سورين كيركجارد، وُلد 5 مايو 1813، كوبنهاغن، توفي 11 نوفمبر 1855، كوبنهاغن. فيلسوف ولاهوتي وناقد ثقافي دنماركي، كان له تأثير كبير في الوجودية واللاهوت البروتستانتي في القرن العشرين. هاجم المؤسسات الأدبية والفلسفية والكنسية في عصره بسبب تحريفها لأسمى مهمة للوجود البشري -أن يصبح المرء ذاتيًا بالمعنى الأخلاقي والديني- إلى شيء سهل للغاية لدرجة أنه قد يبدو مُنجزًا بالفعل مع أنه لم يكن كذلك. من الناحية الإيجابية، يكمن جوهر عمله في المطلب غير المحدود والصعوبة الشديدة للوجود الديني عمومًا والإيمان المسيحي خصوصًا.
سُميت حياة كيركجارد بالهدوء، لكنها بالكاد كانت كذلك. قصة حياته دراما من أربعة أعمال متداخلة، لكل منها أزمتها المميزة أو «صدامها»، كما أشار غالبًا إلى هذه الأحداث. كان والده، مايكل بيدرسن كيركجارد، رجل أعمال مزدهرًا لكنه متقاعد، كرّس السنوات الأخيرة من حياته لتربية أبنائه. كان رجلًا ذا تقوى عميقة لكنها قاتمة ومليئة بالذنب، وقد طاردته ذكرى أنه لعن الرب ذات مرة عندما كان صبيًا وأنه بدأ عائلته بحمل خادمته -ثم الزواج منها- بعد وقت قصير من وفاة زوجته الأولى. حفّز حضوره المستبد مواهب سورين الخيالية والفكرية، لكن كما شهد ابنه لاحقًا، جعل طفولته الطبيعية مستحيلة.
التحق سورين كيركجارد بجامعة كوبنهاجن سنة 1830 لكنه لم يكمل دراسته حتى 1841. مثل الفيلسوف الألماني هيجل (1770-1831)، الذي انتقد نظامه بشدة، التحق كيركجارد بالجامعة لدراسة اللاهوت، لكنه كرس نفسه للأدب والفلسفة بدلًا من ذلك. كشف عن تفكيره خلال هذه الفترة في افتتاحية مجلة عام 1835، في عبارة غالبًا ما يُشار إليها بأنها تتضمن خلاصة فكره: «المسألة هي أن أجد حقيقة صحيحة بالنسبة لي، أن أجد الفكرة التي من أجلها أحيا وأموت، ما هي الحقيقة إلا أن أعيش من أجل فكرة؟».
حين كان طالبًا في الجامعة، استكشف كيركجارد الشخصيات الأدبية لدون جوان، واليهودي المتجول، وخاصةً فاوست، باحثًا عن نماذج وجودية لحياته.
وقع الصدام الأول خلال أيام دراسته، إذ ابتعد عن والده وعن العقيدة التي نشأ عليها، وخرج من منزل الأسرة. لكن بحلول عام 1838، قبل وفاة والده مباشرة، تصالح مع والده ومع الإيمان المسيحي. وأصبح هذا الأخير الفكرة التي من أجلها سيحيا ويموت. ورغم إشارته إلى تجربة «الفرح الذي لا يوصف» في مايو من ذلك العام، لا ينبغي افتراض أن اهتداءه كان فوريًا. من ناحية، بدا أنه غالبًا ما يبتعد عن إيمان والده ويعود إليه في الوقت نفسه تقريبًا. ومن ناحية أخرى، غالبًا ما أكّد أن التحول هو عملية طويلة.
لقد رأى مهمة حياته تتمثل في أن يصبح مسيحيًا. وفقًا لذلك، قرر نشر كتاب «المرض حتى الموت» سنة 1849 تحت اسم مستعار، كما فعل مع العديد من الأعمال السابقة، خشية أن يُظَن أنه ارتقى إلى المثالية التي قدمها هناك. وبالمثل، فقد أنكر في مؤلفاته التي كتبها تحت أسماء مستعارة أخرى أنه يمتلك الإيمان الذي تحدث عنه. ومع أنه كتب في العام الأخير من حياته: «لا أجرؤ على تسمية نفسي مسيحيًا»، سعى طوال حياته المهنية للدفاع عن المسيحية بإنقاذها من الأسر الثقافي، وسعى لأن يصبح مسيحيًا.
