كانت شركة الهند الشرقية البريطانية (1600-1874) الشركة الأكبر والأكثر نجاحًا في التاريخ، إذ كانت مطلقة السلطة أينما اتجهت لتستعمر، ونالت انتقادات كثيرة من الحكومة البريطانية في أواخر القرن الثامن عشر، وذلك بسبب استعمالها لجيشها الخاص وتوسعتها لمنطقة نفوذها خصوصًا في الهند.
كانت استقلالية شركة الهند الشرقية مكبلةً بقوانين متعددة متتابعة من البرلمان البريطاني طوال عقود بسبب اتهامات بالفساد والإفلات من المحاسبة، وانتهت هذه الاستقلالية وسط فوضى تمرد سيبوي 1857-1858. بدّل العرش البريطاني الحكم في الهند البريطانية بعد أن كان بيد مجلس مديري شركة الهند الشرقية، وحل البرلمان الشركة رسميًا عام 1874.
عملاق تجاري
تأسست شركة الهند الشرقية عام 1600 بميثاق ملكي، فأُنشأت بوصفها شركة تجارية مشتركة الأسهم لتستغل الفرص شرقي رأس الرجاء الصالح حيث منحت الحق باحتكار التجارة. ولكي تتصرف شركة الهند الشرقية في هذه التجارة، سمح لها بخوض الحروب. ومع أن الشركة لم تتمتع بالسيادة في مناطق نشاطها فقد منحت إمكانية ممارسة السيادة باسم العرش والحكومة الإنجليزية (ثم البريطانية). أصبحت هذه التفرقة الدقيقة أكثر ضبابيةً لما أصبحت الشركة أقوى، وهنا تكمن معضلتها وسبب زوالها المحتم.
أدرت الشركة ثروةً على حاملي أسهمها المالية من تجارتها العالمية في البهارات والشاي والنسيج والأفيون. ولحماية مصالحها، دفعت الشركة لجيوشها الخاصة في الهند المتمركزة في البنغال ومادراس وبومباي (مومباي). وقد وظفت أيضًا أفواجًا من الجيش البريطاني النظامي على المدى الطويل. ومنذ منتصف القرن الثامن عشر، تمكنت شركة الهند الشرقية من الاستحواذ على مناطق من الإمبراطورية المغولية المتداعية ومن الولايات الأميرية الهندية، وذلك بفضل هذه القوات بدءًا بانتصار روبرت كلايف بمعركة بلاسي عام 1757. أدارت شركة الهند الشرقية فيما بعد هذه المناطق مستخلصةً منها الضرائب والرسوم لتثري حاملي أسهمها أكثر ولتستديم قواتها المسلحة.
انتقادات متزايدة
كان أعداء شركة الهند الشرقية كثيرين، ليس فقط الشركات التجارية الأوروبية المنافسة والحكام في الهند بل أيضًا في بريطانيا. إذ انتُقدت لاحتكارها وشروطها المجحفة في التجارة ولفسادها. كانت تجارة الشركة ضخمةً جدًا لدرجة أنها تسببت في استنزاف مخزون بريطانيا من الفضة. وعاد مديرو الشركة بثروات جديدة هائلة مما أثار انزعاج أصحاب المراتب العليا القائمة في المجتمع البريطاني. كان هؤلاء الأثرياء الجدد يسمون استخفافًا بلفظ (نابوب) المشتقة من اللفظ الهندي (نواب) أي الحاكم. كانت شركة الهند الشرقية غير محبوبة بسبب الضرر الذي ألحقته بتجارة الصوف الإنجليزية من خلال استيرادها للنسيج الرخيص المصنوع في الهند.
انزعج الهنود بالمثل من توريد القطن الأرخص المصنع بواسطة طواحين ضخمة في إنجلترا الصناعية، وأخيرًا وليس آخرًا، أطاحت شركة الهند الشرقية بأي حكام وقفوا في طريقها، واستنزفت الموارد بلا هوادة، ولم تفعل ما بوسعها (أو لم تفعل شيئًا) لنشر المسيحية بين الشعوب القاطنة في مناطق نفوذها الواسعة.
كانت شركة الهند الشرقية دولةً داخل الدولة، وبدأت حتى بجمع ضرائبها الخاصة وإقامة العدالة من خلال محاكمها. لقد كانت كيانًا ذا سلطات سيادية غير خاضع للمحاسبة في أفعاله وغير مسؤول أمام أحد سوى حاملي أسهمه.
ذكر الفيلسوف والاقتصادي الاسكتلندي الشهير آدم سميث (1723-1790) في كتابه (بحث في طبيعة ثروة الأمم ومصادرها 1776)، أن حاكمها يحظى باحتكار في التجارة ويستحيل أن يحكم بعدل جميع رعاياه، هاتان الفكرتان غير منسجمتين بكل بساطة.
