حين استُخرجت مجموعة مكونة مما ينيف على الثلاثين هيكلًا عظميًا من قبور تقع في شمالي قرغيزستان أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر، لم يخطر ببال علماء الآثار أن هذه البقايا ستكشف أدلة جديدة عن أصول الطاعون الأسود بعد 130 عامًا من استخراجها.
كان الموت الأسود (وهو بداية الطاعون الأسود) الموجة الأولى من وباء استمر 500 سنة. عُدَّ هذا الوباء أحد أكثر الأوبئة فتكًا في التاريخ، وقد سببته بكتيريا فتاكة تحمل الاسم العلمي «اليرسينية الطاعونية». ألقى هذا الوباء المميت ظلًا قاتمًا على العصور الوسطى بإبادته قطاعات واسعة من السكان الأوربيين.
مع أن تأثير الطاعون الأسود كان هائلًا، فإن الأصول الغامضة لهذا المرض مثلت عقبة لعمل الباحثين، حتى أخذوا بتتبع جينات اليرسينية الطاعونية القديمة عبر قارة أوروبا. هذه الدراسة الجديدة التي ترى أن الطاعون الأسود ظهر أولًا في وسط أوراسيا ليست سوى أحدث حلقة من سلسلة الدراسات التي تعتمد على علميْ الآثار والبيئة القديمة في إعادة تشكيل فهمنا لهذا الوباء المريع.
عمل الكيميائي الحيوي يوهانس كراوزه (معهد ماكس بلانك لعلم الأناسة التطوري)، ومؤلفة الدراسة الرئيسية ماريا سبايرو المتخصصة في علم الوراثة الأثري في جامعة توبينغن، والمؤرخ فيل سلافِن في جامعة إستيرلينغ، جنبًا إلى جنب للكشف عن بدايات الطاعون الأسود. ويقول سلافن بشأن ذلك: «أجابت دراستنا عن أحد أكبر الأسئلة في التاريخ وأكثرها جذبًا للاهتمام، إذ حددت مكان وزمان ظهور أفظع قتلة الإنسان وأكثرهم شهرة».
قارن عمل سبايرو وكراوزه السابق الجينات العتيقة التي وُجدت في بقايا ضحايا الوباء في إنكلترا وفرنسا وألمانيا إلى جانب أماكن أخرى، فاستطاعا تتبع أصول وباء الطاعون الثاني (أي الطاعون الأسود) إلى بلدة تقع على ضفة نهر في روسيا. بينما ادعت فرق بحثية أخرى أنها أزالت الستار عن أقدم ضحية معروفة للوباء، وقد وجدوا أنها ماتت في ما تُعرف اليوم بلاتيفيا بسبب سلف أقل عدوى وخطرًا من بكتيريا «اليرسينية الطاعونية»، الذي سبق -بآلاف السنين- اكتساح الطاعون الأسود العالم إبان منتصف القرن 14 للميلاد.
لكن أصول وباء الطاعون الأسود، وهو ملحمة مروعة بدأت بالموت الأسود واستمرت خمسة قرون، لطالما كانت موضوعًا للجدال والنقاش بين الباحثين وهدفًا لجهودهم البحثية التي أعاقتها رؤية تركّز على أوروبا وتهمل باقي أنحاء العالم المتصل بها، حسب قول الفريق البحثي. أما الآن، فبحثهم الجديد يدفع أصول الطاعون الأسود شرقًا إلى وسط آسيا، يعززه دليل حمض الريبوزي منقوص الأكسجين (DNA) المستخرج من بقايا سبعة أشخاص استخرجت رفاتهم من مقبرتين في ما يُعرف اليوم بقرغيزستان.
في الواقع، نُقِّب في المقبرتين الواقعتين في وادي تشوي قرب بحيرة إسيك-كول بين عامي 1885 و1892، وقد احتوتا على مجموعة من المدافن (القبور) عليها أحجار منقوشة بتفاصيل غامضة عن وباء مجهول، وتواقت زمان تفشي هذا الوباء مع بداية ظهور الطاعون الأسود، لكن سبب الموت الدقيق لم يؤكد أبدًا.
