دراسة جديدة
الحياة المعقدة على الأرض كانت موجودة قبل 2.33 مليار سنة
وجد علماء الأرض في معهد ماساتشوستس للتقنية أدلة على وجود حقيقيات النوى – وهي متعضيات تتضمن فصائل النباتات والحيوانات ووحيدات الخلية – على سطح الأرض قبل 2،33 مليار سنة خلت، وهي تقريبا الفترة ذاتها التي أصبح فيها الأوكسجين عنصرًا ثابتًا في الغلاف الجوي.
وكشف التحليل الجيني للكائنات المعاصرة رؤى جديدة عن أول أشكال الحياة المعقدة على سطح الأرض.
ويأتي هذا الاكتشاف ليكون دليلًا زمنيا آخر ليسبق أبكر إشارة توصل العلماء لها عن وجود حقيقيات النوى في السجل الأحفوري بـ 1.56 مليار سنة، علما أن الأخيرة مستحاثة لبقايا كائنات متعددة الخلايا شبيهة بالطحالب، حسب ما اتفق عليه أغلب العلماء.
لم يتوصل الباحثون إلى هذه النتائج عبر دراسة الأحافير بل عبر تقنية تدعى «تحليل الوقت الجزيئي،» فبفضل هذه الطريقة تمكن العلماء من التمعن في قواعد معطيات الحمض النووي بهدف تتبع تطور سلاسل جين معين عبر مئات الأنواع الحية المعاصرة، وبعد المقارنة مع الفترات الزمنية التي وصلوا إليها عبر دراسة مستحاثات الحيوانات والنباتات القريبة منها تطوريًا، تمكنوا من ربط هذه السلاسل مع أبكر نقطة زمنية ظهرت بها أولى حقيقيات النوى.
يعلق روجر سيومن أستاذ البيولوجيا الجغرافية في قسم الأرض والعلوم الأرضية والمناخ في معهد ماساتشوستس للتقنية قائلًا:
«ها قد أثبتنا مرة أخرى جدوى دراسة الحمض النووي المعاصر للكشف عن رؤى جديدة عن مظاهر الحياة الأولى.»
ويضيف: «لا يوجد لدينا أي دليل حسي عن مظاهر الحياة الأولى، صحيح أنه لدينا بعض الأحافير الحجرية التي لا تحظى بإجماع بشأن صحتها، وبعض الأدلة الجيوكيميائية، لكنها تبقى غير كافية للتوصل إلى شرح تاريخي كامل للحياة.
ما نقترحه هو دراسة ما هو موجود على سطح الكوكب حاليا بهدف الوصول إلى معلومات مهمة عن طبيعة أولى أسلاف المتعضيات.»
ويتكون فريق البحث والتحليل الجيني من سيومن والمسؤول عن البحث ديفد غولد وهو باحث سابق في مرحلة ما بعد الدكتوراه في معهد ماساتشوستس للتقنية ويعمل حاليًا في معهد كاليفورينا التقني «كاليتش» بالإضافة لأبيغيل كارون كبيرة مساعدي الأبحاث في معهد ماساتشوستس للتقنية وغريغور فورنية.
أقدم الأنزيمات
ركز الفريق في بحثه على سلاسل الحمض النووي المحتوية على شيفرة توليد الستيرول – وهي فئة من الجزيئات الموجودة في كل حقيقيات النوى – وهي مسؤولة عن صفات الحواجز الخلوية وسلوكها.
ويشرح سيومن «يحدد الستيرول كيفية تغير شكل الحاجز الخلوي بالإضافة لتدخله بدور الحاجز كوسيط بين الخلية وما يحيط بها، مثلا: القدرة على ابتلاع الغذاء، بإمكان حقيقية النواة وحيدة الخلية ابتلاع وهضم الغذاء، بينما على أغلب البكتيريا إفراز الأنزيمات لتفتيت الطعام قبل ابتلاعه.»
ركز الفريق على تتبع تطور الجين الخاص بأول انزيمين يتدخلان في عملية إنتاج الستيرول وهما: SQMO وOSC. وينتج SQMO أو السكوالين أحادي الأوكسيجيناز عن إدخال ذرة أوكسجين في السكوالين.
أما OSC أو أنزيم أوكسيد السكوالين، فينشأ نتيجة لرجوع جزيء أوكسيد السكوالين إلى شكله الأساسي ويأخذ شكل السكوالين رباعي الحلقات المعتاد، ويعد الكوليسترول أحد أفضل الأمثلة.
يمثل هذان الأنزيمان أولى الخطوات لتخليق الستيرول الذي تطور عبر الزمن ليُضمن العديد من الأنزيمات في تخليقه لتحسين وظيفته وفعاليته.
يرى العلماء إمكانية تتبع تطور الأنزيمات في أولى مراحل تخليق الستيرول ليستنتجوا بعد ذلك، متى كان أول ظهور لحقيقيات النوى على سطح الأرض.
