لأول مرة، رصد علماء الفلك وميض ضوء ناتج عن اصطدام ثقبين أسودين ؛ فقد اصطدمت الأجسام على بعد 7.5 مليار سنة ضوئية، في دوامة ساخنة من المادة تدور حول ثقب أسود عملاق، تعرف هذه المادة المتوهجة بقرص التنامي، يتشكل قرص التنامي من المواد التي تدور حول الثقب الأسود بالقرب من أفق الحدث؛ النقطة التي تكون الجاذبية بعدها قوية لدرجة أن الضوء لا يستطيع الإفلات منها. لذلك لا يستطيع العلماء رؤية تصادم الثقوب السوداء؛ ففي غياب الضوء لا يمكنهم رصد هذه الظاهرة إلا من طريق قياس الموجات الثقالية ، وهي تموجات تحدث في نسيج الزمكان عند تصادم الأجسام العملاقة.
أول من توقع حدوث هذه الظاهرة هو العالم ألبرت أينشتاين، لكنه لم يتوقع أننا سنستطيع رصد الموجات الثقالية، لأنها تبدو أضعف من أن تصل إلى الأرض وسط كل الضوضاء والاهتزازات.
بدت توقعات أينشتاين صحيحة مدة 100 عام، لكن في عام 2015 رصد زوج من الآلات -في العاصمة الأمريكية واشنطن وولاية لويزيانا- أول موجة ثقالية ناتجة عن اصطدام ثقبين أسودين يبعدان عن الأرض 1.3 مليار سنة ضوئية.
فتح هذا الاكتشاف العظيم العديد من أبواب علم الفيزياء الفلكية، وتسبب في تأسيس مشروع عُرف بمرصد الليزر لقياس التداخل في الموجات الثقالية «ليغو»، وقد نال الباحثون في هذا المشروع جائزة نوبل في الفيزياء.
طابق العلماء ظاهرة تصادم الثقب الأسود التي رصدها ليغو مع انبثاق الضوء من المنطقة نفسها لأول مرة في التاريخ، وقد كان يبدو هذا الأمر مستحيلًا لأن الثقوب السوداء لا تُصدر أي ضوء.
يظن الباحثون أن قوة الاصطدام أدت إلى دفع الثقب الأسود الجديد -الناتج عن تصادم الثقبين- ليتحرك بين غازات قرص التنامي حول الثقب الأسود الأكبر.
قال المسؤول عن رصد ذلك الضوء، عالم الفضاء باري مكيرنان من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا في بيان صحفي: «يبدو أن رد فعل غازات قرص التنامي على الثقب الأسود الذي مر عبرها بسرعة عالية جدًا أدى إلى إصدار ضوء شديد السطوع رصدناه بواسطة التلسكوبات».
يتوقع الباحثون أننا سنرصد انبعاثًا ضوئيًا آخر سيصدر عن الثقب الأسود نفسه في غضون سنوات قليلة، وستحدث هذه الظاهرة عند مروره بقرص التنامي مجددًا، نشر الباحثون نتائج بحثهم في مجلة Physical Review Letters.
أضافت البروفيسورة المساعدة مانسي كاسليوال من معهد كاليفورنيا للتقنية المسمى «كالتيك» والكاتبة المشاركة في الدراسة: «تنطوي الأهمية الكبيرة لاكتشاف هذه الشعلات الصادرة عن الثقوب السوداء على معرفة أصل هذه الثقوب، فإذا استطعنا رصد المزيد من الأضواء الصادرة عن الاصطدام فستساعدنا كثيرًا على الإجابة عن مسائل الفيزياء الفلكية وعلم الكونيات».
توهج مذهل تزامن مع الموجات الثقالية
رصد كل من ليغو -الذي يتكون من كاشفين لموجات الثقالة في الولايات المتحدة- ونظيره الأوربي فيرغو الاضطرابات في نسيج الزمكان في مايو عام 2019، وبعد أيام رصد مرصد بالومار في مدينة سان دييغو ضوءًا ساطعًا صدر عن منطقة الاضطراب نفسها.