ومع أن البرلمان كان به أكثر من 100 عضو موظف لدى شركة الهند الشرقية في وقت ما، فقد طرح أسئلةً مثيرةً للقلق: هل كانت الشركة تمثل المصالح البريطانية خارج البلد تمثيلًا ملائمًا؟ ألم يقوض احتكارثها التجاري إمكانيات النمو للشركات البريطانية الأخرى؟
تعديلات متزايدة
القانون التعديلي لعام 1773
أحد العلامات الأولى الجلية لمديري شركة الهند الشرقية أن عملية إثرائهم طويلة الأمد قد شارف انتهاؤها، تضمنت عودة روبرت كلايف (1725-1774) إلى إنجلترا مع انتشار شائعات عن جمع حاكم البنغال السابق لثرواته الواسعة من طريق الفساد، فأجرى البرلمان تحقيقًا في معاملات كلايف في عام 1773، لكنه برأه في النهاية، ونصيحته للمجلس بالاستيلاء على الشركة لم تنل آذانًا صاغية، لكن حدثت إعادة هيكلة لإدارة الشركة.
نتج عن القانون التعديلي لعام 1773 تغييرات، إذ كانت ورقة الضغط عند الحكومة أن شركة الهند الشرقية احتاجت قرضًا مع أنها كافئت حاملي أسهمها بعوائد قدرها 12.5%، فعين أول حاكم عام لشركة الهند الشرقية وارين هاستينغز (1732-1818) الذي حكم بمساعدة مجلس من أربعة مستشارين. وقد لخص مانسينغ التقييدات الإضافية الأخرى بقوله:
«كانت محكمة المديرين بلندن مطالبةً بإجراء انتخابات كل أربعة أعوام وتغيير ربع أعضائها كل عام، وكان يحق لحاملي الأسهم بقيمة 1000 جنيه أو أكثر التصويت. وكان المديرون مطالبين بتقديم نسخ من كل مراسلاتهم إلى مبعوثيهم ومن وكلائهم (أي تجارهم) في الهند إلى وزير تابع للعرش، وهو كاتب الدولة المكلف بالهند… أنشئت محكمة عليا بمدينة كالكوتا تقدم الطعون في أحكامها حصرًا إلى الملك في المجلس».
اكتسبت الحكومة البريطانية على الأقل بعض التأثير في القرارات العسكرية والمالية والسياسية في الأراضي التي تديرها شركة الهند الشرقية باسم الحكومة. كان اهتمام الحكومة البريطانية المتزايد بالهند على الأرجح نتيجة مباشرة لخسارة مستعمراتها بأمريكا الشمالية عام 1783.
كان هاستينغز مكلفًا تحديدًا بالحد من الفساد، وخاصةً من مجموعة التجار الذين اتفقوا على الإسراف في تجارتهم الخاصة وقبول الرشاوى من أصحاب العقود الآجلة. مُنعت التجارة الخاصة من موظفي شركة الهند الشرقية ومُنحت علاوات على الرواتب. حاول هاستينغز أيضًا إيقاف أسوأ التجاوزات التي ارتكبها وكلاء شركة الهند الشرقية في حق الشعوب الأصلية.
من المثير للسخرية أن هاستنغز خضع لتحقيق بتهمة الفساد عند عودته إلى إنجلترا عام 1785 نظرًا إلى المهمة الأصلية التي كلف بها، كان السياسي اليميني إدموند بورك (1729-1797) ممتعضًا ممن يعده نابوبًا آخر. والأسوأ من ذلك من وجهة نظر بورك أن هاستينغز أساء لسمعة بريطانيا في الهند والعالم بسرقة كل الممتلكات على أراضي البنغال بناءً على حجج واهية على نطاق واسع وتملكها لشركة الهند الشرقية.
كان أعضاء البرلمان البريطاني الوجهاء مستائين من القصص الرهيبة عن سياسات شركة الهند الشرقية في الهند، وسعى الكثيرون منهم إلى إخضاع الشركة إلى مزيد التدقيق والتحكم.
لكن الإصلاح لم يكن أمرًا بديهيًا عند التعامل مع عملاق تجاري، فالكثير من أعضاء البرلمان موظفين أو حاملين لأسهم في شركة الهند الشرقية (بنسبة 23% في سبعينات القرن الثامن عشر). وإضافة إلى ذلك، لم تكن الملكية البريطانية مؤيدةً لتقويض الملكية الخاصة. لكن السؤال الحارق في ذلك الوقت كان: كيف لهذه الشركة الخاصة ذات المصالح الخاصة أن يسمح لها بالتصرف كدولة دون أي تقييدات مثل قاعدة ناخبين أو أي وازع قانوني. كان الجو العام في ذلك الوقت مهمًا جدًا، وكان الفلاسفة السياسيون يؤثرون في السياسيين في بريطانيا بأفكارهم عن أهمية الحرية الفردية والحكم بالتراضي والعدالة.
