اكتشف العلماء أن ذاكرتنا قصيرة المدى مُعَدَّة كي تخدعنا عمدًا، وذلك لنتمكن من التعرف على ما نراه في العالم من حولنا بطريقة أفضل. يحدث الخداع عندما ننظر إلى شيء ما للمرة الثانية، إذ تُزيف أدمغتنا النظرة الثانية بطريقة ما لتتوافق مع النظرة الأولى، ما يجعلنا ندرك أن الشيء هو نفسه الذي رأيناه سابقًا، وإن تحرك من مكانه أو تغير بطريقة ما.
مثلًا عندما تريد عبور الطريق، فإنك تنظر يسارًا وترى سيارة ودراجة قادمتين، وتنظر يمينًا، ثم تنظر يسارًا مرةً أخرى فترى السيارة والدراجة من جديد وقد اختلف مكاناهما. قد يبدو الأمر بسيطًا، لكن الحقيقة هي أن عقلك يحتاج إلى ممارسة بعض التمارين العقلية حتى يدرك أن السيارة والدراجة هما نفس ما رأيت في المرة الأولى.
يقول عالم النفس كريستوف بليدوسكي من جامعة جوتة بألمانيا: «للوهلة الأولى قد يبدو أنه ليس أمرًا جيدًا، أن تعكس لنا ذاكرتنا قصيرة المدى شيئًا مختلفًا عما نراه فعليًا، لكن إن لم تكن تلك القدرة موجودة، فسوف نرى مشهدًا مروريًا جديدًا تمامًا عندما ننظر إلى اليسار مرةً أخرى. وسيكون الأمر مربكًا، إذ سيبدو الأمر كأن سيارةً ودراجةً جديدتين قد ظهرتا فجأةً من العدم».
ليس ذلك الاكتشاف بالأمر الجديد، لكن بليدوسكي وفريقه أضافوا أمورًا مهمة. إذ طلبوا من 109 مشارك أن يتتبعوا حركة بعض النقاط الحمراء والخضراء عبر شاشة، في 4 تجارب منفصلة.
تنوعت مواقع النقاط وسرعاتها عبر التجارب، وامتزجت أحيانًا وبقيت منفصلةً في أحيان أخرى. أظهرت النتائج أن ما رآه المشاركون في المرة الثانية كان متحيزًا لملاحظاتهم الأولى. قال بليدوسكي: «ليس كثيرًا، ولكن بطريقة منهجية».
توضح الدراسة أن ذاكرتنا قصيرة المدى تستخدم الإشارات المرتبطة باتجاه الحركة والألوان والأماكن لاستبعاد الأخطاء المُتعمدة، ويبدو أن تباعد الأشياء والترتيب الذي تظهر به مهمان خاصةً.
تقول كورا فيتشر من جامعة جوتة: «تساعدنا المعلومات السياقية على التمييز بين الأشياء المختلفة، ومن ثم تساعدنا على دمج المعلومات الخاصة بالشيء نفسه على مدار الوقت».
ورجوعًا إلى مثال عبور الطريق، أظهرت الدراسات أيضًا أن ذاكرتنا قصيرة المدى قادرة على معالجة تصوراتها عن الجسمين على نحو منفصل، اعتمادًا على مكان كل منهما، لا على ارتباط أحدهما بالآخر.
ما زال أمام العلماء الكثير من الأمور لاستكشافها، مثل استنتاج كيف تخزن ذاكرتنا العاملة ما رأيناه حديثًا، وتمكننا من التعرف عليه مرةً أخرى، وإن تغيَّر بطريقة ما. مثلًا أظهرت دراسات سابقة أن أدمغتنا تمارس خدعةً مماثلةً مع الوجوه.
يجب ألا تكون فكرة خداع أدمغتنا مفاجأةً لنا، فنحن خبراء في ابتداع ذكريات زائفة، ونسيان التجارب المؤلمة، وتحديد ما نتذكره بالمقام الأول. في هذه الحالة، تساعدنا الذكريات الزائفة على الاستمرار في الحياة.
يقول بليدوسكي: «إن (التضليل) البسيط لفهمنا وتصورنا للأشياء بواسطة الذاكرة يقودنا في النهاية إلى تصور استقرار البيئة من حولنا، رغم تغيرها في الواقع باستمرار نتيجةً لتغيرات الضوء والحركة».
اقرأ أيضًا:
الذاكرة: كيف تتشكل الذكريات في الدماغ
فقدان الذاكرة: الأسباب والأعراض والتشخيص والعلاج والوقاية
ترجمة: ريهاند علي حسن
تدقيق: حسام التهامي
مراجعة: أكرم محيي الدين