عندما درس باحثو كالتيك اللقطات المؤرشفة لتلك المنطقة، لاحظوا أن الضوء الصادر الذي تلاشى ببطء على مدى أشهر يطابق ملاحظات مرصد ليغو؛ فقد تزامن مكان الاصطدام ووقته في الحالتين.
قال بروفيسور علم الفلك ماثيو غراهام في كالتيك والمؤلف الرئيس للدراسة في البيان الصحفي: «مر الثقب الأسود العملاق بمرحلة من الاضطرابات مدةً طويلةً قبل أن يُصدر الشعلات البراقة، وبالاعتماد على دراساتنا، نتوقع أن الضوء صدر عن اندماج الثقبين، مع ذلك لا يمكننا استبعاد الاحتمالات الأخرى تمامًا».
استبعد الباحثون أن تكون الانفجارات في قرص التنامي الخاص بالثقب الأسود العملاق هي سبب الضوء الصادر، لأن القرص كان هادئًا مدة 15 عامًا قبل ظهور هذه الشعلة البراقة.
قالت كاسليوال: «تمتلك الثقوب السوداء العملاقة شعلات ضوئيةً طوال الوقت، لكن توقيت هذه الشعلة وموقعها وحجمها كان مذهلًا».
كيف يكتشف ليغو اصطدام الثقوب السوداء ؟
يتكون ليغو ونظيره فيرغو من ذراعين بطول 4 كيلومترات. يطلق الراصد إشعاع ليزر ويقسمه نصفين، يمر كلا النصفين بأنبوبين متوازيين بطول 4 كيلومترات.
ترتد الإشعاعات عن المرايا حتى تلتقي مرةً أخرى بالقرب من فاصل الأشعة، وعندما تأتي مرحلة السكون، تعود الأشعة الضوئية بالطول نفسه وتترتب بطريقة تلغي أحدها الأخرى، لكن عندما تضرب الموجات الثقالية الأرض فإنها تشوه الزمكان، ما يجعل أحد الأنابيب أطول من الآخر، وتستمر عملية التمدد والانكماش حتى نهاية الموجة، وفي هذه الحالة، لا تصل موجات الضوء إلى حالة السكون التي تلغي أحدها الأخرى، بل على العكس تمامًا، وهنا يرصد الجهاز بعض الموجات الضوئية، وبهذه الطريقة يراقب الباحثون الموجات الثقالية التي تصل إلى الأرض ويرصدونها.
هكذا رُصِد تلاحم زوج من النجوم النيوترونية في أكتوبر عام 2017، وأيضًا رُصِد ابتلاع ثقب أسود لنجم نيوتروني في أغسطس عام 2019. وقد رصدت المراصد المختلفة ما يزيد عن 30 موجة ثقالية حتى الآن.
مرصد جديد لموجات الجاذبية سيساعد المزيد من التلسكوبات على اكتشاف تصادمات الفضاء العنيفة
يتوقع العلماء أننا سنستطيع رصد العديد من هذه الموجات بعد أن تبدأ المزيد من المراصد الفلكية بالعمل، مثل مرصد كاميوكا الياباني للكشف عن الموجات الثقالية (كاغرا).
عندما يتعاون كل من ليغو، وفيرغو، وكاغرا، فسنستطيع تحديد المزيد من الاصطدامات العنيفة في الفضاء بدقة أكبر ثلاث مرات، وهذا ما يسهل على التلسكوبات عملية الكشف عن الاصطدامات المسؤولة عن الموجات الثقالية والضوء الصادر عنها.
تتوقع عالمة الفيزياء الفلكية في جامعة نورث وسترن وليجو «فيكي كالوغيرا» أننا سنرصد 100 تصادم سنويًا بمساعدة أجهزة الرصد الجديدة.
سيتمكن العلماء من معرفة المزيد عن طبيعة عمليات الاندماج الضخمة، بعدما استطاعت التكنولوجيا رصد المزيد من الموجات الثقالية بدقة متزايدة.
اقرأ أيضًا:
نادرًا ما يتم رصد موجات الجاذبية في الغلاف الجوي للأرض
موجات الجاذبية – بماذا أفادنا اكتشاف أمواج الجاذبية ؟
ترجمة: زينب سعد
تدقيق: راما الهريسي