إن الكون اليوم ليس كما كان بالأمس. بكل لحظة تمر، يحدث عدد من التغيرات المتقنة والمهمة، حتى لو كان الكثير من هذه التغيرات لا يمكن إدراكه بالمقاييس الزمنية البشرية. إذ أن الكون يتوسع، ما يعني أن المسافات بين أكبر الهياكل الكونية تزداد مع مرور الوقت.
منذ ثانية ، كان الكون أصغر قليلاً ؛ بعد ثانية من الآن، سيكون الكون أكبر قليلاً. لكن تلك التغييرات الطفيفة تتراكم على نطاقات زمنية كونية كبيرة وتؤثر على أكثر من مجرد مسافات. وكلما توسع الكون، ستتغير الأهمية النسبية للإشعاع والمادة والنيوترونات والطاقة المظلمة. وتتغير درجة حرارة الكون. كما سيتغير تدريجيًا ما ستراه عندما تنظر إلى السماء. ليتفق الجميع على أننا يمكننا تقسيم عمر الكون إلى ست حقب زمنية مختلفة، وأننا فعلًا في الحقبة الأخيرة.
يمكننا فهم سبب ذلك من خلال الرسم البياني أعلاه. فكل شيء موجود في كوننا يحتوي على كميات محددة من الطاقة فيه: مادة إشعاع، طاقة مظلمة… إلخ. وكلما توسع الكون، يتغير الحجم الذي تشغله هذه الأشكال من الطاقة، ولدى كل منها كثافة الطاقة التي تتطور بشكلٍ مختلف. وبشكلٍ خاص، إذا حددنا الأفق الذي يمكننا مشاهدته بالمتغير a عندها:
- ستمتلك المادة كثافة طاقة تعادل 1/a^3 ، إذ أنه بالنسبة للمادة فإن الكثافة تساوي الكتلة على الحجم، ويمكن للكتلة أن تتحول بسهولة إلى طاقة عن طريق المعادلة: E=mc^2.
- ستتطور كثافة الطاقة للإشعاع حسب التابع 1∕a^4، إذ أنه بالنسبة للإشعاع فإن الكثافة العددية تعبر عن عدد الجسيمات في وحدة الحجم، وتتمدد طاقة كل فوتون مفرد مع توسع الكون، ليضاف عامل آخر لكل 1/a من المادة.
- والطاقة المظلمة هي من خواص الكون نفسه، لذلك تبقى كثافة الطاقة لها ثابتة (1∕a^0)، بغض النظر عن توسع الكون أو حجمه.
بالنسبة لكون كان موجودًا لفترة أطول، سيتوسع أكثر. وسيصبح أبرد في المستقبل كما كان أكثر سخونة في الماضي. كانت جاذبيته أكثر تجانسًا في الماضي وهو الآن أكثر تكتلًا. وكان أصغر في الماضي وسيصبح أكثر توسعًا في المستقبل.
بتطبيق قوانين الفيزياء على الكون، وبمقارنة الحلول المحتملة مع الملاحظات والقياسات التي حصلنا عليها، يمكننا معرفة من أين أتينا وإلى أين نذهب. كما يمكننا تخمين تاريخنا الماضي طوال طريق العودة إلى لحظة الانفجار الكبير وحتى ما قبله، إلى فترة التضخم الكوني. ويمكننا استقراء كوننا الحالي في المستقبل البعيد أيضًا، ونتنبأ بالمصير النهائي الذي ينتظره كل ما هو موجود.
إن تاريخ كوننا بأكمله مفهوم بشكل جيد، وذلك فقط لأننا نفهم نظرية الجاذبية التي يقوم عليها الكون. ولأننا نعرف معدل توسع الكون الحالي وتركيب الطاقة، فسيستمر الضوء بالسفر عبر الكون المتوسع، كما وأننا سنواصل استقبال ذلك الضوء العشوائي في المستقبل، لكنه سيكون محدودًا بالوقت الذي يصل فيه إلينا. وسنحتاج إلى البحث عن السطوع الخافت والموجات الأطول لمواصلة رؤية الأجرام المرئية، إلا أن تلك الحدود هي تقنية وليست مادية.
