لا نستطيع الوصول إلى مركز الأرض ، لكن ذلك لم يمنع الإنسان من معرفة ما يوجد هناك. استطاع الإنسان على مر العصور أن يصل إلى العديد من الأماكن، مثل البحار والسماء ثم إلى الفضاء وسطح القمر، بل اخترق الخلايا فوصل إلى قلب نواتها (اللب) وتعرف على الزلازل وسبب حدوثها، رغم ذلك، لم يصل إلى مركز الأرض، ولم يقترب من ذلك حتى. تقع نواة الأرض على عمق 6000 كم، ويقع الغلاف الخارجي لها على عمق 3000 كم.
أعمق نقطة استطاع البشر بلوغها هي «بئر كولا» في روسيا، وعمقها 12.3 كم فقط! تحدث معظم العمليات الطبيعية المعروفة على مقربة من سطح الأرض؛ كالحمم البركانية التي تنصهر عند عمق بضعة كيلومترات أو الألماس الذي يحتاج ضغطًا مرتفعًا وحرارةً عاليةً، ومع ذلك فإنه يتكون عند عمق أقل من 500 كم.
– كيف درسنا واكتشفنا لب الأرض؟
يقول الباحث سايمون ريدفيرن: «إن أفضل طريقة للبدء، هي بمعرفة كتلة الأرض». يمكننا تقدير كتلة الأرض بملاحظة تأثير الجاذبية الأرضية على الأجسام الموجودة على سطح الأرض؛ من هنا وُجِد أن كتلة الأرض تساوي 5,9722 × 10 للأس 24، أي ما يقارب 6000 تريليون طن.
وُجد أن كثافة المواد على سطح الأرض أقل بكثير من متوسط كثافة الأرض كلها، ما يشير إلى وجود شيء كثافته أكبر يعطي للأرض هذا الوزن الهائل. الخطوة الثانية هي أن نسأل عن ماهية المواد الثقيلة التي تشكل لب الأرض.
يُعتقد أن الحديد يشكل نحو 80% من لب الأرض، يعطي هذا الحديد الأرض كتلتها الهائلة. ولعل أكبر دليل على ذلك، هو كمية الحديد الموجودة في الكون من حولنا.
يُعتقد أن وجود الحديد على سطح الأرض أقل مما نتوقع، نظرًا لتلك الكمية الهائلة من الحديد. يرجع ذلك إلى أن كميةً كبيرةً من الحديد شقت طريقها نحو لب الأرض عند تشكلها.
يُعد الحديد معدنًا كثيفًا نسبيًا تحت الظروف الطبيعية من الضغط والحرارة. تصبح كثافته أعلى بكثير تحت الضغط العالي والحرارة المرتفعة في لب الأرض؛ لذا فإن اللب الحديدي يعطي الأرض هذه الكتلة الهائلة.
إذًا، انتقل الحديد نحو لب الأرض؛ فكيف حدث هذا؟
تشكل السيليكات معظم الصخور الأرضية، يمر الحديد المنصهر من خلالها بصعوبة. لكن تغير خصائص الحديد مع السيليكات بفعل الضغط العالي، جعل عملية انتقال الحديد المنصهر عبر السيليكات أكثر سهولةً، وهو ما توصلت إليه ويندي ماو وزملاؤها من جامعة ستانفورد حين قاموا بتطبيق ضغط عالٍ جدًا على الحديد المنصهر والسيليكات مستخدمين الألماس؛ فمر الحديد من خلال السيليكات. قادنا هذا إلى أن الضغط العالي الموجود في لب الأرض هو ما سهل عملية انتقال الحديد المنصهر من خلال السيليكات إلى لب الأرض.
كيف عرف العلماء أن لب الأرض يبدأ عند 3000 كم تحت سطح الأرض؟
ساعد علم الزلازل في كشف هذه الحقيقة. نحن نعلم أن مراكز رصد الزلازل في العالم تسجل وصول الاهتزازات عند حدوث زلزال ما. في عام 1960، وقع زلزال تشيلي والذي نتج عنه العديد من المعطيات والبيانات، كان قويًا لدرجة أن جميع مراكز رصد الزلازل في الأرض سجلت وصول هزات منه.
إن المسار الذي تسلكه تلك الهزات يؤدي إلى مرورها بالعديد من أجزاء الأرض، يؤثر هذا على الطريقة التي تبدو بها الهزة عند وصولها إلى الطرف الثاني من مسارها. اكتُشف حديثًا في علم الزلازل أن هناك موجات تُفقد خلال تعقب مسارها، أُطلق عليها اسم «موجات-S».
تنشأ هذه الموجات في جانب واحد من الأرض ولا تظهر -كما هو متوقع- في الجانب الآخر. قادنا هذا إلى حقيقة أن الصخور تنصهر وتصبح سائلةً عند عمق 3000 كم، وكان السبب واضحًا، إذ تحتاج جميع الاهتزازات إلى وسط صلب تنتقل عبره، وحين فقدنا «موجات-S» عرفنا أنها مرت عبر شيء منصهر في اللب ولم تتمكن من عبوره.
وحين رُسم مخططًا لمسار «موجات-S»، اكتُشف أن الصخور تصبح سائلةً عند عمق 3000 كم. للوهلة الأولى، سيوحي هذا الاكتشاف إلينا بأن لب الأرض منصهر بالكامل، لكن وجدنا مفاجأةً أخرى بجعبة علم الزلازل. لاحظ العالم الدنماركي إنج ليمان في عام 1930 وجود نوع آخر من الموجات يُدعى «موجات-P» تمر عبر لب الأرض، وبشكل غير متوقع، يمكن الكشف عنها في الجانب الآخر من الأرض. وبسبب رحلتها الناجحة في المرور من اللب خرجنا بالنتائج التالية:
يتكون اللب من طبقتين:
1- اللب الداخلي: الذي يبدأ عند عمق 5000 كم، وهو صلب.
