يبدو أن أول الأجنحة الحشرية التي ظهرت على كوكب الأرض تطورت من بقايا أرجل القشريات غير المحلقة، وفي وقتنا الحاضر يُطلق اسم حشرات البحر أحيانًا على السلطعون وجراد البحر والجمبري وجراد الماء العذب، وتعد التسمية منطقية لأنهم ينتمون إلى شعبة مفصليات الأرجل التي تتميز بهياكل جسدية قوية ومفاصل مجزأة.
يعتقد العلماء حاليًا أن أول مجموعة من الحشرات ظهرت قبل 480 مليون سنة تقريبًا، متطورةً من أنواع مختلفة من القشريات المائية. وعندما أصبحت النظم البيئية الأرضية أعقد بعد نحو 80 مليون سنة من ظهورها، سمحت لهم الأجنحة بالانطلاق إلى الجو. وإذا كان العلماء على صواب فذلك يعني أن الحشرات الأولى كانت تطير منذ وقت طويل سبق الطيور والخفافيش والتيروصورات، فمن أين استمدت تلك القدرة على الطيران؟
يشغل هذا السؤال البسيط ذهن الخبراء منذ قرون، تشير فرضية منذ 1916 إلى أن أجنحة الحشرات جاءت من عملية تطورية لم يسبقها مثيل، من براعم أنسجة عشوائية في أثناء التطور. يقترح رأي أحدث أنها نشأت من بنى موجودة ضمن مجموعات القشريات القديمة، متحولةً ببطء عبر الزمن إلى شيء أكثر نفعًا للعيش خارج الماء.
تُعد خياشيم تلك القشريات القديمة المرشح الأقرب ليكون أصل الأجنحة، لأنها تحتوي كلًا من المفاصل والعضلات، وحتى أنها تبدو أجنحةً صغيرة الحجم في المرحلة اليرقية لبعض القشريات. تقترح دراسات أحدث عن نسب قريب إلى حد ما من الحشرات الطائرة أن الأرجل أكثر ملاءمة لتكون أصل الأجنحة.
أظهرت دراسة تتعلق بتعطيل بضع جينات في شبيه الجمبري «باريال هاواينسيس» أن شبكة جينية مشابهة لتلك الموجودة لدى أجنحة الحشرات تؤثر في كل من هيكل القشريات الخارجي وجزء الساق الأقرب إلى جسمها، ما يقترح أن كلاهما تمكن بطريقة ما من الخروج من الجسم مشكلًا الأجنحة.
وصلت دراسة أخرى إلى نتيجة مقاربة بتعطيل بعض الجينات أيضًا، إذ قارن الباحثون كيف تصطف أجزاء الساق الستة لذبابة الفاكهة وبعض أنواع الحشرات الأخرى مع أجزاء الساق السبعة أو الثمانية الموجودة في باريال هاواينسيس.
الأجزاء الستة الأولى لأرجل القشريات من الأطراف وحتى الجسم طابقت بدقة الأجزاء الستة الأولى الموجودة بأرجل الحشرات. ما يطرح السؤال: أين ذهبت الأجزاء السابعة والثامنة للقشريات في الحشرات؟
عثر معدو الدراسة على إجابتهم في دراسة أخرى من عام 1983، التي أشارت إلى أن فصوص أرجل القشريات القريبة من الجسم اندمجت في جدار جسم الحشرة. ومنذ ذلك الحين، لوحظ في العديد من أجنة الحشرات أن الجزء الأقرب إلى الجسم من الأرجل يلتحم بجدار الجسم خلال عملية التطور.
صرحت عالمة الأحياء هيذر بروس من معهد وودز هول اوشن جرافيك:
«لم أصل بعد إلى الجزء الخاص بالأجنحة، فواصلت القراءة حتى صادفت تلك النظرية من الثمانينيات التي تشير إلى أن الحشرات لم تدمج أجزاء الساق القريبة بجدار جسمها فحسب، بل تصاعدت الفصوص الصغيرة بالأرجل لاحقًا إلى فوق الظهر وشكلت الأجنحة».
