عند اشتداد فصل الشتاء، قد يحلم بعضنا بالالتجاء إلى كهف دافئ والإخلاد إلى النوم ريثما يحل فصل الربيع، تمامًا مثل الدببة. تتميز الدببة بقدرتها على تجنب قسوة الشتاء وندرة الغذاء بالنوم. إذ يمكنها العيش من خمسة إلى سبعة أشهر في حالة سبات. حيث لا تأكل أو تشرب أو تقضي حاجتها أو تتحرك تقريبًا. اللافت للنظر فعلًا أن تلك الفترة الطويلة من الخمول لا تسبب هشاشة العظام أو فقدان العضلات أو مشكلات قلبية أو جلطات دموية لدى الدببة، بخلاف ما سيحدث مع البشر في ظروف مماثلة.
ثمّة شيء ما في دماء الدببة السوداء يتيح لها الدخول في سبات مدة سبعة أشهر سنويًا، والحفاظ على صحتها مع ذلك. لم يتوصل العلماء إلى إجابة محدّدة، ولكن قد تقربنا الدراسات الأخيرة من حل هذا اللغز.
إذا حاول إنسان الدخول في سبات مدة طويلة مثل الدب الأسود، ستبدأ عضلاته بالضمور نتيجة انعدام النشاط البدني. عندما ينهي الدب سباته في بداية الربيع، يخرج من كهفه ليتمدد بجسم قوي ورشيق، أي أن جسمه احتفظ بقوته وكتلته العضلية منذ السنة الماضية، رغم قلّة حركته أو انعدامها كليًا، إذ لا يتحرك حتى للشرب أو الأكل أو قضاء الحاجة. حاول العلماء فهم ماهية هذه القوة الخارقة طوال سنوات.
في دراسة منشورة أجراها باحثون من جامعة آلبورغ في الدنمارك، بقيادة كارن ويلندر، بحث الفريق عن تفسير لقدرة الدببة البنية الإسكندنافية على الحفاظ على صحتها وتوفير طاقتها في أثناء السبات.
تقول ويلندر: «قد تلهمنا التكيفات المميزة للدببة مع السبات وترشدنا نحو طرق للوقاية من عواقب قلة الحركة لدى رواد الفضاء، والمرضى المقيمين في المستشفيات مدةً طويلة».
«يواجه الأشخاص العاجزون عن الحركة العديد من المشكلات، مثل فقدان كتلتهم العضلية والعظمية، والجلطات وتصلب الشرايين، والأمراض القلبية. يختلف الأمر لدى الدببة في حالة السبات. لذا قد يساعدنا فهم المرونة الفيزيولوجية المشفرة في جينوم الحيوانات على استنباط علاجات طبية وأساليب حياتية أكثر صحة».
لكشف سرّ قدرة الدببة على الاحتفاظ بصحتها خلال السبات، قررت ويلندر وزملاؤها مقارنة مستويات مكونات الدم بين الدببة البنية في حالة السبات، والدببة في حالة نشاط.
تؤدي الجزيئات التي تسري في مجرى الدم أدوارًا مهمة في المناعة الخلوية ونقل المغذيات والتواصل الخلوي. استعان الباحثون بمجموعة كبيرة من تقنيات الفحص لتحليل المركبات الجزيئية في دماء الدببة، من ضمنها تحليل البروتين الكمي القائم على قياس الطيف الكتلي، والتحليل الأيضي، وقياس خلايا الدم.
اكتشف الفريق أن سر قدرة الدببة على الاحتفاظ بصحتها خلال السبات يكمن في توفيرها للطاقة المستخدمة في تصنيع البروتينات، إذ تكبح أجسامها المسارات الأيضية المعقدة التي تتضمن العديد من البروتينات، وتستبدل بها المسارات التي تتضمن عددًا قليلًا من البروتينات، التي تتميز بانخفاض مستوى تخصصها واتساع نطاق وظائفها.
بفضل الانتقال من المسارات المعقدة إلى البسيطة، يصبح بإمكان الدببة الحفاظ على العمليات الجزيئية الضرورية للنجاة خلال فترة السبات بقدر أقل من الطاقة.
وجد الفريق أنه رغم انخفاض مستويات أكثر البروتينات في أثناء السبات، فإن تركيزها الإجمالي ارتفع بسبب الجفاف. وارتفع مستوى ألبومين المصل، ما أتاح للدببة فرصة توفير الطاقة عوضًا عن استهلاكها في تصنيع البروتينات، بهدف الحفاظ على المستويات الضرورية منها.
