دبور طفيلي يحول الصراصير إلى عبيد
على مدار عقود حاول العلماء فهم تلك العلاقة المعقدة والمخيفة بين الدبور الزمردي (Ampulex compressa) وضحيته الأكبر حجماً، صرصور المنازل الشائع (Periplaneta americana).
من الوهلة الأولى قد تبدو تلك العلاقة بين الفريسة والمفترس كغيرها: تلدغ أنثى الدبور الصرصور واضعةً في بطنه البيوض وحين تفقس البيوض تتغذى اليرقات الجائعة على الصرصور. ولكن بينا تميل معظم الحشرات الطفيلية إلى شل حركة فريستها بلدغة لاسعة، يقوم الدبور الزمردي عوضاً عن ذلك بالتلاعب بتصرفات الصرصور محولاً إياه إلى عبد “زومبي” بصورة أساسية.
بعد لدغتين يصير الصرصور قادراً على الحركة لكن فاقداً أي قدرة على بدء الحركة المسؤولة عن المشي بصورة ذاتية. حينئذ وبعد أن وصل الدبور إلى حالة من الإرهاق نتيجة توجيه لدغتين للصرصور يقوم بإعادة اكتساب طاقته بقطع طرفي قرني الاستشعار الخاصين بالصرصور وشرب دمه. بعد ذاك الانتعاش يقوم الدبور بلصق نفسه إلى بقية قرون الاستشعار الخاصة بالصرصور الملدوغ، وكما يفعل الطفل الصغير المطيع في أول يوم في المدرسة، تقوم الحشرة الخاضعة بإتباع أوامر الدبور.
في هذه الأثناء تقوم أنثى الدبور بوضع بيضة على جسم الصرصور، والتي بدورها تفقس بعد ثلاثة أو أربعة أيام ثم تبدأ بأكل طريقها إلى بطن الصرصور، وهناك تبدأ في التغذي على أحشاءه بطريقة منظمّة، ضامنة بذلك أن الضحية المسكينة ستظل حية لمدة الأربعة أيام القادمة حتى ينتهي الأمر بتكوين اليرقة لشرنقة بداخلها.
مع الوقت ينبثق الدبور مكتمل النمو من جسد الضحية المضيفة ليبدأ بدوره دورة شنيعة أخرى. وحيث تحدث تلك العملية وبالرغم من قدرة الصرصور المصدوم على الحركة، إلا أنه لا يظهر أي رغبة في المقاومة أو الهرب أو المحاربة، حتى وإن كان يؤكل حياً من الداخل.
كيفية التحكم بالصرصور:
تم توثيق تلك العلاقة بين الدبور والصرصور منذ أربعينيات القرن الماضي، لكن لم يستطع العلماء حتى وقتٍ قريب أن يفهموا كيفية نجاح الدبور في إنجاز ذاك التلاعب في تصرف الصرصور.
اللدغة الأولى، والتي توجّه إلى كتلة من الأنسجة العصبية في صدر الصرصور، تحتوي علي كميات كبيرة من حمض (GABA – gamma amino butyric acid) وكمياويات إضافية أخرى كالتاورين Taurine والبيتا ألانين Betaalanine. إن حمض GABA هو ناقل عصبي Neurotransmitter يقوم بوقف انتقال إشارات الوظائف الحركية بين الأعصاب، وباجتماعه مع المادتين الكيماويتين الأخريين، يقوم بشل أرجل الصرصور الأمامية بصورة مؤقتة. تمنع تلك العملية الصرصور من الهرب بينما يوجه الدبور لمخ الصرصور لدغة ثانية بالغة في السميّة.
تلك اللدغة الثانية هي ما يحول الصرصور إلى “زومبي”، وعلى حد قول فريدريك ليبرسات وزملائه في جامعة بن غوريون، فهي تحتوي على ما يسموه “كوكتيل سموم عصبية”. إن السم المتواجد في اللدغة الثانية يمنع المستقبلات العصبية من تلقي ناقل عصبي اخر يدعي أوكتوبامين Octopamine وهو المسؤول عن بدء الحركات التلقائية والمعقدة مثل المشي.
أظهر ليبرسات أن الصراصير المحقونة بمادة شبيهة بالأوكتوبامين تظهر ازديادا في النشاط الحركي. ولكن من يحقنون بمادة توقفه يظهرون نقصا في المشي التلقائي، مثلهم مثل ضحايا الدبور السابق ذكره. وتمكنت أيضاً تلك الصراصير “الزومبي” من التعافي من حالة السبات تلك وممارسة المشي بعد حقنهم بمواد تنشط مستقبلات الأوكتوبامين.
هناك فرق طفيف بين المشي والقدرة على بدء الحركة المسؤولة عنه. حيث أن الصراصير الملدوغة في تلك الحالة محرومة من تلك القدرة الأخيرة، بينما تظل قدراتهم الأخرى سليمة؛ حيث تستطيع تلك الصراصير المسكينة المشي إلى جُحر الدبور ولكن تحت توجيهه فقط.
قام ليبرسات وزملاء له بالتحقيق في تلك الظاهرة الملفتة، بوضع صراصير تم لدغها في مواقف خطيرة لاختبار ردود أفعالهم المسؤولة عن الهروب. واكتشفوا أن الصراصير الملدوغة من الدبور الزمردي سرعان ما أصبحت محرومة من أي رغبة في الهرب إلى مكانٍ آمن حتى وإن صعقوا بالكهرباء أو تعرضوا للغرق. بينما قدراتهم على الحركة، والتي تقاس بالانقباضات العضلية التي يقومون بها حين تعرضهم لتلك المخاطر، كانت مثل تلك عند الصراصير غير الملدوغة؛ الأمر الذي يوحي بأن السم يؤثر على القدرة على اتخاذ القرار لا الحركة نفسها.
بالرغم من أن ذاك التلاعب بالتصرف أمرٌ مخيف، إلا أنه لا يسع المرء سوى الاندهاش من عبقرية تلك الحشرة الطفيلية الصغيرة وقدرتها على شل ضحيتها الأكبر حجماً بكثير. إن قام الدبور بشل حركة الصرصور فقط، فما كان بإمكانه حمله إلى العش، وإن قام بقتله فما كان له أن يحصل على مصدر غذاء طازج. فقد تطور الدبور لتجهيز أسلحة دقيقة للتغلب على تلك العقبتين: سم يستهدف دوائر عصبية محددة، مما يضمن أن الضحية ستمشي مطيعةَ إلى قبرها، وتبقى حية بينما يتم افتراسها. ومع غياب الرغبة في الهرب فتلك الصراصير المسكينة ستساعد في نشوء جيل جديد من تلك الدبابير الزمردية المخيفة.