*الأفكار العلمية توصل إلى الأبحاث الجارية*
العلم عبارة عن تحدٍّ متواصل، لن ينتهي بآخر إصدارات كتب الفيزياء في جامعتك، ولن ينتهي حتى وإن توصلنا إلى إجابات عن جميع الأسئلة الكبرى ككيفية تفاعل جيناتنا الـ 20,000 لتبني إنسانًا، أو ماهي المادة المظلمة.
فما دام هنالك أجزاء غير مكتشفة وغير مفسرة من العالم الطبيعي، سيستمر العلم في التحري عنها.
الأكثر مألوفا في العلم أنّ الإجابة عن سؤال واحد تلهم أسئلة أعمق وأدق لأبحاث إضافية.
كما أنّ إيجاد فكرةٍ مثمرة لتفسير ملاحظةٍ شاذة سابقة غالبا ما تفضي إلى توقعاتٍ ومجالات بحثٍ جديدة.
لذلك، فإنّنا كلما عرفنا أكثر، اكتشفنا جهلنا بأمورٍ جديدة، وبقدر توسع معرفتنا يزداد وعينا بما لم نبلغ فهمه بعد.
فعلى سبيل المثال، ساعد إقتراح جايمس واطسون وفرانسيس كريك بأنّ الـ DNA (الحمض النووي منقوص الأوكسجين) يتّخذ بنية حلزونية مزدوجة، في حل التساؤل المهم حول التركيبة الكيميائية للحمض النووي.
وعندما تمت الإجابة على هذا السؤال، ظهرت أيضاً العديد من التوقعات، على غرار أنّ نسخ الحمض النووي يتم عبر التزاوج القاعدي (base pairing)، كما أثارت العديد من الأسئلة على شاكلة كيف يقوم الـ DNA بتخزين المعلومات مثلا.
وشاركت في نطاق جديد وواسع من البحوث مثل الهندسة الجينية.
وبالتالي فتح عمل واطسون وكريك آفاقاً لم تكن مرئية، بحيث تقوم أغلب البحوث بخلق توقعات جديدة، تلهم أسئلة جديدة، وتؤدي إلى اكتشافاتٍ جديدة…
النموذج العلمي المماثل
رذرفورد والذرة:
عمل نيلس بور على إنجازات رذرفورد لتطوير نموذج الذرة الأكثر رواجًا في الكتب المدرسية، نواة محاطة بمدارات إلكترونات على عدة مستويات.
وبغض النظر عمّا عقبها من تساؤلات (مثل كيف للإلكترونات أن تتجنب كسر قواعد الكهرباء والمغناطيس حين تحتفظ ببعدها عن النواة؟) كان هذا النموذج قويا وأدّى مع بعض التغييرات اللاحقة إلى مجموعة واسعة من التنبؤات والاكتشافات الجديدة: ابتداءً من توقع ناتج التفاعلات الكيميائية مرورًا بتحديد مكونات النجوم البعيدة ووصولا إلى تصور القنبلة الذرية.
تستمر قصة رذرفورد مع تطرقنا لكل نقطة في القائمة المرجعية العلمية.
ولمعرفة المزيد حول كيفية تتبّع بحثه جميع تلك النقاط، إنتظرونا في الجزء المقبل.
#العالم الطبيعي: (أو المادي) هو كل مكونات الكون الفيزيائي، الذرات، النباتات، النظام الايكولوجي، البشر، المجتمعات، المجرات…إلخ بالإضافة إلى القوى الطبيعية التي تعمل عليها.
عناصر العالم الطبيعي(خلافًا للعالم الماورائي) هو القابل للاستكشاف من طرف العلم.
*يتحلى المشاركون في العلم بالسلوك العلمي*
مقدمة المقال على الفيسبوك
يظنّ الكثيرون أنّ العلم مجال تحتكره نخبة ما، في حين أنّ أبوابه مفتوحة على مصراعيها أمام الجميع بدون استثناء، شرط التحلي بأخلاقيات معيّنة.