عندما نحدد الخطوط الفاصلة بناءً على سلوك الكون، فإننا نجد أن هناك ست حقب زمنية مختلفة التي ستمر خلال عمر الكون.
- عصر التضخم: الذي سبق وحضّر للانفجار العظيم الساخن.
- عصر الحساء الكوني البدائي: من بداية الانفجار العظيم الساخن وحتى حدوث التفاعلات النووية التحويلية والتفاعلات الجزيئية في الكون المبكر.
- عصر البلازما: من نهاية التفاعلات النووية والجزيئية غير المنتشرة وحتى يبرد الكون بدرجة كافية لتكوين مادة متعادلة بشكل مستقر.
- عصر الفترات الزمنية المظلمة: بدأت منذ تكوين مادة متعادلة وحتى الفترة التي تقوم فيها النجوم والمجرات بإعادة تأيين الفضاء بين مجرات الكون بأكمله.
- عصر النجوم: منذ نهاية إعادة التأيين إلى أن تتحكم الجاذبية بالتكوين وتوقف نمو البنى الكونية ذات المقاييس الكبيرة جدًا، عندما تهيمن كثافة الطاقة المظلمة على كثافة المادة العادية.
- عصر الطاقة المظلمة: وهي المرحلة الأخيرة من عمر كوننا، إذ يتسارع توسع الكون وتبتعد الأجسام عن بعضها بسرعة كبيرة من غير عودة.
لقد دخلنا بالفعل هذه الحقبة الأخيرة منذ ملايين السنين. فمعظم الأحداث الهامة التي ستحدد تاريخ كوننا قد حدثت بالفعل.
تتمدد التخلخلات في نسيج الزمكان نفسه على المقاييس الكمية عبر الكون خلال عملية التضخم، ما يؤدي إلى زيادة الخلل في موجات الجاذبية الكثافة. وإذا كان التضخم ناتجًا عن نهاية متفرد ما أو شيء ما معروف، فإن مؤشرات حدوثه يمكننا معرفتها في كوننا الذي نراقبه.
1- عصر التضخم: قبل الانفجار العظيم الساخن، لم يحتوي الكون على المادة، أو المادة المضادة أو المادة المظلمة أو الإشعاع. ولم يكن مليئًا بأي نوع من الجسميات. بدلًا من ذلك، فقد كان مليئًا بشكل من أشكال الطاقة المتأصلة بالفضاء بحد ذاته: شكل من الطاقة التي تدفع الكون إلى التمدد بسرعة بالغة وبلا توقف، وفق نموذج أُسّي.
لقد توسع الكون، من أي هندسة كان عليها، إلى حالة غامضة من التفلطح المكاني.
توسعت بقعة صغيرة مرتبطة بالسببية من الكون إلى أخرى أكبر من الكون المرئي حاليًا: أكبر من الأفق السببي الحالي.
لقد أخذت كل الجسيمات التي ربما وجدت ووسعت الكون بسرعة كبيرة، فلم يبقى أي منها بداخل منطقة من حجم كوننا المرئي.
ولدت التغيرات الكمية التي حدثت خلال التضخم أساس البنية التي أدت إلى زيادة في الشبكة الكونية الشاسعة حاليًا.
وبعد ذلك، انتهى التضخم بشكٍل مفاجئ، منذ حوالي 13.8 مليار سنة. وكل الطاقة، تلك المتأصلة في الفضاء ذاته، قد تحولت إلى جسيمات، وجسمات مضادة وإشعاع. وبعملية التحول هذه، انتهى عصر التضخم، ليبدأ عصر الانفجار الكبير الساخن.
عند درجات الحرارة العالية التي سادت في الكون المبكر، ليس فقط باستطاعة الجسيمات والفوتونات أن تتكون بشكل عفوي معطيةً طاقة كافية. وإنما الجسيمات المضادة والجسمات غير المستقرة أيضًا يمكنها صنع الحساء البدائي الكوني من الجسيمات والجسيمات المضادة. وحتى في ظل هذه الظروف، يمكن للجسيمات أو بعض الحالات الخاصة أن تندمج.
2- عصر الحساء البدائي: عندما يمتلئ الكون المتوسع بالمادة والمادة المضادة والإشعاع، فإنه يبرد. وكلما تصادمت الجسيمات، ستنتج أزواجًا من الجسيمات والجسيمات المضادة بموجب قوانين الفيزياء. ويأتي الشرط الأولي فقط من طاقات التصادمات المطلوبة، إذ يحكم إنتاجها حسب القانون E=mc^2.