ولفحص ذلك، استخرج الفريق الـ DNAـ من أسنان الهياكل العظمية المستعادة قبل أن يسلسل مادته الجينية ويقارنه بجينات اليرسينية الطاعونية المعاصرة والقديمة (التاريخية). تقول سبايرو: «بالرغم من احتمالية التلوث البيئي وانعدام ضمان بقاء البكتيريا محفوظة، فقد استطعنا سَلسلة الـ DNA [القديم] المستخرج من سبعة أشخاص».
وجد الفريق آثار DNA بكتيريا اليرسينيا القديم في أسنان ثلاثة من الهياكل العظمية السبعة، وطابقوا هذه الهياكل العظمية بشواهد القبور مستعينين بمذكرات التنقيبات الأثرية الأصلية التاريخية، «استطعنا -أخيرًا- إظهار أن المرض المذكور على شواهد القبور كان بفعل الطاعون حقًا» حسب المؤرخ سلافن.
مثل اثنان من الجينومات العتيقة المعاد إنشائها سلسلة واحدة، يعود تاريخها إلى النصف الأول من القرن الرابع عشر للميلاد، وتقترح المقارنات الجينية أن سلاسل وبائية مختلفة عظيمة العدد تفرعت عن السلسلة السلف فأدت إلى استمرار الجائحة والوباء الشامل.
تقول سبايرو: «لقد وجدنا أن السلاسل العتيقة من قيرغزستان تقع بالضبط حيث حدث التنوع العظيم. بعبارة أخرى، وجدنا السلسلة الجينية التي كانت مصدر الطاعون الأسود، وعرفنا تاريخ ظهورها بالضبط». وهذا التاريخ هو سنة 1338 م المنقوش باللغة السريانية القديمة على شواهد قبور الهياكل العظمية.
لا شك في اختلاف تقدير عمر نماذج الـ DNA القديمة التي استعيدت من هياكل عظمية متداعية، ولم نعهد التواريخ المحددة بدقة عند الحديث عن الاكتشافات الأثرية، ولذلك قد تكون للقصة بقية إن عثرنا على بقايا أكثر عددًا لضحايا الطاعون الأسود.
أما اعتمادًا على الأدلة التي بحوزتنا، فإن الباحثين وجدوا -بالفعل- السلسلة السلف الشبيهة بالسلاسل المعاصرة التي يكثر وجودها في مجتمعات القوارض حول جبال تيان شان، ما يشير إلى ظهور الطاعون الأسود في هذه المنطقة المحلية، بدلًا عن انتقاله من أي منطقة أخرى، «وهذا يشير إلى أن مصدر أصل الموت الأسود يقع في وسط آسيا» حسبما يشرح كراوزه.
أما عن كيفية انتشار الطاعون الأسود، فذلك سؤال ملح آخر، والظن يتجه إلى أن الحروب وشبكات التجارة كانت ضمن أهم المساهمين في انتشار اليرسينية الطاعونية إبان القرن 14 للميلاد. وتشير إلى ذلك الأدلة المستقاة من مزيد من البحوث التي أجريت على نقوش شواهد القبور والأدوات الموجودة في المدافن وكنوز العملات المعدنية والسجلات التاريخية، وكلها تشير إلى أن وادي تشوي كان موطنًا لمجتمعات متنوعة اعتمدت على التجارة عبر أوراسيا، وربما حملت طرق التجارة هذه «عابر سبيل» غير مرغوب فيه؛ أي البكتيريا المسببة للطاعون.
أخيرًا، يرى مؤلفو الدراسة «أنه من المهم إجراء بحث عن طرق [التجارة] التي عبرت آسيا إبان النصف الأول من القرن الرابع عشر للميلاد، مع استخدام الأدلة الجينية الأخرى جنبًا إلى جنب، لكشف الطرق التي سلكتها بكتيريا [الطاعون الأسود] عند انتشارها غربًا».
اقرأ أيضًا:
الإنفلونزا الإسبانية: الوباء الأشد فتكًا في التاريخ
ترجمة: الحسين الطاهر
تدقيق: نور عباس
مراجعة: نغم رابي