توطئة:
يمكن القول إن نظرية الكم هي نظرية عن الأنساق الذرية ودون الذرية، والتي تهتم بوصف حركات تلك الأنساق ومعرفة خصائصها المختلفة.
كما أن العقود الثلاثة الأول من القرن العشرين تمثل فترة بزوغها وتطورها. ولربما من المعتاد أن توضع في الاعتبار مشكلة إشعاع الجسم الأسود Black-body Radiation، وحل ماكس بلانك Max Planck) ) لتلك المشكلة، في 14 ديسمبر من عام 1900، عن طريق فرضيته بتكميم طاقة المادة Quantization of Energy of Matter، بوصفها بداية نظرية الكم، ولكنها في الحقيقة تعود إلى قرون سابقة عليها.
لذلك ومن أجل فهم حقيقي لنظرية الكم ومضامينها الفلسفية، وعلى وجه الخصوص تأويل مدرسة كوبنهاجن لنظرية الكم، فإنه من الضروري وصف معالم الأفكار التي سبقت فكرة تكميم الطاقة، والتي أدت إلى نظرية الكم، وإلى الدليل التجريبي الذي أيدها.
ومن هنا فإننا سوف نلقي نظرة تاريخية فاحصة على الفيزياء (الكلاسيكية) وفلسفتها، ونجاحاتها، وإخفاقاتها، باعتبار أن نظرية الكم قد وُلدت من رَحِم تلك الإخفاقات.
ما هي الفيزياء الكلاسيكية ؟
فى الحقيقة، إن مصطلح الفيزياء الكلاسيكية Classical physics عادة ما يُطلق لكي يُعبِّر عن النظريات الأساسية للعلم الفيزيائي، والتي استمرت ما يقرب من ثلاثة قرون تقريبًا، أي تلك النظريات الفيزيائية التي ظهرت في القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر، ذلك الاتجاه الذي بدأ بشكل جَدِّي مع جاليليو جاليلي Galileo Galilei -) و( إسحاق نيوتن Isaac Newton -) وآخرين.
ولقد بلغ ذروته باكتمال )الديناميكا التحليلية (Analytical Dynamics-، وظهور نظرية ماكسويل عن المجال الكهرومغناطيسي Maxwell’s Theory of the Electromagnetic Field) ) وبصريات )هيرتز ( Hertz بوصفها نتيجة لنظرية ماكسويل السابقة. كما يمكن أن يتضمن ذلك الاتجاه أيضًا، التأويل الإحصائي لبولتزمان ( (Boltzmann’s Statistical Interpretation للقانون الثاني للديناميكا الحرارية.
وبناءًا على ذلك، فيمكننا القول، أن الفيزياء الكلاسيكية إنما تشير إلى تلك القوانين الفيزيائية التي تعتبر قوانين كلاسيكية والمتضمنة في الميكانيكا الكلاسيكية، والتي تتضمن قوانين نيوتن الثلاثة عن الحركة بالإضافة لقانونه عن الجاذبية العامة.
كما تتضمن أيضًا: الصيغ والمعادلات الرياضية الإضافية والمكافئة لقوانين ومعادلات نيوتن والمتمثلة في صيغ ومعادلات (لاجرانج (Lagrang و(هاميلتون Hamilton- ).
كما تنتمي لنفس الفئة من القوانين الكلاسيكية، تلك القوانين التي وضعها (جيمس كلارك ماكسويل- James Clark Maxwell ) في معالجته لأسس الديناميكا الكهربية والمغناطيسية، وتلك القوانين المتضمنة في ميكانيكا الموائع Fluid mechanics، والديناميكا الحرارية Thermodynamics، والميكانيكا الإحصائية(2) Statistical Mechanics .
وبصفة عامة، فإن مصطلح الفيزياء (الكلاسيكية) إنما يُطلق لكى يُشير إلى تلك الأفرع من الفيزياء التي تقع خارج نطاق فيزياء الكم (3)؛ أي، تلك الأفرع التي تسود فيها القوانين الفيزيائية التي كانت موجودة قبل اكتشاف فيزياء الكم التي تسود فيها مفاهيم الحتمية Determinism والسببية الصارمة، واستقلالية الملاحظ عن العالم الخارجي.