كلما برد الكون تنخفض الطاقة، ويصبح من الصعب جدًا خلق أزواج أكثر من الجسيمات والجسيمات المضادة الهائلة، ولكن تستمر عملية سحق الجسيمات وردود فعل أخرى للجسيمات بالحدوث دون توقف. فبعد 1-3 ثانية من الانفجار العظيم، اختفت المادة المضادة بأكملها، تاركةً خلفها المادة فقط. 3-4 ثانية بعد الانفجار العظيم، كان باستطاعة الديوتيريوم المستقر أن يتشكل، وحدث التشكيل النووي للعناصر الضوئية.
وبعد انخفاض النشاط الإشعاعي وبعض التفاعلات النووية النهائية، كل ما بقي لدينا هو بلازما متأينة ساخنة (ولكنها تبرد) تتكون من الفوتونات، والنيوترونات، والنوى الذرية والإلكترونات.
3- عصر البلازما: عندما تشكلت تلك النوى الخفيفة، كانت المواد المشحونة إيجابيًا (من الناحية الكهربائية) الوحيدة في الكون، وكانت في كل مكان. وبالطبع، إنها متوازنة مع كميات مكافئة من الشحنات السالبة على شكل إلكترونات. وشكلت الإلكترونات والنوى الذرات، وهكذا ربما يبدو من الطبيعي أن يلتقي هذين النوعين من الجسيمات على الفور لتشكل الذرات وتمهد الطريق لولادة النجوم.
ولسوء الحظ بالنسبة لهم، فقد فاق عدد الفوتونات على عددهم -بنسبة 1 إلى مليار- ففي كل مرة يرتبط إلكترون ما مع نواة، يأتي فوتون بطاقة عالية ويفصل بينهما. وهكذا كان الوضع حتى برد الكون تدريجيًا، من مليارات الدرجات حتى آلاف الدرجات فقط، حتى استطاعت تلك الذرات العادية أن تتشكل.
4- حقبة العصور المظلمة: ممتلئة بالذرات المتعادلة أخيرًا، يمكن للجاذبية أن تبدأ بعملية تكوين بنية الكون. ولكن بكل هذه الذرات المتعادلة المحيطة، فإن ما نعرفه حاليًا بالضوء المرئي سيكون غير مرئي عبر السماء.
لماذا؟ لأن الذرات المتعادلة، وخاصة التي بشكل الغبار الكوني، تقف عائقًا لتحجب الضوء المرئي.
ومن أجل إنهاء هذه العصور المظلمة، يحتاج الوسط بين المجرات لإعادة تأينه. ويتطلب ذلك كميات هائلة من عملية ولادة النجوم وأعدادًا هائلة من فوتونات الأشعة فوق البنفسجية، كما ويتطلب وقتًا، وجاذبية ونجوم الشبكة الكونية.
وتستغرق الفترة الأساسية الأولى لإعادة التأيين حوالي 200-250 مليون سنة بعد الانفجار العظيم، ولكن لا تكتمل عملية إعادة التأيين، بمعدل متوسط، اكتملت حتى أصبح عمر الكون 550 مليون سنة. عند هذه النقطة، ما يزال يزداد معدل تكون النجوم، وبدأ بالتشكل أول العناقيد المجرية الهائلة.
5- عصر النجوم: عند انتهاء العصر المظلم، أصبح الكون شفافًا أمام ضوء النجوم. وأصبحت أسرار الكون العظيمة قابلة للحل، عن طريق النجوم والعناقيد النجمية والمجرات والعناقيد المجرية والشبكة الكونية الكبيرة التي تنمو كلها والتي تنتظر أن يتم اكتشافها. تسيطر الطاقة على الكون عن طريق المادة المظلمة والمادة العادية والبنى المحكومة بالجاذبية المستمرة بالنمو لتصبح أكبر وأكبر.