قانون الهند لعام 1784
أعاد قانون بيت للهند (نسبةً إلى الوزير الأول ويليام بيت الأصغر 1759-1806) هيكلة الإدارة العليا لشركة الهند الشرقية مرةً أخرى، وعين البرلمان أحد ممثليه في مجلس القيادة في لندن الذي أصبح مطلق السلطة. نص قانون الهند على أن مجلس القيادة «يراقب ويدير ويتحكم في كل التصرفات والعمليات والمشاغل المتعلقة بالحكومة المدنية أو العسكرية أو مداخيل الممتلكات البريطانية على أراضي الإنديز الشرقية». وظل التدخل الحكومي مقتصرًا على المراقبة بدل التدخل، لكن التنظيمات البيروقراطية كانت تضيّق الحريات التي تتمتع بها شركة الهند الشرقية لفترة طويلة.
عام 1787 أقال البرلمان هاستينغز وحاكمه بتهم جرائم عليا وإساءة التصرف، سمعت القضية في قاعة ويستمنستر تحت إشراف مجلسي العموم، وتمكن عامة الناس والصحافة من الحضور. وقد برأ المجلس هاستينغز في النهاية من أي تجاوزات خلال الفترة التي قضاها في الهند كما حصل مع كلايف. لكن هذه المرة، كشفت القضايا المعتمة لشركة الهند الشرقية تحت ضوء التحقيق في العلن.
قانون العقود لعام 1813
بدأت الموجة الثانية من الإجراءات التعديلية مع قانون العقود لعام 1813، ومن حينها أصبحت أي منطقة تحوز عليها شركة الهند الشرقية تُدرج تحت سيادة البرلمان البريطاني مباشرة. إضافةً إلى ذلك، أُنهي احتكار شركة الهند الشرقية للتجارة في الهند، وأُجبرت على إنهاء حظرها للمبشرين في مناطقها مع أنهم كانوا مطالبين برخصة ليشتغلوا.
وقعت الشركة تحت المزيد من التحكم بعد الانهيار الاقتصادي عام 1825، إذ أقحمت شركة الهند الشرقية نفسها في صعوبات اقتصادية واحتاجت إلى كفالة إنقاذ من الحكومة البريطانية، قُدِّم القرض ولكن المشكلة كانت المزيد من التعديلات في شؤون شركة الهند الشرقية. وكان أعضاء البرلمان يفكرون في اتخاذ إجراءات حازمة ضد شركة الهند الشرقية:
كانت الأسئلة الرئيسية أمام البرلمان هي إمكانية استمرار شركة الهند الشرقية بالوجود، واحتكارها للتجارة مع الصين، وما هو الدور الذي يجب أن تؤديه الشركة إذا سمح لها أن تستمر دون الإبقاء على احتكارها.
وذكر عضو البرلمان السيد جيمس سيلك باكينغهام في 1830، «إن فكرة إيلاء شركة مساهمة مهمة الإدارة السياسية لإمبراطورية يسكنها 100 مليون إنسان لهو أمر غير معقول».
قانون العقود لعام 1833
ضاق الخناق على شركة الهند الشرقية عندها أكثر، إذ ألغى القانون كل التقييدات التي فرضتها الشركة على الهجرة إلى الهند. وانتهى كذلك احتكار الشركة للتجارة مع الصين. وكان النظام القضائي مركزيًا ويتأخر في سماع القضايا، وحاول المشرعون ملاءمة القوانين وتطبيقها في الهند بإصدار القوانين العادية الجديدة.
ربما يكون أهم ما فعله هذا الميثاق الجديد هو توسعة المجلس الحاكم ومنحه هو والحاكم العام السلطة لسن تشريعات قابلة للتطبيق على كل الساكنين في مناطق نفوذ شركة الهند الشرقية. عام 1835 أصدرت الشركة قطعًا نقديةً للمرة الأولى بوصفها عملة قانونية لكل مقراتها الرئاسية (مناطقها الإدارية) وفي الدول الهندية الأميرية. حملت العملة وجه الملك ويليام الرابع حاكم المملكة المتحدة بين 1830-1837.
كانت العملة الجديدة للشركة رمزًا لهيمنة الشركة وبريطانيا في الهند، وحققت أحد شروط صعود الاقتصاد الوطني، ويصح القول بإن إعلان روبية الشركة كان أيضًا إعلان الدولة الإستعمارية.
قانون العقود لعام 1853
قلص قانون العقود لعام 1853 من سلطات شركة الهند الشرقية مرة أخرى لتصبح الآن مجرد وكالة إدارة للهند خاضعةً لإدارة الحكومة البريطانية في أمور سياساتها. كانت شركة التجارة العظيمة شبيهة بإدارة استعمارية بريطانية في كل شيء باستثناء اسمها. إذ استطاعت جمع الضرائب وكان لها جيش وخدمة مدنية واسعة، كلها مترابطة نقديًا بواسطة عملتها وماديًا بواسطة شبكة من السكك الحديدية وخطوط التلغراف. إضافةً إلى ذلك، فإن فكرة سيطرة بريطانيا ومسؤوليتها عن الهند صارت مقبولة في أذهان الإداريين الاستعماريين والبرلمان البريطاني. كانت السيطرة على شركة الهند الشرقية عملية طويلة وتدريجية، لكن الإغلاق النهائي نتج عن كارثة دموية.
الانشقاق والإنهيار
تزعزعت شركة الهند الشرقية عام 1857 بانشقاق سيبوي (الانتفاضة أو حرب الاستقلال الهندية الأولى)، وكانت البداية بتمرد الجنود الهنديين (سيبوي) في جيش شركة الهند الشرقية على ضباطهم. انتشر الاضطراب بسرعة ليشمل عدة من حكام الدول الأميرية والهنود من كل الطبقات. كانت أسباب التمرد كثيرة وتراوحت من التعسف ضد الممارسات الثقافية الهندية إلى عدم السماح للأمراء الهنود بتوريث أراضيهم إلى أبنائهم بالتبني، لكن الشرارة الأولى بدأت من السيبوي.
احتج السيبوي على انخفاض أجورهم مقارنةً بجنود شركة الهند الشرقية البريطانيين، إضافة إلى أسباب أخرى. إذ كانت شركة الهند الشرقية توظف 45000 جندي بريطاني حينها إلى جانب 230000 من السيبوي، واستولى السيبوي على مراكز مهمة مثل دلهي، لكن افتقادهم لقيادة وتنسيق شامل حال دون فوزهم على شركة الهند الشرقية بمواردها المتفوقة، خاصةً عندما نقلت الحكومة البريطانية 40000 جندي بحرًا إلى الهند.
بعدما سحق التمرد، ذهب الرأي العام في بريطانيا إلى أن مستعمرةً مهمةً كالهند لم يعد من الممكن تركها بأيدي شركة خاصة. كان المزاج العام هو ما عبرت عنه صحيفة أخبار لندن الموثقة في المقطع الآتي من مقال بتاريخ يوليو 1857:
«إن الوضع الراهن في الهند ينذر الأمة بالخطر… إن النيران تلتهم مستقرنا بالهند. نحن لسنا مطمئنين، فخسارة هذا المستقر يعني خسارة السلطة والمكانة والهيبة، يعني انحدار منزلتنا بين الأمم… ما إن كنا نرغب في الظفر بالهند بحد السيف أم لا لم يعد مسألةً للنقاش. إذا ما ظفرنا بها يجب أن نبقيها».
استولى العرش البريطاني بالكامل على ممتلكات شركة الهند الشرقية من الأراضي بموجب قانون الهند الحكومي المؤرخ في 2 أغسطس 1858. أدمجت جيوش شركة الهند الشرقية في الجيش البريطاني، وحُلّت القوات البحرية للشركة. فعليًا أممت الحكومة الشركة الخاصة الأشد عدوانية وقسوة قط، وبدأ ما يسمى عامةً بحكم الراج البريطاني في الهند. ثم تعيّن كاتب دولة جديد للهند وأصبح مسؤولًا مباشرةً أمام البرلمان، بينما مثل العرش نائب للملك يقود مجلس وزراء، وأشرفوا معًا على الإدارة اليومية والعمليات القضائية. قُسمت الهند إلى محافظات مقسمة بدورها إلى محافظات بالنيابة. في 1 يونيو 1874، حل البرلمان شركة الهند الشرقية بعدما سمح البرلمان لحاملي أسهمها بجني المزيد من الأرباح طوال 16 عام. وفي عام 1877 أُعلِنت الملكة فيكتوريا إمبراطورة الهند ولم تعد هناك شركة الهند الشرقية.
اقرأ أيضًا:
المحيط الهندي – حقائق عن المحيط الهندي
ترجمة: زياد نصر
تدقيق: يوسف صلاح صابوني
مراجعة: محمد حسان عجك