تتبع شجرة البيانات
ركز الفريق في بحثه على أنزيمين اثنين هما SQMO وOSC. ويُذكر أن البحث أجري في المركز الوطني البيوتكنولوجي لقواعد معلومات البروتينات وهو خلاصة بحوث العلماء من كل أنحاء العالم عن دراسات السلاسل الجينية لآلاف الأنواع الحديثة.
وضع الباحثون لوغاريتمات تساعدهم في البحث ضمن قواعد المعطيات على الأنواع المتضمنة سلاسل الحمض النووي المحتوية على شيفرة SQMO وOSC.
ثم وضعوا لكل إنزيم شجرة ترصد تطوره الجيني، أي مخطط يظهر العلاقات التطورية بين الأنواع المحتوية على SQMO و OSC.
ويضيف سيومن «عند تتبع مسيرة الأنزيمين على الشجرة تجد أنهما متشابهين إلى درجة مذهلة، بالنسبة لي كانت حقيقة مدهشة، تبدو مسيرة هذين الأنزيمين متشابهتين جدًا في شجرة حقيقات النوى، وحتى أن بعض البكتيريا تشاركهما تقريبًا التاريخ ذاته، فهما يتحركان معًا دائما، ومن النادر ملاحظة إنزيم منهما دون أن يكون الآخر بجانبه.»
ما جذب اهتمام الباحثين هو وجود نقطتين في التاريخ التطوري المبكر للأنزيمين، فبدا أن كلا من الأنزيمين قد تنقل بين حقيقيات النوى والبكتيريا.
تعرف هذه القفزات الجينية بالانتقال الجيني الأفقي وتدل على فترة مشاركة المتعضيات بهذه الأنزيمات.
ولتحديد هاتين النقطتين، لجأ الباحثون إلى «تحليل الساعة الجزيئية» وهي تقنية تقوم على قياس الزمن بالنسبة لتغيرات عشوائية في الحمض النووي، مع اعتبار أن هذه التغيرات تجري بمعدل ثابت تقريبًا.
استخدم سيومن وزملائه لوغاريتمات أخرى في كل شجرة تطورية بالاعتماد على «توبولوجيا» أو معدل التغيير الجيني.
بعد ذلك وازنوا بين اللوغاريتمات والمعطيات المستخلصة من سجلات أحفورية سابقة بالإضافة لأزمنة متفق عليها بين العلماء خاصة ببعض الأنواع ضمن كل شجرة، ومنها: المرجان ونجم البحر والطحالب.
نشطوا بعد ذلك اللوغاريتمات – أي الساعة الجزيئية – لترجع بالزمن وتحدد متى انتقلت جينات الستيرول بين البكتيريا وحقيقيات النوى.
وباستخدام هذه الطريقة بعدة أساليب دقيقة، بالإضافة لحساب مجال الخطأ توصلوا لعدة أزمنة تتراوح حول نفس النقطة: 2.33 مليار عام.
ويقول سيومن «يعود الجدال حول عمر حقيقيات النوى إلى عدة عقود سابقة، ونقدم دراستنا هذه وفيها دليل يدفعنا للاعتقاد أن تكوين الستيرول تم قبل 2.33 مليار عام على أقل تقدير، أي هو الزمن الذي وجدت فيه أولى حقيقيات النوى، حسب ما توصلنا إليه.»
كشف التطور
في عام 2016 كشفت فريق سيومن أيضا عن حدث محوري آخر حصل قبل 2.33 مليار سنة، وهو حدث الأكسجة العظيم، أصبح الأوكسجين عنصرًا ثابتًا في الغلاف الجوي للأرض، لهذا يعتقد سيومن أن وجود حقيقيات النوى بشكل متزامن تقريبا آنذاك يبدو أمرا منطقيا خاصة وأنها بحاجة لكميات كبيرة من الأوكسجين لتخليق الستيرول بهدف المحافظة على حواجز خلاياها.
يخطط الفريق مستقبلا لتتبع التاريخ التطوري للأنزيمات عميقا في جينات الستيرول وبالتحديد الأنزيمات المستخدمة في تخليق الكوليستيرول، وطبعا باستخدام سلاسل جينية لأنواع معاصرة بهدف كشف «قصتها التطورية» وفق سيومن.
اعتقدنا للعديد من السنوات بإمكانية الوصول إلى فهم طبيعة الأسلاف عبر دراسة الحمض النووي، وبالطبع ينطبق الأمر على الأسلاف البشرية.»
بتنا اليوم نعرف كثيرًا عن العلاقات بين النينديرتال وعدة مجموعات بشرية أولى بفضل دراسة الحمض النووي في العظام، فهو يساعدنا في العودة بالزمن عدة ملايين من السنين، لكننا، وفي بحثنا، عدنا بالزمن 2.33 مليار عام!
لنثبت إمكانية فهم أحداث مفصلية في تاريخ الحياة قبل مليارات الأعوام عبر دراسة الحمض النووي لأنواع وكائنات معاصرة.»
ترجمة: اوراس الجاني
تدقيق: أحمد شهم شريف