سلسلة علم الأحياء الكمّية
الحلقة السادسة: التطور الكمي
علم ميكانيكا الكم فائق الحداثة هو حقيقة قديمة في الحياة، ما بيّنه لنا تحوّل الضفدع وهجرة طائر أبو الحناء وعملية البناء الضوئي في الحلقات السابقة هو أن التأثيرات الكمومية الحقيقية تحدث في الطبيعة طوال الوقت، لكن السؤال الأهم من ذلك كله هل فيزياء الكم تلعب أي دور في آلية التطوّر نفسها؟
وهل يمكن أن يكون هنالك نظرية كمّية للتطور؟
تشارلز داروين سحر العالم في نظريته التطورية بالانتخاب الطبيعي، وقام بتفسير التنوّع والاختلافات بين المخلوقات، لكن ما يثير الدهشة أن داروين نفسه لم يكن يعلم بوجود الحمض النووي DNA)) حيث تم اكتشافه عام 1953 من قبل جيمس واطسون (James Watson) وفرانسيس كريك (Francis Crick).
والآن بعد 150 عامًا لا يوجد شك بأن نظرية داروين تدخل في كل الأنظمة الحيوّية في البر والبحر.
التصميم الأنيق للحمض النووي DNA)) يتكون من اثنين من الجدائل الطويلة الملتفّة حول بعضها أشبه بالسلم اللولبي.
وتتكوّن الجديلة من أربع مواد كيميائية تدعى القواعد، كل من هذه القواعد تتضمن حلقات من الكربون مع تراكيب مختلفة من النيتروجين والأكسجين والهيدروجين.
إن ترتيب هذه الذرات يسمح للقواعد أن ترتبط مع بعضها البعض بشكل مميّز للغاية أشبه بقطع الأحجية الصورية المترابطة.
عندما يتم نسخ الحمض النووّي فإن آلية التكرار حريصة على دمج الصورة المثالية فقط.
الآلات الجزيئية التي تقوم بنسخ الحمض النووي DNA)) في الخلايا الحية هي آلات مذهلة حقًا بسرعتها ودقتها في الاقتران مع القواعد الصحيحة، حيث يقترن الغوانين (Guanine) حصرًا مع السايتوسين Cytosine))، والأدنين (Adenine) مع الثايمين Thymine)) في كل لولب مزدوج جديد.
تعمل هذه الآلات الجزيئية عن طريق إدراك شكل القاعدة الصحيحة لتركيب الأزواج، ونبذ الأشكال التي لا تتناسب معًا بشكل صحيح.
ولكن في كل 10 آلاف إلى 100 ألف عملية نسخ للقواعد تقوم هذه الآلات بعملية نسخ خاطئة والتي ستبقى خالدة في الجينيوم كطفرة إذا ما تمّ علاجها.
لعقود من الزمن تساءل الباحثون كيف تحدث هذه الأخطاء التي تبدو عشوائية، افترض البعض أن قواعد الحمض النووّي (DNA) يمكن أن تغيّر أشكالها وتتحوّل بشكل عابر إلى حالات بديلة لخداع آلات النسخ ودمج الأزواج الخاطئة في الحمض النووي (DNA)، لكن لم يلحظ أحد هذه الأجزاء الصغيرة المتغيرة الشكل أبدًا.
مؤخرًا، لاحظ باحثون من جامعة ديوك أن قواعد الحمض النووي (DNA) تقوم بتغييرات كمومية دقيقة جدًا عن طريق تحويل ذرة واحدة من مكان إلى آخر في جدائل الحمض النووي (DNA) أو ببساطة التخلص منها نهائيًا لتحاكي شكل قاعدة مختلفة مؤقتًا، هذه الاضطرابات الكمّية (Quantum jitters) نادرة جدًا وتظهر إلى حيز الوجود لجزء من الألف من الثانية عن طريق استغلال ظاهرة الأنفاق الكمومية Quantum Tunneling)).
تشير الدراسة إلى أن هذه الاضطرابات الكمومية تظهر بنفس الوتيرة التي تقوم فيها آلية نسخ الحمض النووي (DNA) بعمل الأخطاء، مما يجعلها أساس التغيّرات الجينية العشوائية التي تقود عملية التطوّر وظهور الأمراض كالسرطان.
يقول أستاذ الكيمياء الحيوية في جامعة ديوك هاشم محمد الهاشمي (Hashim M. Al-Hashimi): «هذه الأخطاء هي في الواقع هامة جدًا، لأننا لو لم نقم بها لما تطورنا وبالتالي ما كنا لنحظى بالحياة كما نعرفها الآن. ولكن إذا كان لدينا الكثير منها فإن الطفرات في جيناتنا تخرج عن نطاق السيطرة ولن نستطيع البقاء على قيد الحياة. يبدو أن هذه الاضطرابات الكمومية وُجِدت لضبط وتيرة هذه الطفرات العفوية إلى المستوى الملائم تمامًا».
يقول عالم الفيزياء النظرية النووية جيم الخليلي (Jim Al-Khalili) من جامعة سيري: «في الواقع، قصة الأحياء الكمومية هي مجرد بداية، وإذا كان هنالك من شيء قد تعلمناه من ميكانيكا الكم فهو أنه لا يمكننا أن نكون متأكدين إلى أين ستأخذنا الاكتشافات الجديدة فيما بعد».
إعداد: سرمد يحيى
تدقيق: دانه أبو فرحة
المصدر الأول
المصدر الثاني