المقالة 4: الاستكشاف والاكتشاف
تعتمد المراحل الأولى للبحث العلمي، في معظم الأحيان، على القيام بالملاحظات وطرح الأسئلة والتجربة الأوليَّة، لكن طرق وأشكال هذه المراحل قد تختلف.
قد تبرز الملاحظات المثيرة للاهتمام بأشكال مفاجئة، كما هو الحال في إكتشاف النشاط الإشعاعي، الذي تم استلهامه عبر ملاحظة تعرض ألواح الصور الفوتوغرافيَّة (نسخة قديمة من الكاميرات) المخزنَّة إلى جانب أملاح اليورانيوم إلى الإشعاعات بشكلٍ غير متوقع.
في بعض الأحيان تكون الملاحظات المثيرة للإهتمام ممكنةً عبر تطوير تكنولوجيا جديدة.
على سبيل المثال، سمح إطلاق تلسكوب هابل سنة 1990 للفلكيين بالقيام بملاحظات أكثر تركيزًا وعمقًا حول كوننا بطريقةٍ لم تكن ممكنةً من قبل.
أدَّت هذه الملاحظات في نهاية المطاف إلى تطوراتٍ كبيرةٍ في مجالاتٍ مختلفةٍ مثل تكوين النجوم والكواكب وطبيعة الثقوب السوداء وتوسُّع الكون.
في بعض الأحيان، يتم توضيح الملاحظات لتبرز التساؤلات عبر المناقشات بين الزملاء وقراءة هذه الأعمال من طرف علماء آخرين، كما هو موضَّح في اكتشاف دور مركبات الكربون الكلورية-الفلورية في إستنزاف الأوزون.
إستكشاف الهباء الجوي:
لاحظ كيميائيون سنة 1973 إنطلاق مركبات الكربون الكلورية الفلورية نحو البيئة عبر علب الرش والمكيفات الهوائيَّة ومصادر أخرى، لكن الشيء الذي قاد إلى التساؤل حول مصيرها الحتمي كان نقاشًا دار بين ماريو مولينا (Mario Molina) وزميله شيروود روولاد (Sherwood Rowland).
وبما أنَّ تجمع هذه الكربونات كان سريعًا في الغلاف الجوي، كان السؤال مثيرًا للإهتمام، لكن قبل أن يتمكن من معالجة هذه الإشكاليَّة (والتي كانت لتقوده إلى جائزة نوبل في نهاية المطاف مع طرح تفسيرٍ للثقب الموجود على مستوى طبقة الأوزون) كان مولينا بحاجةٍ إلى معلوماتٍ إضافيَّةٍ.
كان عليه أن يقرأ دراسات العلماء الآخرين في كيمياء الغلاف الجوي، وما قرأه أشار إلى المصير المقلق لمركبات الكربون الكلورية الفلورية.
لكن ورغم كون الملاحظة والتساؤل ضروريَّان في العلم، لكنهما ليسا بالشرطين الكافيين من أجل إطلاق بحثٍ علمي، عمومًا، يحتاج العلماء إلى خلفيَّة معرفيَّة علميَّة أيضًا، كل المعلومات التي قاموا بتجميعها أثناء تدريبهم العلمي في المدرسة، بالإضافة إلى المناقشات مع زملائهم ومراجعات الأدب العلمي.
كما هو الأمر في قصَّة ماريو مولينا، فهم ما توصل إليه العلماء من قبل في موضوع معيَّن هو أمرٌ جوهريٌّ في عمليَّة البحث.
هذه الخلفيَّة المعرفيَّة تسمح للعلماء بإكتشاف ملاحظات مهمَّة و بخلق روابط بين الأفكار و الملاحظات، وصولًا إلى ماهي الأسئلة التي قد تكون معالجتها مثمرةً بالوسائل المتاحة.
العلم هو عمليَّة، لكنه عمليَّةٌ تقوم على التراكم المعرفي من أجل المضي قدمًا.
الذهنيَّة العلميَّة:
شاءت الصدف أن تحدث بعض الاكتشافات العلميَّة بسبب صدفة وجودها في المكان المناسب وفي الوقت المناسب من أجل إيجاد ملاحظة مفتاحيَّة، لكن من النادر أن تقود الصدفة بمفردها إلى إكتشافٍ جديد.
إنَّ الأشخاص الذين قاموا بإكتشافات محظوظة هم غالبًا أشخاصٌ لهم خلفيَّة معرفيَّة وطرقٌ علميَّة للتفكير من أجل إعطاء معنىً لملاحظة جاءت صدفةً.
على سبيل المثال، في سنة 1896 حصل هنري بيكريل (Henri Becquerel) على ملاحظة مفاجئة.
لقد إكتشف تلوثَ ألواح الصور الفوتوغرافية المخزَّنة أمام أملاح اليورانيوم، حيث كان يعتقد أنَّها قد تعرضت لأشعة الضوء، رغم أنَّها قد حفظت في درجٍ مظلم.
أي شخصٍ آخر مع ذهنية علمية أقل وخلفية معرفية ضئيلة حول الفيزياء، لكان قد لعن حظه وقام برمي الألواح الفاسدة.
لكن بيكريل كان بدوره مهتمًا بالملاحظات.
لقد فكَّر في أنَّ الأمر مهمٌّ علميًّا، ذهب للقيام بتجارب متابَعة من أجل إقتفاء أثر مصدر التعرض لليورانيوم، وخلال تلك العمليَّة، اكتشف النشاط الإشعاعي.
يعود مفتاح قصة هذا الاكتشاف بالفضل جزئيًّا إلى الملاحظة المثيرة لبيركيل، لكن يعود أيضًا إلى طريقة تفكيره.
بالإضافة إلى الخلفيَّة المعرفيَّة الكاشفة، كان لبيركيل ذهنيَّة علميَّة.
من دون شك أنَّه قام بملاحظات مفتاحيَّة، لكنه تعمَّق بعد ذلك بشكلٍ أكبر في القضيَّة، بالتساؤل حول أين تعرضت الألواح للإشعاعات وبإقصاء جميع الأسباب المحتملة، من أجل الوصول إلى التفسير الفيزيائي الذي كان وراء الحادث السَّعيد.
المقالة 5: الملاحظة العلميَّة البعيدة عن أنظارنا
نحن نعتقد عمومًا أنَّ الملاحظات هي كل “ما نراه بأعيننا”، لكن في العلم، الملاحظات تأخذ أشكالًا مختلفة.
من دون شك أنَّه بإمكاننا القيام بالملاحظات مباشرة عبر الحواس، سواءً كان البصر أو اللمس أو السمع أو الشم، لكن في المقابل بإمكاننا توسيع وتحسين حواسنا القاعديَّة باستعمال أدوات معيَّنة، من بينها:
مقياس الحرارة، الميكروسكوب، التيليسكوب، الرادار، أجهزة استشعار الإشعاع، البلورات بالأشعة السينية، والعديد من الوسائل الأخرى.
وهذه الوسائل تقوم بعمل الملاحظة بشكلٍ أفضل مما نقوم به نحن!
و أكثر من ذلك، ليس باستطاعة البشر الشعور بالعديد من الظواهر التي يبحث فيها العلم (مهما قمت بالتحديق نحو هذا الكمبيوتر لن تتمكن من معرفة ماهي الذرَّات التي تكونه أو الأشعة فوق البنفجسيَّة التي يطلقها)، وفي مثل هذه الحالات يجب أن نعتمد على الملاحظات غير المباشرة بإستعمال أشياء مختلفة.
عبر هذه الوسائل، بإمكاننا القيام بعدد أكبر من الملاحظات بشكلٍ أكثر دقَّة مقارنة بتلك الحواس القاعديَّة التي نملك.
تمنح لنا الملاحظات ما يسمّيه العلماء بالبيانات أو المعطيات.
سواءً كانت الملاحظات متعلقةً بنتيجة تجارب مثل قياس الإشعاعات من قمرٍ صناعي، قياس سجل الأشعة تحت الحمراء لانفجارٍ بركاني، أو سواءً كانت متعلقة بمجرَّد ملاحظة أن بعض أصناف الطيور تضرب الأرض بأرجلها من أجل البحث عن الطعام، كل ذلك يعتبر بيانات.
يحلل العلماء البيانات ويفسرُّونها من أجل معرفة ما الذي بإمكانها تقديمه لفرضيَّاتهم ونظريَّاتهم.
هل تدعم فكرةً ما على حساب الأفكار الأخرى، تساعد في دحض فكرة، أم تقترح شرحًا جديدًا بشكل كامل؟
رغم التعقيد الذي تبدو عليه البيانات، حيث تظهر على شكل رسومات بيانيَّة أو تحاليل إحصائيَّة معقَّدة، من المهم أن نتذكر أنَّها رغم كل شيء، لا تغدو شيئًا سوى كونها مجرَّد ملاحظات.
