات مناعية خاصة بالفيروس.
طُوِّرت هذه المستضدات، وتُعرف أيضًا باسم مولدات الضد (المُستمنِعَات)، بوساطة فِرَقٍ علمية من مبادرة IAVI، ومعهد سكرسبيس للأبحاث.
وجدت دراسة من العام الماضي من نمط «إثبات المفهوم»[1] أن أحد تلك المنتجات المناعية ولّدت الاستجابة المناعية المطلوبة -تجهيز الأنواع الصحيحة من الخلايا المناعية B (الخلايا البائية)- لدى 97% من المشاركين في التجربة.
تقوم التجربة الحالية من شركة موديرنا على تقنية mRNA لتقديم المعلومات الجينية لمولدات الضد، التي سوف تستخدمها الخلايا لصنع بروتين.
علاوةً على ذلك، يختبر الباحثون مولد ضد مُعزِّز مستقل، مبني على تقنية mRNA أيضًا، لمعرفة قدرته على مساعدة الخلايا المناعية B كي تنضج بنحو أفضل.
صرّح الدكتور مارك فينبرغ، الرئيس والمدير التنفيذي لمبادرة IAVI: «نحن متحمسون جدًا للارتقاء بهذا الاتجاه الجديد لتصميم لقاح لفيروس HIV مُصمم بتقنية mRNA بوساطة شركة موديرنا».
وأضاف: «كانت عملية البحث عن لقاح فيروس HIV طويلةً ومضنيةً، وقد نتمكن بامتلاك أدوات جديدة مثل المستضدات المناعية وتقنية mRNA، أن نحرز تقدمًا سريعًا باتجاه صنع لقاح فيروس HIV، الذي عليه طلب مُلحّ».
تشكل التجربة الجديدة الممولة جزئيًا من قبل مؤسسة بيل وميليندا غيتس، الخطوة الأولى من عملية تهدف إلى إنضاج أنواع معينة من الخلايا المناعية B.
الهدف الأساسي من التقنية هو الحثّ على تطوير خلايا مناعية B، تنتج أجسام مضادة مُستعدِلَة[2] شاملة، يمكنها استهداف مجموعة واسعة من متغيرات فيروس HIV.
من المُرجح أن يشمل اللقاح النهائي المُعتمد على هذه التقنية جرعات متعددة تُعطى على مدار أسابيع إلى سنوات.
بلغ عدد المتطوعين في هذه التجربة، 56 متطوعًا بالغًا سليمًا غير مصاب بفيروس العوز المناعي البشري. سيتلقى 48 شخصًا منهم جرعة واحدة أو جرعتين من اللقاح المناعي الأولي، بينما سيتلقى 32 شخصًا لقاحًا مناعيًا معززًا.
سيتابع الباحثون المشاركين في التجربة مدة ستة أشهر بعد آخر جرعة لاختبار الاستجابة المناعية من أجل مخاوف السلامة المُحتملة.
لفيروس HIV تنوع بيولوجي لافت:
أربعون عامًا مرت منذ اكتشاف العلماء فيروس العوز المناعي البشري HIV وتحديده سببًا لمرض الإيدز.
ومنذ ذلك اليوم، حاول الباحثون تطوير لقاح فعّال للوقاية من الإصابة بفيروس HIV، ووصلت العديد من الدراسات إلى مراحل سريرية ثالثة، ولكن للأسف دون أي نجاح حقيقي يُذكَر.
تتمثل أحد تلك التحديات التي تواجه تطوير لقاح ضد فيروس HIV، بأن الفيروس فور دخوله خلية ما وإصابتها، يبدأ بالتكاثر بنحو عشوائي، لذلك يحتاج اللقاح الفعّال إلى أن يوقف جميع تلك الإصابات.
يقول الدكتور ديڤي سميث، اختصاصي الأمراض المعدية وعالم الفيروسات في جامعة كاليفورنيا: «إذا انتقل فيروس HIV بدأت العدوى، وإن حصل الشخص على اللقاح، فإنّ العدوى ستستمر طيلة حياته».
مثل لقاحات كوفيد-19، فإنها لا تقدّم الحماية الكاملة من الإصابة، ولكنها توفر حماية قوية ضد الإصابة بأعراض شديدة، وتجنّب الضرورة للعلاج في المشفى، وتقلل خطر الوفاة.
والعقبة أمام لقاح فيروس HIV أشد وطأةً، بسبب الحاجة الماسة إلى منع الإصابة بالفيروس مدى الحياة.
يوجد العديد من الأدوية الفعالة ضد فيروس HIV، يمكنها إبطاء سرعة نسخ الفيروس لنفسه في الجسم الحي، ولكنها لا تقضي عليه تمامًا. يمكن لهذه الأدوية أن تساعد المصابين على عيش حياة مديدة صحيّة وخفض خطر نقل الفيروس للآخرين.
ركّزت المحاولات السابقة لصنع لقاح فيروس HIV على تحفيز الجهاز المناعي على صنع أجسام مضادة مُستعدِلَة تُعطل عمل الفيروس وتمنعه من إصابة الخلايا.
لكن المشكلة الحقيقية تكمن في أن فيروس HIV، يتطور بسرعة وينتج متغيرات جديدة أكثر من فيروس الإنفلونزا الشائع، إذ ما إن تنتج المختبرات لقاحًا لآخر متغير، حتى يظهر متغير جديد يبطل مفعول اللقاح القديم.
لذلك يجب تحديث لقاحات الإنفلونزا الموسمية كل عام لتلائم سلالات الفيروس المُتوقَع انتشارها في العالم.
