يغيب الإجماع عن البتّ في آليات التقييم النفسي، علمًا بوجود مناهج تحليلية وتقييمية عدة يشتمل بعضها على نموذج عناصر الشخصية الخمسة الكبرى الذي يتضمن الانفتاح للجديد والوعي والطباع الاجتماعية والقبول الاجتماعي والعصابية، في حين يشتمل نموذج هكساكو على عوامل ستة تتداخل مع النموذج السابق وهي: الصدق-التواضع والانفعالية والطباع الاجتماعية والقبول الاجتماعي والوعي والانفتاح للجديد.
تتصف بعض سمات الشخصية مع طابعها العام بكونها أكثر تعقيدًا، فهي تفضي إلى صعوبات في التنظيم الذاتي، واضطرابات العلاقات، وتعاطي المخدرات، والاضطرابات المرافقة، والأمراض العقلية، بينما يعزى إلى السمات الأخرى كل ما يحققه الشخص من نجاح على المستويين المهني والشخصي. لا ضرر من الجمع بين هاتين المجموعتين من السمات بحذر واعتدال، فكلاهما سيف ذو حدين إذا تطرفتا.
يرتبط الوعي والقبول الاجتماعي وعدم الاتسام بالعصابية بأداء وظيفي جيد وسطيًا (لكنها لا تخلو من الجوانب السلبية، إذ يعني ميلك لنيل القبول الاجتماعي غياب قدرتك على الحزم والجدية)، في حين يعني اتصافك بالانفتاح والطباع الاجتماعية ميلك نحو الخوض في تجارب وعلاقات جديدة.
يعد نموذج مايرز بريغز المرتكز إلى أسس يونغ نموذجًا مألوفًا آخر، يصف النموذج الشخصيات في 16 نوعًا تبعًا لمقاييس أربعة: الانطواء أو الانفتاح الاجتماعي، الإحساس أو الحدس، التفكير أو الشعور، الحكم أو الإدراك. إلى جانب نماذج عديدة أخرى مبتكرة ومتنوعة ترمي إلى تقييم النفس للارتقاء بالأداء، وترفد سعيها إلى الازدهار وتحفز مشاركاتها الفعالة.
تميل النماذج الشائعة إلى التركيز على نقاط القوة، وتأطير السمات المثيرة للمشكلات بإيجابية، أو تجنبها تمامًا.
من التكيف إلى سوء التكيف
تختلف ماهية الشخصية عن اضطرابات الشخصية التي ترتبط بخلل أو إعاقة متجذرة دائمة، وتتشعب تأثيراتها إلى ميادين ومضامير شتى (ميادين شخصية ومهنية واجتماعية)، وتفضي إلى معاناة لا تحتمل تؤدي إلى زيادة معدلات الوفاة وارتفاع حالات المرض، وتؤثر في نسبة تتراوح بين 6-10% من السكان. لا يُشخَّص اضطراب الشخصية إلا بجهود تحليلية وافرة.
من الجدير بالذكر أن دراسةً تاريخيةً نُشرت حديثًا تابعت أكثر من مليوني مراهق في الفترة الممتدة بين عامي 1967 و2011، وجدت زيادةً بلغت 1.5 ضعف في الوفيات بين الرجال الذين يعانون اضطرابات في الشخصية، في حين تجاوزت الزيادة الضعفين لدى النساء.
يأخذ الطب النفسي النماذج النفسية بعين الاعتبار عند مراجعة المعايير التشخيصية ونهج التشخيص. قُدِّم الدليل التشخيصي والإحصائي في نسخته الخامسة عام 2013 بعد عشر سنوات من تطويره، وقد وجه الحراك نحو تغيرات تشخيصية مثيرة للجدل في العديد من المجالات، متضمنةً الشخصية.
كان الدليل التشخيصي في إصداره الرابع يستخدم نموذجًا من ثلاث مجموعات لاضطرابات الشخصية، تتضمن المجموعة الأولى اضطراب الشخصية المرتابة والشخصية الفصامية والشخصية الهستيرية، وتتضمن المجموعة الثانية اضطراب الشخصية الحدية والشخصية النرجسية والشخصية المعادية للمجتمع واضطراب الشخصية التمثيلي، أما المجموعة الثالثة فتتضمن اضطراب الشخصية التجنبية والشخصية الاعتمادية واضطراب الشخصية الوسواسية. ومع فصلها في مجموعات ثلاث، فإنها تتشارك العديد من السمات.