ومن هنا، وبهذا المعنى، فإن مصطلح الفيزياء الكلاسيكية يمكنه أن يشير أيضًا، إلى القوانين المتضمنة في نظريتي النسبية الخاصة Special Relativity والنسبية العامة General Relativity لألبرت أنيشتينAlbert Einstein (1879– 1955)، بسبب أنهما تكونان معتمدتان أيضًا على مفاهيم وتصورات ما قبل فيزياء الكم (4).
وعلى الرغم من أن أينشتاين قد أسقط من نظريتيه الفرضيات الميتافيزيقية المُسبَّقة للفيزياء الكلاسيكية، مثل فرضيتيه الأثير، فإنه قد أبقى على عدد من الافتراضات المنهجية للفيزياء الكلاسيكية مثل الحتمية السببية الصارمة والقيم الموضوعية للكميات القابلة للقياس، وواقعية العالم الخارجي، واستقلاليته عن الملاحظ.
على أية حال، فإنه يمكن القول، أن الفيزياء الكلاسيكية قد بلغت ذروتها عندما أوشك العصر الفيكتوري Victorian Age (1837– 1901) على الانتهاء؛ حيث بدا أن الأفكار عن العالم الفيزيائي قد انقسمت إلى فئتين متعارضتين تمامًا؛ تلك الأفكار التي عن المادة والتي يعبر عنها بالجسيمات، وتلك التي عن الطاقة والتي يعبر عنها بدلالة الموجات.
أما بالنسبة للفئة الأولى من الأفكار فهي تلك التي وضعت في اعتبارها العالم بوصفه يتكون من جواهر مادية material substances والتي تتكون منها العناصر الكيميائية، وكل منهما يتكون من ذرات لها شكل مميز غير قابل للتغيير ومن هذه الذرات تتألف الجزيئات.
قام بصياغة هذه الأفكار أصلًا (جون دالتون-John Dalton) خلال العشر سنوات الأُولى من القرن التاسع عشر، أي في الفترة من عام 1800 وحتى عام 1810، حيث أوضح أن ذرات العنصر الواحد تمتلك كتلًا مميزة، والتي كانت ناجحة جداً في تفسير الاكتشافات الكيميائية العديدة.
ومن ثم، فإنه يرجع الفضل إليه في تحويل الذرية Atomism من نسق فلسفي ديمقريطي إلى نظرية موضعية عن الاتحاد الكيميائي.
أما الفئة الثانية من الأفكار، فهي تلك التي وضعت في اعتبارها العالم بوصفه يتكون من أنواع مختلفة من المجالات والإشعاع Fields and Radiation، والتي تتضمن الضوء والحرارة الإشعاعية والكهربية والمغناطيسية.
وكنتيجة لبحث ماكسويل فإن جميع هذه المجالات كان من الواضح أنها تنتقل في الفضاء على شكل موجات كهرومغناطيسية، والتي تختلف في تردداتها وأطوالها الموجية.
ومن هنا فإنه يمكننا القول، أن الفيزياء الكلاسيكية في مُجمَلها كانت قد كَرَّسَت ما يمكن أن يُعتَبر بوصفه (ثنائية) حادة بين الوصف الجسيمي للمادة، والوصف الموجي للضوء والإشعاع، فيما بدت بوصفها مُعضلات مَفاهيمية ومُلاحَظِيَّة مُستعصية على الحل ضمن إطار تلك الفيزياء، والتي استدعت بقوة دخول نموذجًا آخرًا للوصف والتفسير؛ أي، فيزياء جديدة ذات أطر مفاهيمية مختلفة والتي يمكنها حل تلك المفارقة، ولذلك فإننا سوف نقوم فيما يلي بتسليط ضوءٍ أكبر على تلك المفارقة.
- تأليف و إعداد: د.خالد زهرة
- تدقيق: أسمى شعبان
- تحرير: ناجية الأحمد