الملاحظات هي ملهمة، تمنح دعمًا للأفكار وتساعد في دحض الفرضيَّات والنظريَّات العلميَّة. رغم ذلك، لا يمكن قراء النظريَّات و الفرضيَّات (التي تعتبر الهيكل الجوهري للمعرفة العلميَّة) من خلال الطبيعة فحسب.
على سبيل المثال:
رؤية كرة ساقطة (مهما كانت دقة الملاحظات) لا يمكن أن تخبرنا عن كيفيَّة عمل الجاذبيَّة، وجمع ملاحظات عن جميع أصناف طيور الدوري لجزر غالاباغوس لا يخبرنا مباشرةً عن طريقة تطوُّر مناقيرها.
تبنى المعرفة العلميَّة عندما يقوم الناس بوضع الفرضيَّات والنظريَّات، وتجربتها بشكلٍ مكرَّر على الملاحظات من العالم الطبيعي، ومواصلة تحسين تلك التفسيرات التي تقوم على أساس الأفكار الجديدة والملاحظات.
الملاحظة هي أمر جوهري في عمليَّة العلم، لكنها تمثل نصف الصورة فحسب.
المقالة 6: إختبار الأفكار العلميَّة
يقبع اختبار الفرضيَّات والنظريَّات في قلب العمليَّة العلميَّة.
أيُّ جانبٍ من العالم الطبيعي يمكن أن يُفَسَّر بطرقٍ مختلفة.
جمع كل تلك التفسيرات المنطقيَّة هو من اختصاص العلم، وكذلك هو استعمال الاختبارات العلميَّة من أجل تصفيتها، واستخراج أفكار مدعومة بأدلة وترفض الأفكار الأخرى.
يمكنك أن تتعرف على الإختبار العلمي باستعمال خطوتين منطقيَّتين:
(1) إذا كانت الفكرة صحيحة، مالذي نتوقع رؤيته
(2) هل يتطابق ذلك التوقع مع ما نلاحظه حقًّا؟
يتم دعم الأفكار عندما تتطابق الملاحظات (النتائج) مع الملاحظات المتوقعة، ومنطقيًّا، يتم رفض الأفكار عندما لا تتطابق.
إختبار أفكار حول حمَّى النفاس:
كمثال بسيط حول كيفيَّة عمل الاختبار العلمي، لنأخذ حالة أجناتس سيملفيس (Ignaz Semmelweis)، الذي عمل في جناح الأمومة في القرن التاسع عشر.
لاحظ في عمله وفاة نسبة غير إعتيادية من الأمهات بعد إصابتهن بما كان يُعرف بحمَّى النفاس.
قام سيملفيس بدراسة العديد من التفسيرات لهذا المعدل المرتفع من الوفيات.
وكانت من بين أبرز تلك الأسباب التي قام باعتبارها:
(1) أنَّ الحمى كانت بسبب عمليَّة الولادة مع قيام الأمهات بالإستلقاء على ظهورهن
(2) أنَّ الحمى كانت بسبب الأيدي الغير نظيفة للأطباء (الأطباء يقومون بعمليات التشريح كثيرًا قبل فحص النساء في غرفة الولادة.
قام باختبار الفكرتين مع توقعَّات لما قد يحصل عليه منهما.
إذا ما كانت الفكرة الأولى صحيحة، إذن قد يقود تغيير وضعيَّة النساء أثناء الولادة من الظهر إلى الجانبين إلى خفض نسبة الوفيات بسبب حمى النفاس.
قام سيملفيس بتغيير وضعيَّة النسوة في غرف الولادة، لكن نسبة الوفيات لم تنخفض، لم تتطابق الملاحظات الفعليَّة هنا مع النتائج المتوقعة.
إذن سيكون سبب وفيات حمى النفاس هو أيدي الأطباء المتسخة، دفع الأطباء لغسل أيديهم باستعمال مطهرٍ قوي يجب أن يقود إلى انخفاض نسبة وفيات حمى النفاس.
عندما قام سيملفيس بتجربة ذلك، تراجعت نسبة الإصابة بالحمى بشكلٍ شديد، تتطابق الملاحظات الفعليَّة مع النتائج المتوقعة، مما يدعم الفكرة الثانية.