حافظ الدليل التشخيصي للاضطرابات الذهنية في نسخته الخامسة على التصنيف التقليدي، في حين اعترف رسميًا بالحاجة إلى النظر مستقبلًا في تحديث النظام القائم على السمات الشخصية في التصنيف التشخيصي للاضطرابات الذهنية في النسخة الخامسة، التي قيست باستخدام 220 عنصرًا من أدوات التصنيف. يستند هذا النموذج الاستقصائي إلى النموذج البديل لاضطراب الشخصية الذي يصنف 25 سمةً ضمن خمسة عوامل أساسية: التأثير السلبي وانعدام المخالطة الاجتماعية وإزالة التثبيط والعداوة والذهان.
في نهاية المطاف لم يُعتمد النموذج الهجين المقترح، ولكنه كان سيحدد عددًا أقل من اضطرابات الشخصية، أو على وجه التحديد اضطراب الشخصية الحدية، والشخصية الوسواسية (التي تختلف عن اضطراب الوسواس القهري)، والشخصية التجنبية، والشخصية الفصامية، والشخصية المعادية للمجتمع، والشخصية النرجسية.
تستمر الأبحاث الإضافية في ضوء التوصية المتعلقة باستكشاف البنى البديلة، إذ وجدت إحدى الدراسات على سبيل المثال أن نهج الإدارة المتكاملة البديل ليس أفضل ولا أسوأ من النموذج التقليدي ثلاثي المجموعات بوصفه مقياسًا صالحًا، في حين وجد كويلتي وزملاؤه أن نهج الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية الخامس صالح ومترابط جيدًا مع تصنيفات المختصين، وهو عمل قيد التقدم.
سبر أغوار الشخصية المرضية
اتخذ غوتييريز وزملاؤه اتجاهًا مختلفًا، إذ قارنا بين قائمة الجرد الشخصية للدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية الخامس والتقييم البُعدي لاستبيان الأمراض الشخصية الأساسي، الذي يعد أداةً تتألف من 290 عنصرًا تحقق المختصون من صحتها، تغطي 18 عاملاً فرعيًا يتألف كل منها من أربعة عوامل رئيسة: الاضطراب العاطفي، وإزالة التثبيط، والسلوك غير الاجتماعي، والسلوك القهري.
حدد فريق البحث عينةً من 414 مريضًا خارجيًا من وحدة معالجة اضطراب الشخصية، وقد استوفى 65.2% منهم معايير المرض النفسي مثل تقلبات المزاج أو التوتر المرضي، والصدمات النفسية والاضطرابات المرتبطة بالإجهاد، واضطرابات الطعام وتعاطي المخدرات وغيرها. حلل المختصون البيانات من قائمة الجرد الشخصية للدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية الخامس والتقييم البُعدي لاستبيان الأمراض الشخصية الأساسي باستخدام نمذجة العوامل الهرمية للنظر إلى الصورة الكبيرة للشخصية المرضية وجوانبها التفصيلية.
النتائج
وجد العلماء تداخلًا كبيرًا بين قائمة الجرد الشخصية للدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية الخامس والتقييم البُعدي لاستبيان الأمراض الشخصية الأساسي، مع وجود بعض الفروقات الملحوظة. على سبيل المثال، برزت القهرية في نماذج التقييم البُعدي لاستبيان الأمراض الشخصية الأساسي بينما برز الاعتلال النفسي في نماذج قائمة الجرد الشخصية للدليل التشخيصي والإحصائي.
على المستوى العام، يوجد نوعان رئيسان من أمراض الشخصية: الاستيعاب الداخلي للذات، مثل الاكتئاب وحبس المشاعر والانسحاب وغيرها، والاستيعاب الخارجي الذي يتصل بالآخرين والعالم مثل نوبات الغضب والتصرف المتهور والتصرف من دون تفكير وما إلى ذلك.
