يُعَد التسمم الغذائي تجربةً مروعة لا تُنسى، إذ لا تحرص الديدان الأسطوانية المجهرية المعروفة بـ«الربداء الرشيقة Caenorhabditis elegans» على تذكر وجباتها الفظيعة فحسب، بل تورث ذلك لذريتها لتجبرهم على اجتنابها أيضًا.
وفي حال تعرضت إحدى تلك الديدان إلى حادثة تسببت في هلاكها، فإن التحذير المرمز في حمضها النووي الريبوزي يتسرب من جسدها المتحلل ويصبح قابلًا للالتقاط من أي دودة أخرى مجاورة من نفس النوع.
لاحظ هذه الوسيلة الاستثنائية لنقل الذاكرة باحثون من معمل مورفي التابع لجامعة برينستون في الولايات المتحدة، وذلك في إحدى دراساتهم للسلوكيات المورثة لدى هذا النوع من الديدان الأسطوانية.
نظرًا إلى وجود حاجز بين الخلايا الجسدية والتناسلية، ظُنَّ فيما سبق أن الأحداث التي تؤثر في فيزيولوجية الجسم لا يمكن أن يمتد تأثيرها إلى النسل، لكن ذلك دُحِض باكتشافات أظهرت أن بعض الضغوطات البيئية التي تتعرض لها حيوانات مثل الربداء الرشيقة تستطيع أن تُحدث تغيرات في الجينات المورَّثة للأبناء والأحفاد، امتدادًا إلى عدة أجيال لاحقة.
ولا يقتصر هذا على الديدان فقط، إذ بإمكان سلالة ذباب الفاكهة وحتى الفئران أن ترث تعديلات جينية ناتجة عن مؤثرات بيئية تعرض لها الأبوان، ما يمكنه تغيير الوظائف الحيوية لدى الأجيال اللاحقة بفعالية.
في عام 2020، نشر باحثون من معمل عالمة الأحياء الجزيئية كولين مورفي نتائج دراساتهم لردود فعل ديدان الربداء الرشيقة تجاه تناول البكتيريا الزائفة الزنجارية Pseudomonas aeruginosa، التي تُعَد وجبة لذيذة لدى الديدان ولكن فور تواجدها في جهازها الهضمي تسببت لها بالمرض.
اكتشف الفريق أن أمعاء الديدان امتصت سلاسل من الحمض النووي الريبوزي لهذه البكتيريا الممرضة، من ضمنها سلسلة غير مرمزة تسمى P11.
وتبين أن هذه السلسلة يمكنها الارتباط مع سلسلة مرمزة موازية لها في جينوم الديدان -تحديدًا جين يسمى Maco1- عُرِف فعلًا أنها تؤدي دورًا في الإدراك الحسي، ونتيجةً لذلك، فإن الديدان تتعلم أن تتفادى الزائفة الزنجارية في المستقبل، ومن المذهل أن هذا التغير السلوكي يؤثر أيضًا في السلالات المنحدرة من الدودة الأم؛ فهو يورَّث إلى ما لا يقل عن أربعة أجيال لاحقة ليعلمها اجتناب تناول تلك الميكروبات أيضًا.
غير أن هذه التجربة الحديثة تبين أن الذاكرة الوراثية ليست محصورة في النطاق العائلي فقط؛ إذ توصلت إلى أدلة على أنه بإمكانها أيضًا أن تنتقل أفقيًا من دودة إلى أخرى، ولكن لسوء الحظ، يجب أن تُسحَق الدودة الأم بعد مرورها بتلك التجربة المروعة أولًا.
تقول مورفي: «وجدنا أن الدودة المفردة يمكنها أن تتعلم اجتناب ذلك النوع من البكتيريا الممرضة، وإذا سحقنا هذه الدودة أو حتى استخدمنا المستنبت الذي تسبح فيه الديدان، وقدمنا المستنبت أو جسد الدودة المسحوق المتحلل إلى ديدان أخرى غير متعلمة، فإنها تتعلم أيضًا اجتناب تلك البكتيريا».
وعند دراسة الديدان الاسطوانية غير القادرة على اكتساب الخبرة بهذه الطريقة، اتضح أن رغم الدور الواضح الذي يؤديه الجين Maco1 في الابتعاد عن الزائفة الزنجارية، فإن وجوده وحده لم يكن كافيًا لتفسير توارث هذا السلوك، ولا بد أن شيئًا آخر كان يحدث؛ لذا بدأ العلماء بالبحث عن عوامل أخرى قد تكون مسؤولةً عن هذا التكيف العصبي غير المألوف.
كان المشتبه به الرئيسي ينقولًا (أو جينًا قافزًا) يسمى Cer1، إذ عُرِف بخصائصه التي تمنحه قدرة التنقل من أحد أجزاء الجينوم إلى جزء آخر مثل الفيروسات.
تقول مورفي: «ما اكتشفناه هو أن الينقول الراجع Cer1-الذي يمكنه تكوين جسيمات تشبه الفيروسات- يبدو قادرًا على نقل الذاكرة ليس فقط بين أنسجة الدودة (من خلاياها الجرثومية إلى خلاياها العصبية)، بل أيضًا بين ديدان مختلفة».
لم تتمكن الديدان التي كانت تفتقر طبيعيًا إلى الجين Cer1 -أو التي أزيل منها الجين- من مقاومة التهام الزائفة الزنجارية.
إن اكتساب الخبرة بهذا الأسلوب ليس خاليًا من المخاطر، إذ قد تسبب الطريقة التي يعمل بها الينقول الراجع Cer1 ضررًا عند دمجه لنفسه في أجزاء مختلفة من جينوم الدودة، ما يقترح أنه حتمًا يملك فائدةً تستحق تلك المخاطر.
حقيقة أن التجارب التي ينتج عنها تغيّرٌ في السلوك بالإمكان أن تُورَّث، ربما تبدو مذهلةً في وقتنا الحالي، إلا أنها كانت فكرة مثيرة للجدل إلى حد مثير للدهشة قبل 50 سنةً فقط؛ إذ اكتسب عالم النفس الحيواني الأمريكي جيمس ماكونيل شهرةً -وأيضًا سمعة سيئة- في ذلك الوقت لاقتراحه بأن الديدان المسطحة يمكنها أن ترث الذكريات بتغذيها على ديدان مسطحة أخرى أكثر خبرةً.
منذ ذلك الحين، أثرت البصمة التي خلّفها ماكونيل في تاريخ البيولوجيا على النقاش الدائر حول نفاذية الحاجز القائم بين الخلايا الجسدية والتناسلية، وما إذا كانت التجارب التي يمر بها أحد الأجيال خلال حياته يمكنها أن تؤثر مباشرةً في الطريقة التي يختبرها بها الجيل القادم.
ما يزال المدى الذي قد يحدث فيه توريث الذاكرة عند البشر قيد البحث، ومع ذلك توجد علامات مثيرة للفضول على أننا لسنا مستثنين من امتلاكه أيضًا.
اقرأ أيضًا:
كيف تنتقل الصفات الوراثية غير المرمزة على الحمض النووي من النطاف إلى الأجنة؟
وجد العلماء الطريقة التي تستطيع الخلايا العصبية خلالها نقل المعلومات إلى عدة أجيال
ترجمة: رحاب القاضي
تدقيق: لبنى حمزة