بعد وفاة والده، أصبح كيركجارد جادًا بشأن إنهاء تعليمه الرسمي. خاض امتحان الدكتوراه وكتب أطروحته «حول مفهوم السخرية، مع إشارة ثابتة إلى سقراط»، وأكملها في يونيو 1841 وناقشها في سبتمبر. في تلك الفترة انفصل عن ريجين أولسن، ومن ثم بدأ صدامه الكبير الثاني في حياته. كانا قد التقيا سنة 1837، عندما كانت تبلغ من العمر 15 عامًا فقط، وخطبها سنة 1840، لكنه بعد أقل من عام أعاد خاتمها، قائلًا إنه «لا يستطيع إسعاد الفتاة»، دون توضيح للأسباب.
من الواضح أن هذه العلاقة ظلت تطارده طوال حياته. فقد قال في وصيته أنه يعد الخطوبة ملزمة مثل الزواج، وترك كل ممتلكاته لريجين، لكنها لم تقبلها، لأنها تزوجت قبل وفاة كيركجارد بوقت طويل. من الواضح أيضًا أن هذه الأزمة أدت إلى فترة من الإنتاجية الأدبية المذهلة، إذ نشر سورين كيركجارد العديد من الأعمال الشهيرة: جزء من الحياة- 1843، التكرار- 1843، الأجزاء الفلسفية- 1844، مفهوم القلق- 1845، مراحل طريق الحياة- 1845. حتى بعدما اعترف أن تلك الأعمال من تأليفه، حرص كيركجارد على أن تحمل الأسماء المستعارة التي كُتبت بها. من الأفضل فهم الأسماء المستعارة بربطها بشخصيات الرواية، إذ ابتكرها المؤلف الحقيقي لتجسيد وجهات نظر محددة، وترك للقارئ مهمة فهم المقصود من تلك الشخصيات.
كان كيركجارد ينوي التوقف عن الكتابة في هذه المرحلة وأن يصبح قسيسًا في الريف، لكنه لم يفعل. أعقبت الفترة الأولى من النشاط الأدبي (1843-1846) فترة ثانية (1847-1855). وبدلًا من التقاعد، دخل مبارزةً فكرية مع صحيفة القرصان The Corsair، وهي صحيفة معروفة بتوجهها السياسي الليبرالي، لكنها اشتهرت بوصفها صحيفة فضائح تستخدم السخرية لمحاربة المؤسسات.
مع أن «القرصان» أشادت ببعض أعماله التي كُتبت تحت أسماء مستعارة، خشي كيركجارد أن يتأثر مشروعه الخاص بمشروع الصحيفة، لذلك وجه مهاراته الساخرة ضدها. التقطت «القرصان» الطُعم، وكان كيركجارد هدفًا للسخرية الصاخبة الأشهر، وأصيب بجروح عميقة لم يتعاف منها تمامًا. فإذا كانت الخطبة غير المكتملة هي السحابة التي خيمت على حياته خلال الفترة الأدبية الأولى، فإن أزمة القرصان كانت الشبح الذي طارده خلال الفترة الثانية.
كان الصدام الأخير مع الكنيسة الدنماركية -اللوثرية- وقائديها الأسقفين ج. ب. مينستر وﻫ. ل. مارتنسن. في مقالاته وصف سورين كيركجارد «المرض حتى الموت» بأنه «هجوم على العالم المسيحي». في سياق مماثل، أعلن عبر اسم مستعار هو Anti-Climacus، في مؤلفه «التدريب في المسيحية -1850»، عن الحاجة إلى «إدخال المسيحية مرة أخرى إلى العالم المسيحي»، واتضح ذلك عندما استأنف مسيرة الكتابة. امتنع كيركجارد عن الهجوم الشخصي على مينستر في حياته، لكن في جنازة مينستر، مدح مارتنسن -الذي خلفه في قيادة الكنيسة الدنماركية- سلفه بوصفه «شاهدًا على الحقيقة»، وربطه بشهداء الإيمان. بعد هذا لم يعد بإمكان كيركجارد الصمت.
في ديسمبر 1854 بدأ بنشر عشرات المقالات القصيرة الحادة التي أصر فيها على أن ما يُعَد مسيحيةً في الدنمارك كان مزيفًا، وأوضح أن مينستر ومارتنسن كانا مسؤولين عن اختزال الدين إلى «التساهل». عُثر على آخر تلك المقالات على مكتب كيركجارد بعد سقوطه مريضًا في أكتوبر 1855.
اقرأ أيضًا:
الكاتبة الفرنسية سيمون دو بوفوار: سيرة شخصية
دوايت أيزنهاور: رئيس الولايات المتحدة
ترجمة: علي إبراهيم
تدقيق: أكرم محيي الدين
مراجعة: تسنيم المنجد