تملأ العناقيد المجريّة الكون، وهي هياكل ضخمة مكدسة عند تقاطعات الشبكة الكونية. يمتد العنقود المجرّي الواحد على مسافة ملايين السنين الضوئية، ويحوي داخله مئات المجرّات وحتى آلاف منها.
لكن يُشّكل حجم تلك المجرات نسبةً مئويةً بسيطةً من كتلة العنقود بكامله، إذ تشغل المادة المظلمة %80 من كتلة العنقود، أما الباقي “حساء” بلازما شديد الحرارة؛ أي غاز تصل حرارته إلى ما يزيد عن ℃10,000,000، وتتداخل مع تلك الغازات حقولٌ مغناطيسية ضعيفة.
تمكّن الفريق الدولي من تحديد مجموعة من الأجسام الراديوية النادرة تتضمن: بقايا الراديو، وهالة الراديو وانبعاث الراديو الأحفوري؛ كلّ ذلك ضمن عنقود مجري حيوي يسمى أبل 3266 – Abell 3266. تُعد هذه الاكتشافات بمثابة تحدٍّ لجميع النظريات الموضوعة حول أصل هكذا أجسام والخصائص التي تحملها.
البقايا والهالات والأحفوريات:
تُتيح لنا العناقيد المجريّة الفرصة لدراسة ظواهر مهمة ومتنوعة؛ مثل المغناطيسية وفيزياء البلازما، ضمن بيئات لا يمكننا تقليدها في مختبرٍ عادي.
يؤدّي تصادم العناقيد المجرية مع بعضها إلى إطلاق كميات هائلة من الطاقة؛ التي تتوضّع ضمن جسيمات البلازما الحارة، وتنتج عن ذلك الانبعاثات الراديوية؛ التي تأخذ أشكالًا مختلفة وأحجامًا متعددة.
تُعد “البقايا الراديوية” إحدى تلك الانبعاثات؛ إذ تُشبه شكلها المنحني، وتوجد على أطراف العنقود المجرّي، تشحنها الموجات الصادمة التي تنقلها البلازما التي تتسبب في زيادة الكثافة أو الضغط، ما يؤدي إلى تنشيط جسيمات البقايا الراديوية.
نذكر مثالًا عن الموجة الصادمة: الاضطراب الجويّ الذي يحدث عندما تقوم طائرة بخرق حاجز الصوت.
تُعرف “الهالات الراديوية” على أنها مصادر راديوية نادرة تقع منتصف العنقود المجري، تشحنها الاضطرابات الناتجة عن البلازما الحارة؛ التي تزوّد الجسيمات بالطاقة.
نعلم أن الهالات الراديوية، والبقايا كذلك تتشكّل نتيجة تصادم العناقيد المجرية ببعضها، لكن تبقى هنالك الكثير من التفاصيل الغامضة عن طبيعتها.
لدينا أخيرًا مصادر الطاقة الراديوية الأحفورية؛ تلك البقايا التي تنتج بعد موت ثقب أسود عملاق في مركز المجرة الراديوية.
تقذف الثقوب السوداء خلال دورة حياتها ما يُشبه نفاثات من البلازما خارج نطاق المجرّة القابعة ضمنها. ومع نفاد طاقة هذه النفاثات، تنهار وتبدأ بالتبدد. نُسمّي بقايا نفاثات البلازما هذه بالأحفوريات الراديوية.
العنقود المجري أبل 3266 – Abell 3266:
يحوي البحث الذي نشرناه في مجلة الإشعارات الشهرية للجمعية الفلكية الملكية، دراسةً تفصيلية للعنقود المجرّي المسمى أبل 3266.
يتميّز هذا النظام المجري بالحيوية والفوضى، ويبعد قرابة 800 مليون سنة ضوئية عنا. تجتمع فيه جميع العلامات التي تؤكد وجود البقايا الراديوية والهالات، لكن لم تُكتشف أيّ منها إلّا مؤخرًا.
تمكنّا من رؤية تفاصيل العنقود أبل 3266 على نحوٍ أفضل، بعد متابعة العمل الذي بدأناه هذا العام باستخدام تلسكوب Murchison Widefield Array، وأضفنا إلى ذلك بيانات جديدة جمعها تلسكوب ASKAP الراديوي ASKAP Radio Telescope، وتلسكوب مصفوفة أستراليا المدمج Australia Telescope Compact Array) ATCA).