وإن وضعنا الفيروسين بين كفتي ميزان للمقارنة، تُقدر إحدى الدراسات أن التنوع عالمي الانتشار للتسلسل الجيني لفيروس الإنفلونزا يقارب تنوع تسلسل فيروس HIV الموجود لدى شخص واحد مصاب بالفيروس.
إذن، يصعب استهداف فيروس HIV بسبب التنوع الجيني الواسع، فالأجسام المضادة المُستعدِلة المُنتجَة بعد لقاح واحد قد تعمل فقط ضد سلالات قليلة من فيروس HIV.
ركّزت الأبحاث الحديثة على لقاحات فيروس HIV، التي تنتج أجسام مضادة مُستعدلِة واسعة النطاق، تستهدف أجزاء من سطح الفيروس متشابهة عند العديد من السلالات الفيروسية.
وهذا النهج الذي اتبعه علماء IAVI ومعهد سكرسبيس للأبحاث، ولكن التحدي يكمن في العثور على أفضل مولدات ضد لتوجيه عملية نضج الخلايا المناعية B، كي تنتج أجسام مضادة مُستعدلِة واسعة النطاق.
تقنية mRNA قد تسرّع من تطوير اللقاح:
قد تساعد تقنية mRNA من شركة موديرنا على تسريع العملية، لأن الكثير من الجهد المبذول لتصميم اللقاح، يمكن تطبيق نمذجته على الكومبيوتر.
مكّنت هذه التقنية الباحثين من تصميم لقاحات كوفيد-19 خلال أيام من إتاحة العلماء الصينيين التسلسل الجيني الكامل لفيروس سارس-كوف-2 المسبب لكوفيد-19.
يقول الدكتور وليام شيف من معهد سكريبس للأبحاث: «لقد أبصرنا للتو إثباتًا مُبشرًا لمفهوم استهداف الخط الإنتاشي للسلالة الفيروسية [في تجربة العام الماضي]، وتتيح لنا التجربة الحالية نقل هذه المقاربة إلى مراحل متقدمة».
وأضاف: «علاوةً على ذلك، تمكنّا من تسريع وتيرة إنتاج المواد المُستخدمة في التجربة السريرية بفضل تقنية شركة موديرنا».
حذّر الدكتور سميث من المبالغة في ادعاءات الدراسة الحالية، وخاصةً مع قدرة فيروس HIV على تجنّب الاستجابات المناعية للجسم، وإن كانت مثارة بفضل اللقاح.
وصرّح: «رحلة الوصول إلى مرحلة التمكّن من تقنية mRNA الجديدة شاقة ووعرة تشبه صعود تلّة عالية جدًا، حتى نصل إلى توليد استجابة مناعية واسعة جدًا وفعالة للحماية من فيروس HIV، ومع ذلك ما يزال يعتقد أن هنالك الكثير من المكاسب من هذا البحث».
وأضاف: «في رأيي، لقد أنشؤوا هذه التجارب بدهاء شديد للتعلم بقدر ما يستطيعون. ما مولد الضد القادر على إنعاش الجهاز المناعي أخيرًا، وما الذي سيساعدنا على حماية الناس مستقبلًا من التعرّض لفيروس HIV. أنا ممتن جدًا للاهتمام المتجدد بالعثور على لقاح HIV».
في حين أن منظمة الصحة العالمية صنّفت فيروس HIV حالةً «وبائية» متفشية، يجادل كثيرون بأنه يجب أن يُطلق عليه حالة «جائحة»، بسبب وجود الملايين من الناس حول العالم متعايشين مع فيروس HIV.
قال الدكتور سميث: «يجب ألا نصرف النظر عن الجائحة القديمة من فيروس HIV فقط لأننا نحارب جائحة كوفيد-19، ومن هنا أحيي الباحثين لجهودهم المبذولة في العثور على تقنية جديدة توصلنا للقاح HIV، الذي لم نصل إليه بعد مرور نحو 40 عامًا من المحاولة الفاشلة».
[1] إثبات المفهوم proof-of-concept ويُسمى أيضًا إثبات المبدأ، ويشير إلى عملية اختبار إمكانية تحويل الأفكار أو الطرائق إلى واقع ملموس، إذ يمثل المرحلة الحاسمة في عملية الابتكار، فهو البرهان الذي يثبت قابلية جدوى طرح منتج أو تنفيذ مشروع وفقًا للميزانية والدعم اللازمين والمحددين. يقترن إثبات المفهوم في كثير من الأحيان بالنموذج الأولي التجريبي الذي يختلف عنه من ناحية أنه يهدف إلى بيان آلية عمل منتج مثلًا من ناحية تجربة المستخدم والميكانيكا والتصميم، بينما يهدف إثبات المفهوم إلى اختبار قابلية تطبيق الأفكار. [2] الأجسام المضادة المُستعدِلَة أو الأضداد المُستعدِلَة (Neutralizing Antibodies): مسؤولة عن الدفاع عن الخلايا من مسببات الأمراض (الكائنات الحية التي تسبب المرض). تُنتَج بصورةٍ طبيعية من قبل الجسم، جزءًا من استجابته المناعية بسبب العدوى بالمسبب أو التطعيم باللقاح ضد العدوى.اقرأ أيضًا:
الآثار الجانبية للقاحات الحمض النووي الريبي الرسول mRNA
كيف تعمل لقاحات mRNA؟ وما الذي يميزها عن غيرها من اللقاحات؟
هل تمكن الإصابة بفيروس HIV من طريق الجنس الفموي؟
ما الفرق بين الإصابة بفيروس العوز المناعي البشري HIV ومرض الإيدز؟
ترجمة: فريق أنا أصدق العلم
تدقيق: محمد الشعراني
مراجعة: حسين جرود