كُبحت تفاعلات تحلل البروتينات نتيجةً لانخفاض درجة حرارة الجسم 6 درجات مئوية، وزيادة إنتاج البروتين ألفا- 2 ماكروغلوبيولين، وهو مثبط غير متخصص للبروتيازات -إنزيمات محللة للبروتينات- ما عزز ادخار الطاقة، نظرًا إلى الاستغناء عن تفاعلات تصنيع البروتينات المكلفة، بفضل انخفاض تفاعلات تحللها.
رغم انخفاض إنتاج البروتينات لدى الدببة عمومًا، لاحظ الباحثون ارتفاع مستويات بروتينات محددة ارتفاعًا ملحوظًا في أثناء السبات.
من هذه البروتينات إنزيم الليبيز، الذي يُفعَّل بالأملاح الصفراوية ويحلل الدهون الثلاثية وإسترات الكولسترول. وجد الباحثون أنه ارتفع 32 ضعفًا خلال السبات، ما يتيح للدببة استخلاص الطاقة بكفاءة من مخزون الدهون.
أما عن عوامل التجلط، فلم ترتفع سوى مستويات عوامل التجلط الأساسية الثلاثة في أثناء السبات: الفيبرينوجين والثرومبين والعامل العاشر أ. إذ تعمل هذه العوامل معًا لتسريع شفاء الجروح، ولا تكوّن سوى جلطات محدودة عند اللزوم.
اتضح أن الاستجابة المناعية أصبحت مبسطة، ومعتمدة فقط على بعض البروتينات المضادة للميكروبات مثل الليسوزيم، أحد الخطوط الدفاعية للمناعة الفطرية ضد العدوى.
ارتفع مستوى بروتين الغلوبيولين المرتبط بالهرمونات الجنسية 45 ضعفًا خلال السبات، ما يشير إلى أن هذا الجزيء يؤدي دورًا رئيسيًا في استمرار السبات. تقول ويلندر أن آلية عمل هذا البروتين في السبات ما زالت لغزًا.
في دراسة أخرى أجراها باحثون من جامعة هيروشيما في اليابان، أشار الباحثون إلى أن للأملاح الذائبة في دماء الدببة أهمية كبرى، قد تساعدنا في الوقاية من ضمور العضلات لدى البشر.
قد تبدو هذه الفكرة غير واقعية، لكن الباحثين سحبوا أمصال دماء سبع دببة في حالة سبات، وأضافوها مباشرةً إلى أنسجة مزروعة من خلايا عضلية هيكلية بشرية، ولاحظوا أنها عززت إجمالي البروتينات في الخلايا خلال 24 ساعة.
تزامن ذلك مع انخفاض إنتاج بروتين تنظيمي، يؤدي دورًا مهمًا في ضمور العضلات غير المُستخدمة.
لم تحدث هذه التغيرات الخلوية إلا بعد إضافة الدماء المستخلصة من الدببة في حالة السبات، إذ كرر الباحثون تجربتهم مع دماء الدببة النشطة في فصل الصيف، ولاحظوا أن أمصالها لم توقف العملية الطبيعية لتحلل البروتينات في خلايا العضلات الهيكلية البشرية.
يقول عالم الفيزيولوجيا ميتسونوري ميازاكي من جامعة هيروشيما: «أشرنا إلى وجود عامل معين في أمصال الدببة في حالة السبات، قد يكون مسؤولًا عن ضبط أيض البروتينات في خلايا العضلات الهيكلية البشرية المزروعة في المختبر، ومن ثم يساهم في الحفاظ على الكتلة العضلية، غير أننا لم نتمكن من تحديد هذا العامل».
أُجريَت دراسات مماثلة على أمصال الدببة السوداء سابقًا، لكن لم يتمكن أي منها من تحديد العامل المسؤول عن ميزة السبات. مثلًا، وجد باحثو جامعة آلبورغ أن أمصال الدببة الساكنة تقلل من تحلل البروتينات في النسيج العضلي لدى البشر، وقد لوحظت التأثيرات ذاتها في النسيج العضلي الهيكلي لدى الجرذان.
هذا ما نعرفه عن الأمر حتى الآن، لكن ميازاكي مصمم على مواصلة البحث عن إجابات.
«بعد تحديد العامل المجهول في أمصال الدببة في حالة السبات، وتوضيح الآلية المسؤولة عن حماية العضلات من الضمور نتيجة الخمول عند الحيوانات التي تدخل في سبات، قد نستطيع تطوير استراتيجيات علاجية فعالة لدى البشر، ووقايتهم من فقدان الحركة كليًا في المستقبل».
اقرأ أيضًا:
وفقًا لدراسة جديدة، ربما دخل البشر الأوائل سباتًا خلال فصول الشتاء الطويلة
لماذا لا يمكن للبشر دخول وضع السبات في الفضاء؟
ترجمة: رحاب القاضي
تدقيق: منال توفيق الضللي