يزداد معدل ولادة النجوم أكثر وأكثر، لتبلغ ذروتها بعد حوالي 3 مليار عام بعد الانفجار العظيم. عند هذه النقطة، تستمر عملية تشكل مجرات جديدة، وتستمر المجرات الموجودة بالنمو والاندماج، كما وتجذب العناقيد المجرية كميات أكثر وأكثر من المادة إلى داخلها. في حين تبدأ كميات الغاز الحر في المجرات بالانخفاض، لأن عمليات ولادة النجوم الكبيرة تستخدم كميات كبيرة منه. لينخفض معدل ولادة النجوم ببطء ولكن بشكل طردي.
وبمرور الوقت، يفوق معدل موت النجوم على معدل ولادتها، والمفاجأة التالية جعلت الحقيقة أسوأ من ذلك: كلما انخفضت كثافة المادة مع توسع الكون، يبدأ شكل جديد من أشكال الطاقة بالظهور والسيطرة -الطاقة المظلمة- بعد حوالي 7.8 مليار سنة من الانفجار العظيم، تتوقف المجرات البعيدة من التباطؤ في انجذابها لبعضها البعض، وتبدأ بالتسارع من جديد، ليحكمنا الكون المتسارع. ولاحقًا، بعد حوالي 9.2 مليار سنة من الانفجار العظيم، تصبح الطاقة المظلمة هي المكون المسيطر من الطاقة في الكون. عند هذه النقطة، قد دخلنا في العصر الأخير.
6- عصر الطاقة المظلمة: عندما تهيمن الطاقة المظلمة، يحدث شيء غريب: البنى الكونية الكبيرة جدًا في الكون تتوقف عن النمو. المواد التي كانت تنجذب إلى بعضها البعض بفعل الجاذبية قبل هيمنة الطاقة المظلمة ستحافظ على هذا التجاذب، إلا أن تلك المواد التي لم تكن مقيدة بعد ببداية عصر الطاقة المظلمة سوف لن تقيد أبدًا. بدلاً من ذلك، سوف تتسارع ببساطة بعيدًا عن بعضها، وتقود الوجود الوحيد في الفضاء الكبير من العدم.
وفي النهاية ستندمج البنى المحكومة المفردة، مثل المجرات والمجموعات أو العناقيد المجرية لتشكل مجرة بيضاوية عملاقة. ستموت النجوم الموجودة، وستتباطأ عملية ولادة النجوم عن الحدوث ومن ثم تتوقف، وستقذف التفاعلات الداخلية للجاذبية معظم النجوم إلى الفضاء ما بين المجرات.
وستنضم الكواكب إلى نجومها أو بقايا النجوم، بسبب تفتتها بفعل الجاذبية. وحتى الثقوب السوداء، بعمرها الطويل، ستتحلل أخيرًا بفعل إشعاع هوكينغ.
بعد أن تصبح قزمًا أسود، إذا لم يكن هناك شيء يخرج أو يصطدم مع بقايا الأرض، فإن الجاذبية ستسبب في اقترابنا وابتلاعنا من قبل شمسنا.
في النهاية، ستبقى فقط نجوم الأقزام السوداء والكتل المعزولة الصغيرة على قدح شرارة الانصهار النووي، غير مأهولة وغير مرتبطة ببعضها البعض في هذا الكون المتوسع الفارغ. ستبقى هذه الجثامين النهائية حتى بعد مرور سنوات لا تعد، مستمرة بإصرار على بقاء الطاقة المظلمة العامل المهيمن في كوننا.
وقد بدأت بالفعل هذه الحقبة الأخيرة، من هيمنة الطاقة المظلمة، إذ أصبحت الطاقة المظلمة مهمة لعملية توسع الكون منذ ستة مليارات عام، وبدأت في الهيمنة على محتوى الكون من الطاقة بنفس الوقت الذي بدأت فيه شمسنا ونظامنا الشمسي بالولادة. ربما لكوننا ست مراحل فريدة، ولكن بالنسبة لكامل تاريخ الأرض، فقد كنا موجودين بالفعل في آخر مرحلة. خذ نظرة عميقة إلى الكون من حولنا، فلن يكون بهذا الغنى -أو الوصول السهل هذا- مرة أخرى أبدًا.
اقرأ أيضًا:
كيف يحسب عمر الكون باستخدام موجات الجاذبية؟
ترجمة: فارس بلول
تدقيق: سلمى توفيق