لمعرفة ماهية تلك الشروط الخمسة تابعوا هذا المقال
يُساء تصوير العلم غالبا على أنّه مهمة “النخبة”، حيث يتوجب على كل فرد الانتماء إلى “الفريق” أولًا حتى يؤخذ عمله على محمل الجد، لكن هذا الأمر مضلِّلٌ في الحقيقة بعض الشيء.
ففي الواقع، العلم الآن متاح للجميع بغض النظر عن سنّهم وجنسهم وانتمائهم الديني وقدراتهم الجسدية وعرقهم وبلدانهم الأصلية وآراءهم السياسية ومدى بعد نظرهم أو نكهة الآيس كريم التي يفضلونها أو أي كان… حيث يستفيد العلم بشكلٍ كبير من التنوع المتوسع لوجهات النظر المتاحة من قبل المشاركين.
إلّا أنّه لم يكن للعلم أن يعمل لولا كون المتعاطين معه يتصرفون تصرفا علميّا، فهذا ما يدفع العلم إلى الأمام.
السِؤال المطروح الآن هو مالذي يتوجب على المرء فعله بالضبط، كي يُعتبر سلوكه علميًّا؟
فيما يلي قواعد هذه السلوكيات:
1. إيلاء الاهتمام لإنجازات من سبقوك:
يُبنى العلم بطريقةٍ تراكمية، فإن أردت اكتشاف أمورٍ مثيرةٍ وجديدة، فستحتاج لمعرفة ما قد اكتشفه الآخرون قبلك، وهذا يعني أنّ العلماء يدرسون مجالهم بشكل موّسع للوصول إلى فهم الوضع الحالي للمعرفة.
2. عرض أفكارك للتجربة:
ابذل ما بوسعك لوصف وتنفيذ التجارب التي قد تشير إلى أنك مخطئٌ أو تتيح للآخرين استنتاج ذلك.
قد يبدو هذا غريبًا إلّا أنّه مهم جدا لتقدّم العلم. فالعلم يسعى لفهمٍ دقيقٍ للعالم، وبالتالي فإن كانت الأفكار محميةً من التجريب سيكون من الصعب معرفة ما إذا كانت صحيحةً أم لا.
3. الإعتماد على الأدلة.
الدليل هو الحكم المطلق للأفكار العلمية.
الأمر هنا لا يعود للعلماء، فهم ليسوا أحرارًا في تجاهل الأدلة حين تعترض أو تناقض أفكارهم، حيث ينبغي لهم في هذه الحالة تعليق الحُكم على الفكرة وانتظار المزيد من التجارب التي قد تُعدّل أو ترفض الفكرة الأصلية أو ربما تتخذ طرقًا بديلةً من أجل تفسير الأدلة، في الأخير فإنّ الأفكار العلمية تسندها الأدلة، وليس لها أن تُدعم لو كانت الأدلة تخالفها.
4. شارك أفكارك وتجاربك مع الآخرين
يعتبر التواصل أمرًا مهمًّا لعدة أسباب، إن كان العلماء يحتفظون بمعرفتهم لأنفسهم، لن يستطيع الآخرون البناء عليها، أو إعادة التحقق من العمل أو ابتكار طرق جديدة لاختبار تلك الأفكار.
5. تصرف بأمانة، إحترم النزاهة العلمية
إخفاء الأدلة، إنتقاء الأدلة في التقارير أو تزوير البيانات مباشرة يعتبر محبطا للهدف الرئيسي للعلم المتمثل في بناء معرفة دقيقة بالعالم المادي (الطبيعي).
لذلك، فإن الحفاظ على معايير عالية من الشفافية والنّزاهة والموضوعية أمر بالغ الأهمية بالنسبة للعلم.