الإختبارات في المناطق المداريَّة:
لننظر الآن إلى مثالٍ آخر حول الاختبار العلمي، مختلفٍ تمامًا هذه المرَّة:
البحث عن أصل الجزر المرجانيَّة في المناطق المداريَّة.
ولنأخذ الجزيرة المرجانيَّة إنيوتوك التابعة لجزر مارشال، وهي عبارة عن حلقة مائيَّة من المرجان محيطة ببحيرة مركزيَّة.
منذ القرن التاسع عشر إلى اليوم، يحاول العلماء معرفة مالذي يدعم الهياكل المرجانيَّة تحت سطح البحر وبالتحديد كيف يتكوَّن المرجان.
وهنا نجد العديد من التفسيرات لكيفية تشكل جزيرة إنيوتوك:
الفرضية 1: ينمو المرجان قريبًا من سطح المحيط حيث تصل أشعة الشمس، لذلك قد يكون المرجان في إنيوتوك هو سبب نمو الجزيرة على شكل حلقة في الأعلى مع جبل تحت سطح الماء، وقد تكون هذا الأخير أيضًا عن طريق الحطام الموجود في المحيطات أو أنَّه يكون قد ارتفع بسبب الحركة التكتونيَّة.
الفرضية 2: إحتماليَّة أخرى أن تكون جزيرة إنيوتوك قد تشكَّلت حول جزيرة بركانيَّة، حيث غرقت هذه الأخيرة تحت سطح المحيط بينما بقيت الشعاب المرجانيَّة تنمو على السطح.
قد تتسبب النشاط البركاني تحت المياه (النقاط الساخنة) في تشكُّل جزيرة وسط المحيط، ويحدث ذلك عندما تبرد الحمم حول النقطة الساخنة.
أمَّا حركة الصفيحة التكتونيَّة فتحمل الجزيرة خارج النقطة الساخنة في النهاية، مما يسمح للجزيرة بالتكون بشكلٍ أكبر. في ذلك الحين، تنمو الكائنات المرجانية على شكل حلقة في المياه الضحلة حول الجزيرة البركانيَّة.
مع مرور الزمن، تتسبب كل من التعرية والحركة التكتونية بغرق الجزيرة قليلًا، وبينما يحدث ذلك، تأخذ الحلقة المرجانيَّة معها.
ويعتبر المرجان كائنًا حيَّا وتنمو مستعمراته نحو الأعلى بينم تغرق ركيزتهم.
مع مرور الوقت، بإمكان الجزيرة أن تغرق أكثر تحت مستوى سطح البحر، في حين يستمر المرجان في النمو، ويصعد بشكل مستمر نحو السطح في تكوينه الحلقي الأصلي.
تفسيرين محتملين لتشكُّل الشعاب المرجانيَّة:
ما هو التفسير الأفضل لجزيرة إنيوتوك؟
هل تشكلت فوق جبل تحت الماء، أم أنَّها عبارة عن برج من المرجان ينمو على بركان قديم غارق تحت سطح البحر؟
ماهو التفسير الذي يلقى دعمًا أكبر بالأدلة؟
إذا نشأت إنيوتوك على جبل موجود تحت الماء، فسنتوقع أن يكون تكوين الجزيرة المرجانية على شكل طبقة رقيقة من الشعاب المرجانية متواجدة أعلى حجرٍ كلسي أو البازلت.
في المقابل إذا نمت نحو الأعلى حول جزيرة غارقة تحت سطح المياه، فسنتوقع أن تتكون الجزيرة من الشعاب المرجانية على امتداد أقدام عديدة أعلى حجرٍ بركاني.
عندما قام علماء الجيولوجيا بعمليات حفرٍ في جزيرة إنيوتوك سنة 1951 كجزءٍ من استطلاعٍ من أجل التحضير لاختبارات نوويَّة هناك، استمرت عمليَّات الحفر إلى غاية 4000 قدم (1219 متر) في المرجان قبل أن تصل إلى طبقة البازلت البركاني، تعارضت الملاحظة الفعليَّة مع فكرة الجبل الغارق تحت الماء وتطابقت مع فكرة الجزيرة الغارقة، وهذا يدعم الفكرة الأخيرة.
بطبيعة الحال، تلاحقت العديد من الأدلة الأخرى حول أصول الجزر المرجانيَّة، لكن العمق المفاجىء للشعاب المرجانيَّة كان بشكلٍ خاص مقنعًا للعديد من الجيولوجيين.
إعداد : وليد سايس
تدقيق: بدر الفراك