وجدت هيذر وزملاؤها أدلة تدعم تلك النظرية باستخدام بيانات جينومية وجنينية، إذ إن فصوص الأرجل الأقرب تندمج بجدار الجسم أولًا، ثم يصعد الجزء الأقرب إلى أعلى الظهر ليشكل لاحقًا الأجنحة.
كتب خبيران مستقلان في تقييم للدراستين:
«أدت منظورات جين الساق والجناح التكميلية إلى توافق تلك الفرق على إجابات عن عدة تساؤلات رئيسية حول عملية التحول بين القشريات والحشرات المجنحة، إذ اتفقوا على أن جدار الجسم الجانبي للحشرات متماثل مع جزء الساق الأقرب لدى باريال هاواينسيس، واتفقوا على أن الجناح يتضمن مكونات من جدار الجسم المشتق من أرجل القشريات».
ومع ذلك لا تتفق الدراستان على كل شيء، إذ تدعم الدراسة الأولى فرضية «الأصل المزدوج» التي تدعي أن أجزاء الأرجل الأقرب وجدار الجسم ساهما في عملية تطور الأجنحة، أو كما صاغها واضعو الدراسة: «تطور بواسطة اندماج نسيجين متمايزين».
في حين اقترحت الدراسة الثانية تحولًا تدريجيًا أعقد يتعلق بأجزاء الأرجل أساسًا. إذ اندمجت أولًا أجزاء الأرجل الأقرب بجدار جسم الحشرة، ثم اندفع أقرب جزء فقط من الساق إلى أعلى الظهر ليشكل الأجنحة.
الاختلاف بين الدراستين طفيف، واستكمال الأبحاث ضروري لمعرفة أيهما أصح، إن كانت إحداهما صحيحة أساسًا، لكن أوجه التشابه بين الدراستين توفر حلًا مقنعًا للسؤال المطروح عن تحديد أي من النظريات السابقة عن تطور أجنحة الحشرات صحيحة.
جادلت هيذر فترةً طويلة بأن أرجل أجداد القشريات تكونت سابقًا من ثمانية أجزاء، وأن أحدها اندمج في جدار جسم الحيوان القشري باريال هاواينسيس. أما في ذبابة الفاكهة، فقد اندمج أحد الأجزاء في جدار الجسم وآخر في الجناح لاحقًا.
يعطي ذلك جناح الحشرة مظهر الأصل المزدوج، إذ يندمج جدار الجسم والساق لتشكيل الأجنحة، تقول الدراسة إن هيكل جسم الحشرة مشتق في الواقع من جزء الساق الأقرب إلى لجسم، ختم المؤلفون:
«تُعد الأجنحة نتيجة لما هو الآن جدار جسم الحشرة، ويعود أصلها إلى أجزاء ساق أجداد القشريات».
تلك فكرة أنيقة تساعد على جمع الفرضيات المتناقضة معًا، لكنها في جميع الأحوال لا تمثل حلًا نهائيًا للغز، فقد توسعت معرفتنا عن تطور الحشرات كثيرًا في السنوات العشر الماضية. فقبل الأبحاث الجينومية لم تكن لدينا فكرة عن مدى قوة العلاقة بين القشريات والحشرات في العائلة المفصلية، ما جعلنا نظن أن أجنحة الحشرات ظهرت من العدم. أما الآن، فقد منحتنا الخياشيم ودروع جسم القشريات وأرجلها المجزأة أهدافًا صريحة للدراسة.
يقول باتل: «يتحمس الناس كثيرًا لفكرة أن شيئًا مثل أجنحة الحشرات يعد اكتشافًا جديدًا للتطور، لكن المقارنات الجينومية تكشف أنه لا يوجد شيء جديد تمامًا، كل شيء أتى من مكان ما. يمكنك في الواقع اكتشاف من أين». لكن الاتفاق على «من أين أتى» هي مسألة أخرى، وتختتم صحيفة نيتشر ريفيو:
«مع أن أصل أجنحة الحشرات يظل غامضًا، فإن أبحاث كلا الفريقين تكشف عن سبل شيقة ومتقدمة نحو حل هذا اللغز نهائيًا».
اقرأ أيضًا:
داروين على حق مرة أخرى: الرياح تجبر الحشرات على التخلي عن الطيران
ترجمة: سامية الشرقاوي
تدقيق: محمد حسان عجك