النموذج العلمي المماثل
رذرفورد والذرة
كان أرنست رذرفورد وفريقه يتحلون بالسلوك الذي يدفع العلم إلى الأمام:
1. لقد ألمّوا بالمعلومات المتاحة في مجالهم.كان رذرفورد قد درس الفيزياء لمدة عشرين عامًا حين اقترح فكرته حول النواة.
2. عرضوا فكرتهم للتجربة.على الرغم من أنّ اقتراحهم الأصلي كان ينص على أن ليس هنالك مجال للانعكاس العشوائي (Backscattering) إلّا أنّ رذرفورد قرّر تتبّع الجزيئات ألفا المنعكسة عشوائيًا فقط ليكون مسهبًا.
3. الإعتماد على الأدلة.عندما لم تدعم نتائج تجاربهم نموذجهم للذرة، لم يعتبروها نتائج شاذة بل غيّروا فكرتهم الأصلية لتتماشى مع الأدلة الجديدة.
4. شاركوا أفكارهم علانيةً كي يتمكن الفيزيائيون من اختبارها أيضا.نشر رذرفورد نتائجه التجريبية مع تفسير لاستدلاله وفكرة النواة في دورية العلمية سنة 1911.
5. تصرفوا بنزاهة علمية.في ورقته العلمية حول الموضوع، أسند حقوق النشر بكل إنصاف ذاكرًا مساهمات زملائه Geiger وMarsden ناقلًا نتائجه هو بكل أمانة حتى وإن لم تتطابق حساباته النظرية بالنتائج.
إلتزم العلماء في هذا العمل بالنقاط الخمسة المذكورة في قاعدة السلوكيات العلمية.
بهذه الطريقة، واستنادًا لبنود أخرى في المرجعية العلمية، وبالتالي فإنّ هذا البحث بخصوص بنية الذرة ينتمي جيدًا إلى نطاق العلم.
*ما وراء الفيزياء، الكيمياء والبيولوجيا*
كما سبق وأن رأينا، فإنّ البحث العلمي غالبًا ما يجمع باقة من الخصائص الأساسية: فهو يركز على تحسين فهمنا للعالم المادي، وعدم التعاطي إلّا مع الأفكار القابلة للتجربة والتي من الممكن التحقق منها من خلال الأدلة الملموسة، معتمدًا على المجتمع العلمي، ملهمًا الأبحاث الجارية، كما أنه يُنفّذ من طرف أشخاص ذوي منطق تصرفاتي علمي.
في حين لا تتطابق كل التحقيقات العلمية تمامًا مع المرجعية العلمية، يسعى العلم كاجتهاد، دون هوادة لتجسيد تلك الخصائص، فعلى سبيل المثال وكما رأينا في المقال السابق، يستوفي اكتشاف إرنست رذرفورد Ernest RUTHERFORD لنواة الذرة، تلك الخصائص بدقةٍ عالية.
لكن ماذا عن الأبحاث الأقل نمطية، تلك الأبحاث التي لا تُذكر في الكتب المدرسية، هل تحترم أيضًا نفس النقاط المرجعية العلمية؟
سنتطرق فيما يلي إلى مثال من أبحاث علم النفس.
سيكولوجيا الحيوان
يتساءل الكثير منّا عن كيفية تفكير بقية الحيوانات وتجربتهم للحياة، بالتساؤل مثلا: هل ذلك الحيوان سعيد لأنّه رآني أم أنه فقط بحاجةٍ الى متعة ما؟
فهل يمكن للعلم إرضاء ذلك الفضول؟ في النهاية كيف لنا تجريب فكرة مفادها “كيف يفكر حيوان آخر”؟
في أربعينات القرن الماضي، قام عالم النفس إدوارد تولمان Edward Tolman ببحثٍ حول سؤال مشابه باستعمال الطرق العلمية.
