سلسلة علم الأحياء الكميّة
الحلقة الأولى: في الحقيقة نحن لا نشم الروائح بل نصغي لها!
حاستنا الشميّة جديرة بالملاحظة وهي مختلفة كليًا عن حواسنا الأخرى كالبصر والسمع، من بين آلاف الروائح التي يمكننا تمييزها فإن العديد منها يمكن أن يحدث ذكريات وعواطف قوية، الأمر كما لو كانت حاستنا الشمّية متصلة مباشرةً بوعينا الداخلي. وهي كذلك مختلفة بطريقة أخرى، فالحواس الأخرى كالبصر والسمع تعتمد على استشعارنا للموجات: موجات الضوء والصوت، بينما حاستنا الشمّية تتضمّن استشعار جزيئات كيميائية.
مؤخرًا، بدأ العلماء بإدراك أنه عندما يتعلّق الأمر بحاسة الشم فإن شيئًا شديد الغموض يحدث!
بشكل أساسي فسّر العلماء آلية الشمّ على أن جزيئات الرائحة الموجودة في الهواء تحفّز عدة أنواع من المستقبلات في أنوفنا، والتي تثير الخلايا العصبية في الدماغ لتحليلها. حيث أعتقد العلماء سابقًا أن شكل وحجم الجزيئات يمكن أن يمنحها روائح مختلفة، إذ أن جزيء الرائحة له شكل معين يسمح له بأن يتلاءم مع جزيئات الاستقبال الموجودة في أنوفنا، فإذا كان الشكل متناسبًا فإنه سيتلاءم مع المستقبل مُطلِقًا ذلك الإحساس الفريد بالرائحة، وتسمّى هذه العملية بآلية القفل والمفتاح.
لكن آلية القفل والمفتاح كتفسير لكيفية قيامنا بالشمّ لا يمكن أن تكون هي القصة الكاملة، بسبب وجود بعض الجزيئات ذات الأشكال المتطابقة تقريبًا والتي لها روائح مختلفة تمامًا. يكمن هذا اللغز في عدم فهم ما يحدث قبل أن تتفاعل جزيئات الرائحة مع المستقبلات الأنفية.
لماذا تتفاعل المستقبلات بشكل مختلف مع جزيئات الرائحة من نفس الأشكال؟ ولماذا يبدو جزيئان مختلفان في الشكل بنفس الرائحة؟
وجد العلماء في مركز النانوتكنولوجي في جامعة لندن London Centre for Nanotechnology) (LCN)) أن الإلكترونات الموجودة في المستقبلات يمكن أن تُحفَز لشقّ نفق بين مستويات طاقة مختلفة، أن التردّد الخاص باهتزاز جزيئات الرائحة مطابق لفرق الطاقة بين هذه المستويات. قام فريق (LCN) باختبار صحة هذه النظرية التي تمّ اقتراحها لأول مرة عام 1996 من قبل عالم يدعى لوكا تورين Luca Turin)).
حيث وجدوا أن النموذج العام لنفق الإلكترون هذا يتفق مع قوانين الفيزياء وكذلك مع الميّزات المعروفة للشمّ.
نفق ميكانيكا الكمّ هي عملية كثيرًا ما يتمّ استغلالها في مجال التكنولوجيا، عندما يمرّ جسيم عبر حاجز بالرغم من كونه ممنوع بالنسبة للفيزياء الكلاسيكية، لكن هذا ممكن للجسيمات الصغيرة كالإلكترونات نظرًا لخصائصها شبه الموجية.
أن اهتزازات جزيء الرائحة يجعل الإلكترونات في مستقبلات الأنف تشقّ نفقًا بين مستويات الطاقة، وعندها يتمّ إرسال إشارات عصبية إلى الدماغ. يتمّ الكشف عن تردّدات الذبذبات المختلفة عن طريق مستقبلات مختلفة، لذلك بسبب كون العطور المختلفة لها تردّدات مختلفة؛ تبدو روائحها مختلفة. بالإضافة إلى آلية القفل والمفتاح فإن النظرية الجديدة تعتمد على كيفية اهتزاز أو تذبذب الجزيئات.
تخيّل أن الجزيئات أشبه بالكرات المهتزة على النوابض، والطريقة التي تهتزّ بها الجزيئات تعتمد على كتلة الكرات، نحن أيضًا بحاجة إلى ميكانيكا الكمّ لوصف مرور الإلكترونات عبر حواجز لا ينبغي أن تتجاوزها، إلا من خلال ظاهرة الأنفاق الكمومية.
يتم الجمع بين آلية القفل والمفتاح وظاهرة الأنفاق الكمية لوصف عملية الشمّ تحت نموذج يسمى swipe card)) الذي يقترح بأن الأنف يعمل بمثابة المطياف الإلكتروني.
يقول عالم الفيزياء النظرية النووية جيم الخليلي (Jim Al-Khalili) من جامعة سيري: «هذا يمنحنا طريقة جديدة تمامًا للتفكير بحاسة الشمّ، النظرية الكمومية الجديدة والغريبة عن الروائح تدور بشكل أساسي حول روابط مهتزّة، إن الجزيئات الكيميائية هي عزف الموسيقى بالنسبة لأنوفنا. تصوّر أن جزيء المستقبل الموجود بأنفي كآلة الغيتار خاصتي، فقبل أن تستطيع إصدار أي صوت يجب على جزيء الرائحة أن يدخل أنفي، وعندما يستقرّ جزيء الرائحة هذا في مكانه فإن روابطه الكيميائية تمنحنا أوتار الغيتار وتصبح جاهزة للعزف، لذا فإن حاستنا الشمية يمكن أن تكون مشابهة كثيرًا لحاستنا السمعية».
في عام 2013، أُجريت تجربة في هذا المجال باستبدال ذرات الهيدروجين مع الديتيريوم deuterium)) (تشبه ذرة الهيدروجين مع نيوترون إضافي) في جزيئة الرائحة، حيث أن كِلا الجزيئات لهما نفس الشكل ولكن كانت الاهتزازات مختلفة للغاية نظرًا لكون الديتيريوم أثقل بمرتين من الهيدروجين، لذا فإنه يتذبذب بشكل أبطأ، وهذا الفرق كان ملحوظًا في الرائحة الناتجة.
إذا كان الأمر كذلك، فإنه تبيّن أن الرائحة تستغل أهم ظاهرة في الفيزياء الكمية وهي الأنفاق الكمومية، ومن المثير للاهتمام أن أنفك يستخدم الفيزياء المعقّدة وهو في الواقع جهاز كمومي حساس للغاية.
تقول الدكتورة جينيفر بروكس (Jennifer Brookes): «التذبذب الثابت لجزيئات الرائحة هو تقريبًا مشابه لجسيم الصوت، لذا نستطيع القول أن عملية الشمّ يمكن أن تكون مطابقة تمامًا لعملية الرنين الصوتي ويمكن أن تكون مماثلة كثيرًا للسمع والرؤية».
إعداد: سرمد يحيى
تدقيق: دانه أبو فرحة
المصادر: