العمل المصرفي هو أساس نظامنا المالي، والواقع أن الانهيارات المالية، مثل انهيار عام 1929 وأزمة الرهن العقاري الثانوي والائتمان في عام 2008، توضح هذا الارتباط، فعندما تفشل البنوك في أداء وظيفتها على نحو لائق فإن الاقتصاد كله يتأثر سلبًا، ومثل العديد من الأشياء المالية والحسابية فقد تطور العمل المصرفي على مدى القرون حتى وصلنا إلى النظام الحالي، وهناك بعض العلامات في التاريخ المصرفي أثرت بوضوح في نظامنا الحالي.
ماير وناثان روتشيلد
ترعرع ماير أمشيل روتشيلد في حي يهودي صغير في المانيا في القرن الثامن عشر، وفي هذا التوقيت منعت القوانين المسيحية العديد من الناس من الإقراض من أجل الربح متحججة بإن ذلك ربا، تاركة البنوك التجارية وأعمالها بصفتها إحدى المهام القليلة التي بإمكان الفرد اليهودي مزاولتها بسهولة، وهذا ما فعله ماير حين بنى شبكة من سادة المجتمع والأمراء عبر إقراضهم بأسعار فائدة منخفضة، وقد أستخدم علاقاته لخلق ثروة عائلية، وتدريب أبنائه على ممارسة الأعمال المصرفية قبل إرسالهم إلى خارج ألمانيا.
مع انتشار أطفال ماير روتشيلد في مختلف أنحاء أوروبا، أصبح بنك روتشيلد أول بنك يتجاوز الحدود المحلية، وقد تولى ابنه ناثان الدور القيادي في ريادة التمويل الدولي، وللعلم، فقد كان يستخدم الحمام الزاجل للتواصل مع إخوته، حوّل عمل ناثان بنكهم إلى بنك مركزي لأوروبا، إذ عمل بصفته وسيطًا للتعامل مع الملوك في أوروبا، وكذلك إنقاذ البنوك الوطنية وتمويل البنية الأساسية، مثل السكك الحديدية التي من شأنها أن تساعد في بدء الثورة الصناعية.
جونيوس وجي بي مورغان
جلب هذا الثنائي المكون من الأب والابن التمويل الحقيقي لأمريكا، وساعد جونيوس مورغان المصرفي جورج بيبودي على توطيد العلاقات الأميركية مع أسواق رأس المال في إنجلترا، إذ كان الإنجليز هم المشترين الرئيسيين لسندات الدولة التي استُخدمت لبناء أميركا، وقد تولى نجله جي بي مورجان العمل بعد أن دفع الائتمان الذي ضمنه والده في الأمة إلى التصنيع السريع. أشرف جي بي على إعادة التنظيم المالي للصناعات من العديد من المصالح المتنافسة إلى صندوق أو مؤتمنين كبيرين يتمتعان بقوة هائلة ورأس مال هائل.
سمح توطيد العلاقات هذا لأميركا بالاندفاع إلى الأمام في مجال الإنتاج في القرن العشرين، ما دفع جي بي ليكون على رأس المصرفيين في وال ستريت. قبل إنشاء بنك الاحتياطي الفيدرالي، مثّل مورجان ونقاباته النظام المصرفي المركزي في أميركا.
باول فاربورغ
كان تدخل جي بي مورجان وتخفيفه حالة الذعر المصرفي التي حدثت عام 1907 سببًا في تسليط الضوء نحو الاحتياج إلى نظام مصرفي أكثر قوة في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد ساعد المصرفي بول فاربورغ شركة لوب أند كومباني في جلب نظام مصرفي مركزي حديث إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
جاء فاربورج إلى الولايات المتحدة من ألمانيا، الدولة التي طالما استخدمت مفهوم البنوك المركزية، وقد أثرت كتاباته ومشاركته في اللجان تأثيرًا شديدًا على فكرة تصميم الاحتياطي الاتحادي، لكن من المؤسف أن واحدة من أهم النقاط التي روج لها -وهي الحياد السياسي لبنك الاحتياطي الفيدرالي- قد اختُرقت عندما حصل الرئيس الأمريكي على السلطة الحصرية المتمثلة في انتقاء قادة هذا البنك.
استمر فاربورج في دعم بنك الاحتياطي الفيدرالي والعمل معه حتى وفاته، لكنه رفض قبول أي منصب أعلى من منصب نائب الرئيس، وساعد في قرار رفع زيادة الحد الأدنى من الأجور الذي توقع الناس أنه سيؤدي لخسارة العاملين وظائفهم، لكن المفاجأة كانت أن العاملين حافظوا على وظائفهم، ولم يوجد أي مؤشر يشير إلى أن زيادة الحد الأدنى للأجور قد جاءت بنتائج عكسية وأفقدت الناس وظائفهم، وهذا المفهوم عمل عليه دافيد كارد في عصرنا الحالي وحصل من أجله على نوبل.
ماديو بي جانيني
قبل أماديو جيانيني كانت بنوك وال ستريت صورة لنخبة المجتمع، فقد كانت فرصة الرجل العادي في فتح حساب مصرفي في بنك مورجان تساوي قدرته على دخول قصر باكينجهام واستخدام غرف النوم فيه، لكن ماديو جانيني غير هذا المفهوم وجعل إتاحة حسابات مصرفية تخدم الرجل العادي هدف حياته، لقد بنى جانيني بنكه عبر جذب المودعين بالإعلانات وإتاحة كل أحجام القروض في ولايته كاليفورنيا.
عندما تقاعد جانيني، بدأ بنك أمريكا في الخروج عن المسار بعد أن استبدل مجلس الإدارة جانيني بعدة أشخاص من وال ستريت، وفكك الشبكة المصرفية وباعها لأصدقاء يعملون في وال ستريت، وبعد أن بدأ الوضع في التدهور عاد جانيني من التقاعد وفاز في معركة انتخابية للعودة مرة أخرى إلى بنكه.
لم يتقاعد جانيني مرة أخرى إلى أن توفي في عام 1949، ولن يتذكره الناس فقط بصفته واحدًا من قلة لا ينتمون إلى وال ستريت كسبوا تأييد الشارع وفازوا بسببه، بل أيضًا كونه الرجل الذي بدأ بإضفاء الطابع الديمقراطي على العمل المصرفي، ولعل النصب التذكاري الأبقى لعمل حياته موجود في كاليفورنيا، بصفتها واحدة من أكبر الاقتصادات في العالم، ويرجع هذا إلى التمويل والائتمان اللذين وفرهما أماديو جانيني لها.
تشارلز ميريل
تشارلز هو وريث العمل الذي بدأه جيانيني، كان تشارلز ميريل قد بنى بالفعل عملًا مصرفيًا استثماريًا ناجحًا من الصفر، وكان في مرحلة ما قبل التقاعد عندما طلبت منه شركة «أي أيه برايس» و«كو» إدارة شركتهما، وقد وافق ميريل على ذلك، شرط أن يضاف اسمه إلى اسم الشركة، وأن يُمنح سيطرة كاملة على اتجاه الشركة، فانتهز الفرصة الجديدة ليجرب أفكاره حول «رأسمالية الشعب» وهو المفهوم الذي أمضى حياته في بنائه.
كانت شركة ميريل الأصلية تشارك بكثافة في تمويل سلاسل المتاجر مثل سيفواي، ورغبت في الاستفادة من دروس سلسلة المتاجر التي تبنّت فكرة وجود هوامش ربح صغيرة مع مبيعات كبيرة، فتحقق الربح الكبير، ما ساعد في خلق صناعة مصرفية للبيع بالتجزئة. رأى ميريل عقبتين أمام رؤيته هما نقص التعليم وانعدام الثقة عقب الانتهاكات التي أدت إلى الانهيار عام 1929.
هاجم ميريل هذه المشكلات مباشرة، فقد كتب هو وموظفوه مئات المقالات والنشرات عن الاستثمار، وعقدوا ندوات للناس العاديين، حتى أن شركة ميريل وفرت رعاية مجانية للأطفال في هذه الحلقات الدراسية كي يتمكن الأزواج من الحضور، وكان الهدف من حملته التعليمية إزالة ضبابية الاستثمار والسوق لعامة الناس.
نشر ميريل أساليب عمل شركته فيما سماه «الوصايا العشر» في تقرير سنوي صدر عام 1949، وكان ذلك بمثابة ضمان عام بأن تتصرف الشركة على نحو يلبي المطالب ويبدد مخاوف عملائها، وكانت الوصية الأولى أن تأتي مصالح العميل أولًا دائمًا.
تبدو الوصايا الآن واضحة سبع وثماني مهام تتعلق بالكشف عن الاهتمام بالعروض والتحذير المتقدم من بيع الشركة للأوراق المالية، ولكنها كانت ثورة في الكيفية التي اقتربت بها الشركات من حسابات العملاء الصغيرة في تلك الأيام.
توفي ميريل قبل أن يرى عودة المستثمر الفردي والفوائد التي حققتها سياساته على الشركة، ولكن الفضل يُنسب إليه في إدراك واستحداث عبارة «إحضار وول ستريت إلى الشارع».
ما زال تطور العمل المصرفي قائمًا
إن تطور العمل المصرفي لم ينته بعد، فقد بدأت رحلتنا بآليات العمل المصرفي وانتهت بالتحول الديمقراطي في مجال التمويل للجميع. إن فكرة رفض إجراء أعمال مصرفية مع الناس العاديين غريبة لكنها كانت واقعًا تنفذه معظم البنوك قبل 70 عامًا.
أفضل ما يمكننا أن نأمل تحقيقه هو أن يواصل عدد أكبر من الأفراد مثل ميريل وجيانيني تحدي وتحسين النظام الذي نعتمد عليه كثيرًا.
اقرأ أيضًا:
فريدريك هايك عالم الاقتصاد: سيرة شخصية
ترجمة:عمرو سيف
تدقيق: سمية بن لكحل
مراجعة: نغم رابي