تكشف لنا البيانات صورةً معقدةً، إذ يمكن الاطّلاع على ما تحويه هذه المجرة بالنظر إلى الصورة الرئيسية: إذ تُظهر الألوان الصفراء الأماكن المميّزة؛ التي تنشط فيها الطاقة. ويُعبّر الغبار الأزرق عن البلازما الحارّة الحبيسة ضمن أطوال أمواج الأشعة السينية.
تُظهر الألوان الحمراء خصائصَ مرئيّةً فقط في التردّدات الموجيّة المنخفضة؛ ذلك يوضّح أن هذه الأجسام أقدم وتحمل قدرًا أقلّ من الطاقة. على الأرجح أنها خسرت الطاقة مع مرور الوقت، أو كانت الطاقة فيها شبه معدومة من الأساس.
تظهر البقايا الراديوية في أسفل الصورة عند الألوان الحمراء. تكشف البيانات هنا عن خصائصَ معينةً للبقايا الراديوية لم نرَها من قبل.
في الأعلى: نرى البقايا “المقلوبة” في مجرّة Abell 3266 وتُمثّل الألوان (الأحمر/الأصفر/البرتقالي) شدّة إضاءة الجسم الراديوي.
تتميّز هذه البقايا بشكلها المقعّر غيرِ المألوف؛ ما جعل العلماء يُلقبونها بالبقايا “المقلوبة”. عمومًا تُحطّم هذه البيانات الجديدة كل معلومةٍ سابقةٍ لدينا عن طبيعة تشكّل البقايا الراديوية. وما زال العمل مستمرًا لفك شيفرة الفيزياء المعقّدة؛ القابعة وراء تلك الأجسامِ الراديوية.
بقايا قديمة مصدرها ثقبٌ أسودٌ عملاق:
يكون لون الأحفورة الراديوية الظاهرة في أعلى اليمين من الصورة الأساسية أحمر وخافت الإضاءةِ، ما يدلّ على قدمه. نعتقدُ أن مصدر هذا الانبعاث الراديوي هو في الأصل من المجرة الظاهرة في أسفل يسار الصورة؛ من داخل ثقب أسود مات منذ زمنٍ بعيدٍ.
في الأعلى: هنا صورةٌ أخرى للأحفورة الراديوية الموجودة في Abell 3266. تمثّل الألوان الحمراء والخطوط شدّة السطوع الراديوي، التي قاسها تلسكوب ASKAP، وتُمثل الألوان الزرقاء البلازما الحارة. يُشير السهم الريشي إلى المجرة التي يُعتقد أنها كانت مصدر طاقة الأحفورة.
تعجز أفضل النماذج الفيزيائية المتوفرة على مطابقة البيانات. وتكشف تلك المشكلة عن وجود ثغرةٍ في فهمنا لكيفية تطوّر مصادر الطاقة الراديوية؛ ثغرةٌ نعمل على ملئها.
أخيرًا ، باستخدام خوارزمية ذكية، استطعنا إلغاء تركيز الصورة الرئيسية، للبحث عن انبعاثٍ خافت جدًا؛ غيرِ مرئي بالدقّة العالية، كاشفين بذلك أوّل ظهورٍ لهالةٍ راديوية في مجرّة Abell 3266 (انظر في الأسفل).
في الأعلى: هنا صورة أخرى للأحفورة الراديوية الموجودة في Abell 3266. توضّح الألوان الحمراء والخطوط شدة السطوع الراديوي التي قاسها تلسكوب ASKAP، وتُمثل الألوان الزرقاء البلازما الحارة، بينما يُحدّد المنحني النقطي ريشيُّ اللّون الحدودَ الخارجية للهالة الراديوية.
المستقبل
يُمثّل هذا الاكتشاف الخطوة الأولى نحو فهم العنقود المجري أبل 3266 – Abell 3266، إذ اكتشفنا كمًّا هائلًا من المعلومات القيّمة والمهمّة، لكن في الوقت ذاته أدّت هذه الدراسة إلى طرح تساؤلاتٍ جديدةٍ.
تُساهم التلسكوبات الفلكية التي نستخدمها ببناء أساس لعلمٍ جديدٍ، مصدره مشروع مصفوفة الكيلومتر Kilometer Array Project. تسمح مثل هذه الدراسات لعلماء الفلك بالبحث عن المجهول والتأكد من إمكانية اكتشاف كل جديدٍ عاجلًا أم آجلًا.
اقرأ أيضًا:
التقاط إشارة راديوية غريبة من الفضاء قد تكون بوابة نحو دراسة أجرام نجمية جديدة
اكتشاف جديد يسمح للعلماء بتتبع التدفقات الراديوية السريعة
ترجمة: طاهر قوجة
تدقيق: منال توفيق الضللي