أفضى التحليل الهرمي إلى الآتي: إضفاء المزيد من التمايز على الاستيعاب الداخلي في القهرية والانفصال والتأثير السلبي. ثم ينقسم التبرير بوجود عوامل خارجية إلى العداوة والإذعان. تتداخل عوامل الذهان وإزالة التثبيط التي تنتمي إلى الاستيعاب الداخلي والخارجي على حد سواء، وتتحول إلى عوامل متمايزة: إزالة التثبيط والذهان.
بجميع الأحوال، فإن القسم الأعظم من أمراض الشخصية التي انعكست في هذه التدابير يمكن حصرها في سبعة عناصر أساسية:
- القهرية.
- الانفصال.
- التأثير السلبي.
- الذهان.
- إزالة التثبيط.
- العداوة.
- الإذعان.
تشكل هذه العوامل -بتركيبات مختلفة- صلب اضطرابات الشخصية المختلفة مع وجود تداخل بينها، وتجتمع لتحديد فئات التشخيص المختلفة.
الآثار المترتبة على ذلك
قد تكون الأساليب القائمة على الصفة الوراثية في علم الأمراض الشخصية معادلة إحصائيًا للأساليب التقليدية، إلا أن القدرة على تمييز لبنات البناء الأساسية قيمة للغاية. يساعدنا فهم الشخصية على فهم سلوك الآخرين، إضافةً إلى سلوكنا، ما يعد مفيدًا لنا فرديًا لبناء وعي ذاتي صريح. ومن ناحية المفهوم، يجد العديد من الناس التشخيص التقليدي نافعًا في الإقرار بالحاجة إلى إيجاد العلاج المناسب، في حين يرى البعض أن الوصمة الاجتماعية المحتملة التي تعقب التشخيص والإصابة باضطراب الشخصية تشكل حاجزًا كبيرًا يحول دون السعي وراء الحصول على الرعاية الطبية، لكن التوصيفات الدقيقة تسهّل التعامل مع القضايا الشائكة.
أما في الرعاية السريرية، فإن القدرة على قياس التغيرات وتتبعها في المحركات الأساسية للشخصية تحدد الأهداف المرجوة التي تتجاوز حدود النماذج المحددة.
غالبًا ما تكون المناهج الحالية لمعالجة اضطراب الشخصية، مثل العلاج السلوكي الجدلي الموجه لعلاج اضطراب الشخصية الحدية، فعالة. ولكن علاج الأمراض الشخصية عمومًا هو التحدي العلاجي الأكبر. يتناول العلاج السلوكي الجدلي الأدوات الملموسة متضمنةً اليقظة، وتحمل الضيق وتقبله، والتنظيم العاطفي، والتدريب على المهارات الشخصية. بوسعنا أن نفهم هذه العوامل خلال مهمة التركيز على نقاط ضمنية أساسية مثل التأثير السلبي وإزالة التثبيط والعداوة، فضلاً عن تناول المحتوى الكلي.
يقدم الأطباء السريريون المزيد من التخصيص والتعاطف للجهود العلاجية بواسطة إشراك المرضى والتعاون معهم، ومقابلة الأشخاص أينما كانوا. يشمل ذلك تحديد السمات الأساسية واستخدام الوعي الذاتي الانعكاسي لتأسيس الحوافز والمرونة وصحة التمثيل في رحلة العمل نحو نهج متكامل لتغيير الشخصية.
تساهم الصدمات والإهمال في اضطرابات الشخصية غالبًا، ما يزيد احتمال الإصابة بمرض جسدي أو عقلي، الأمر الذي يؤكد أهمية الرعاية الإنسانية التي تتمحور حول الفرد بحد ذاته. البحوث مستمرة لتحديد صلاحية المناهج البُعدية تجاه تحليل الشخصية وفهمها، والأساليب الجديدة الأخرى بوصفها معيارًا تشخيصيًا.
اقرأ أيضًا:
ما الذي يكمن في الجانب المظلم من النفس البشرية؟
النماذج الديناميكية النفسية الأساسية
ترجمة: بشرى عيسى
تدقيق: راما الهريسي
مراجعة: تسنيم المنجد