فقد كان يتساءل عن طريقة الفئران الناجعة في التنقل عبر محيطها، داخل متاهة بها مكافأة مخفية مثلا، إفترض تولمان أن الفأر سيقوم ببناء خارطة ذهنية للمتاهة كما استكشفوها أي بتكوين صورة ذهنية لمخطط المتاهة، في حين كان يعتقد الكثير من زملائه أنّ الفئران ستتعلم التنقل داخل المتاهة من خلال التحفيز والاستجابة، ذلك بربط كل إشارة بنتيجة معينة، (مثل: أخذ هذا المسار يِؤدي الى قطعة جبنة) دون تكوين أية صورةٍ عن المتاهة.
نستعرض فيما يلي كيف حقق تولمان النقاط الرئيسية في القائمة المرجعية العلمية:
العالم المادي ؟
تنتمي أدمغة الفئران وأعمالها إلى العالم المادي كما هو الأمر أيضًا فيما يخص سلوكها.
إبتغاء الشرح؟
كان يهدف تولمان لشرح كيفية تنقل الفئران في محيطها.
أفكار قابلة للتجربة؟
كلا الفكرتان الحاضرتان حول كيفية تنقل الفئران أي “الخريطة الذهنية” و”التحفيز والإستجابة”، قابلتان للتجريب، لكن يتطلب إيجاد كيفية تجريبهما بعض الحنكة والتفكير المنطقي حول تصميم التجربة.
ولتجربة هاتين الفكرتين، قام تولمان مع فريقه بتمرين مجموعة فئران داخل متاهة على شكل مجموعة أنفاق، إحدى تلك الأنفاق ملتوٍ ومنعرج لكنه يؤدي إلى مكافئة، حيث تعلّمت الفئران بسرعة اتخاذ ذلك المسلك.
بعد ذلك قام المختبرون بغلق ذلك المسلك. كيف للفئران أن تتصرف بعد هذه الخطوة؟
خمّن تولمان أنه لو كان للفئران خريطة ذهنية، سوف تختار مسلكاً آخر حيث يكون، حسب خريطتها الذهنية للمتاهة، متجهًا صوب المكافئة.
لكن إن كانت الفئران تتنقّل حسب الطريقة الثانية “التحفيز والاستجابة” فسوف تختار النفق الأقرب للنفق المغلق، ذلك بغض النظر عن اتجاهه، مادام هو أقرب إلى النفق المؤدي إلى المكافأة (المحفز).
الإعتماد على الأدلة؟
إختبر تولمان وفريقه فكرة الخريطة الذهنية بأكثر من تجربة، من بينها تجربة الأنفاق التي سبق شرحها، في تلك التجربة وجدوا أنّ أغلبية الفئران تأخذ المسلك ذو الإنحناء المتوجه نحو المكافأة عوضًا عن النفق المجاور للنفق المغلق الذي يؤدي الى المكافأة.
هذا الدليل دعم فكرة أنّ الفئران عندما تنتقل تعتمد في تنقلها على آلية تشبه ما يسمى بالخريطة الذهنية.
المجتمع العلمي؟
نشر تولمان العديد من الأوراق العلمية بخصوص هذا الموضوع في الدوريات العلمية من أجل شرح تجاربه وأدلته لعلماء النفس.
البحوث الجارية؟
يمثل هذا العمل جزءً بسيطًا من بنية أكبر من الأبحاث في مجال علم النفس والتي تهتم بدراسة آلية التعلّم واتّخاذ القرارات.
السلوك العلمي؟
تصرف إدوارد تولمان وفريقه بكل نزاهة علمية وتبنوا السلوك الذي يدفع العلم الى الأمام. فقد نقلوا بدقة نتائجهم كما سمحوا للآخرين بتجريب أفكارهم.
هل يعتبر هذا علمًا؟ وإن كان أقل نمطية من الإنشطار النووي، إلّا أنّ هذا البحث البسيكولوجي ينتمي فعليًا إلى مجال العلم.
ترجمة: نرجس دواق
تدقيق: بدر الفراك
المصدر الأول
المصدر الثاني
المصدر الثالث