2- اللب الخارجي: الموجود فوق اللب الداخلي، وهو منصهر.
أُكدت فكرة إنج ليمان عام 1970 باستخدام أجهزة رصد الزلزال الأكثر دقةً وحساسيةً، والتي أكدت مرور «موجات-P» عبر اللب.
يدين علم الزلازل بالكثير من نجاحاته إلى تطور الأسلحة النووية. تؤدي الانفجارات النووية إلى خلق موجات في الأرض، لذا تجسست الدول على اختبارات الأسلحة النووية في الدول الأخرى مستفيدةً من علم الزلازل.
كان لهذا أهمية كبيرة في الحرب الباردة، فتلقى علماء الزلازل اهتمامًا وتشجيعًا خاصًا. تعرفت البلدان المتنافسة على القدرات النووية للبلدان الأخرى مستخدمةً علم الزلزال، وفي هذه الأثناء كان العلماء يكتشفون المزيد عن لب الأرض.
عرفنا إذًا أن للب الأرض طبقةً خارجيةً منصهرةً ولبًا داخليًا صلبًا قطره 1220 كم، لكن هل يمكننا معرفة حرارة هذا اللب الداخلي؟
كيف سنفعلها إذا كنا غير قادرين على وضع جهاز الترمومتر -جهاز لقياس الحرارة- في هذا اللب؟
تقول ليدونكا فوكادلو أن الحل الوحيد لمعرفة درجة حرارة اللب الداخلي هو أن نخلق الضغط المناسب في المختبر ونجري بحثنا. ظل لب الأرض دافئًا بفضل الحرارة التي احتفظ بها من تكوين الكوكب.
أعلن فريق من الباحثين الفرنسيين عن أفضل تقدير لدرجة حرارة الأرض عام 2013 عن طريق تعريض الحديد النقي لضغط قيمته أعلى قليلًا من نصف الضغط الموجود في الأرض، واستنتجوا أن درجة انصهار الحديد النقي هي 6230 درجةً مئويةً.
لكن بما أن لب الأرض مشوب -لا يحتوي على الحديد النقي فقط- فإن هذا سيؤدي إلى انخفاض درجة حرارة النواة إلى 6000 درجة مئوية. بالإضافة إلى الحرارة التي احتفظ بها لب الأرض أثناء تكوينه، فإنه يكتسب حرارةً إضافيةً من تحلل المواد المشعة ومن تغير كثافة المواد الموجودة فيه.
لكنه يبرد بمقدار 100 درجة مئوية كل مليار عام. تأتي أهمية معرفة درجة حرارة اللب من كونها تؤثر على سرعة انتشار الموجات في داخل اللب. وجد الباحثون شيئًا غريبًا ومهمًا، وهو أن «موجات-P» تنتقل عبر اللب الداخلي بشكل أبطأ مما لو كان اللب حديدًا نقيًا فقط.
تقول فوكادلو: «إن سرعة الموجات التي قيست في الزلازل وغيرها كانت -وبشكل واضح- أقل من سرعة أي شيء قيس في التجارب، ولم يُعرف السبب إلى الآن».
دفعنا هذا للتفكير في وجود مواد أخرى في اللب مثل «النيكل»، لكن قدر العلماء سرعة الموجات في حال انتقالها عبر سبيكة من الحديد والنيكل؛ ولم تطابق النتائج القراءات المسجلة من الأرض.
ولهذا تستمر فوكادلو وزملاؤها في البحث عن وجود عناصر أخرى، كالكبريت والسيليكون. تحاول فوكادلو أن تحاكي مواد اللب الداخلي على الحاسوب في محاولة منها لإيجاد مزيج يجمع بين المواد ودرجة الحرارة والضغط، إذ يمكن لهذا المزيج ثلاثي العناصر أن يبطئ الموجات الزلزالية بشكل مناسب وموافق لما قيس سابقًا من الأرض.
وأضافت أن السر ربما يكمن في حقيقة أن اللب الداخلي صلب، لكنه على مقربة شديدة من درجة الانصهار، بالتالي تتغير الخصائص الدقيقة للمواد عما هي عليه في الحالة الصلبة الطبيعية البعيدة عن درجات الحرارة العالية. يفسر هذا سبب المرور البطيء للموجات الزلزالية.
تقول فوكالدو: «إذا كان هذا هو التأثير الحقيقي لدرجات الحرارة المرتفعة على سرعة انتقال الاهتزازات، فسنكون قادرين على الربط بين نتائج الفيزياء المعدنية ونتائج علم الزلازل، وهذا ما لم يتمكن أحد من القيام به إلى الآن».
تولد الحركة المستمرة للحديد المنصهر تيارًا كهربائيًا داخل الكوكب؛ يولد هذا التيار بدوره مجالًا مغناطيسيًا يصل إلى الفضاء، تكمن أهمية هذا المجال المغناطيسي في كونه يحمي الأرض من الإشعاع الشمسي الضار.
لولا الطبيعة المنصهرة للب الأرض لما تولد هذا الحقل المغناطيسي، وبالتالي كنا سنواجه العديد من المشاكل. نحن لم نرَ لب الأرض بأم أعيننا؛ لكن يبقى وجوده فكرةً باعثةً على الاطمئنان؛ إنه الملاك الحارس للأرض.
اقرأ أيضًا:
للمرة الأولى، التأكد من أن نواة الأرض صلبة
ترجمة: سارة حسين
تدقيق: محمد سعد السيد