بالقرب من حوض نهر يانا، في منطقة شاسعة من التربة الصقيعية، توجد حفرة هائلة على شكل الشرغوف في الأرض. وتُسمَى حفرة باتاجايكا.
تُعرَف هذه الحفرة، أيضًا، باسم الانهيار الهائل، وهي الأكبر من نوعها؛ إذ يبلغ طولها نحو 0.6 ميل (1 كلم) وعمقها 282 قدمًا (86 مترًا).
لكن هذه الأرقام سرعان ما ستتغير، لإن الحفرة تزداد اتساعًا بسرعة كبيرة.
يتجنب سكان المنطقة تلك الحفرة، ويقولون إنها “بوابة جهنم”.
لكن الموقع، في نظر العلماء، مثير للاهتمام للغاية.
ففحص الطبقات التي كشفت عنها الحفرة يُقدم أفكارًا حول الصورة التي كان عليها عالمنا من قبل.
وفي الوقت نفسه، تُقدم سرعة اتساع الحفرة معلومات متعمقة فورية عن أثر تغيّر المناخ على التربة الصقيعية المتزايدة في الهشاشة.
يوجد نوعان من التربة الصقيعية. أحدهما يتكوّن من جليد الأنهار الجليدية المتبقي من العصر الجليدي الأخير والمدفون الآن تحت الأرض.
والنوع الآخر، وهو الموجود حول حفرة باتاجايكا، وهو الجليد الذي تكوّن في الأرض من تلقاء نفسه.
وينحصر هذا الجليد، عادةً، تحت طبقة من الرواسب، ويكون قد تجمد على مدار سنتين على الأقل.
تفتح حفرة باتاجايكا منطقة ضخمة من التربة الصقيعية التي كانت مدفونة من قبل، والتي تكوّن بعضها قبل الكثير من آلاف السنين.
وعلى مدار المائتي ألف عام الماضية، تبدّل مناخ الأرض على نحو متكرر.
بدأ السبب الذي أدى إلى تكوّن هذه الحفرة في ستينيات القرن العشرين. فالإزالة السريعة للغابات أدت إلى حرمان الأرض من ظل الأشجار في أشهر الصيف الأكثر دفئًا، ما جعل ضوء الشمس يدفئ الأرض ببطء.
وما زاد الأمر سوءًا فقدان “الندى” البارد الصادر عن الأشجار عند نضحها، والذي كان من الممكن أن يجعل الأرض باردة.
ويقول جوليان مورتون من جامعة سوسكس في المملكة المتحدة: “أدى كلٌ من تراجع الظل والنضح إلى تدفئة سطح الأرض”.
ومع ازدياد دفء سطح الأرض، تسبب ذلك في تدفئة طبقة التربة الموجودة أعلى التربة الصقيعية مباشرةً.
وتسبب ذلك في إذابة التربة الصقيعية نفسها.
وما أن بدأت هذه العملية وتعرض الجليد لدرجات حرارة أعلى حتى زاد الذوبان.
لهذه الأسباب، يرصد العلماء بنشاط الحفرة. وتوصلت إحدى الدراسات، التي نُشِرت في دورية “كوارترلي ريسيرش” في فبراير 2017، إلى أن تحليل الطبقات الآن يمكن أن يكشف عن مائتي ألف عام من تاريخ المناخ.
وعلى مدار المائتي ألف عام الأخيرة، تبدّل مناخ الأرض على نحو متكرر ما بين فترات “بين جليديين” دافئة وفترات “جليدية” باردة تمتد فيها الصفائح الجليدية.
ويضيف مورتون قائلًا إن طبقات الرواسب في حفرة باتاجايكا تقدّم “سجلًا متواصلًا للتاريخ الجيولوجي غير المعتاد نوعًا ما. ومن المفترض أن يتيح لنا ذلك إمكانية تفسير تاريخ المناخ والبيئة في ذلك المكان”.
لا يزال فهمنا لتاريخ المناخ في جزء كبير من شمال سيبريا محدودًا.
لكن التواريخ ليست مؤكدة في الوقت الراهن.
ويقول مورتون: “لا زلنا نعمل على التسلسل الزمني”.
وينبغي على مورتون، بعد ذلك، جمع المزيد من الرواسب وتحليلها.
ومن وجهة النظر المثالية، ستُجمَع هذه الرواسب باستخدام حفّار من أجل الحصول على “سلسلة متواصلة من الرواسب”، والتي ستساعد في تقديم المزيد من التواريخ الدقيقة.
يمكن، بعد ذلك، مقارنة سجل التربة الصقيعية بالبيانات الموجودة بسجلات درجات الحرارة الأخرى، مثل عينات الجليد الجوفية المأخوذة من الصفائح الجليدية.
ويقول مورتون: “في الأساس، نحن نحاول معرفة ما إذا كان تغيّر المناخ في أثناء العصر الجليدي الأخير [في سيبريا] قد اتسم بقدر كبير من التنوّع أم لا ما بين الدفء والبرودة، كما حدث في منطقة شمال الأطلنطي”.
وذلك أمر مهم، لأن فهمنا لتاريخ المناخ في جزء كبير من شمال سيبريا لا يزال محدودًا.
ومن خلال إعادة إنشاء التغيرات البيئية التي حدثت في الماضي، يمكن أن يساعد العلماء في التبنؤ بتغيرات مماثلة.
على سبيل المثال، منذ 120 ألف عام، شهد المناخ فترة بين جليديين كان فيها أكثر دفئًا بعدة درجات من الآن.
ويقول مورتون: “إذا تمكننا من فهم ما كان عليه النظام البيئي آنذاك، فقد يمنحنا ذلك لمحة حول كيف يمكن أن تتغير البيئة الآن، إذا كان المناخ يزداد دفئًا”.
نعلم الآن أن هذه التربة الصقيعية تتغيّر سريعًا.
إذا استجابت التربة الصقيعية للدفء مثلما فعلت بعد العصر الجليدي الأخير، فيمكننا توقع رؤية تكوّن المزيد من الحفر والأحواض الكبيرة والبحيرات.
وقد تبدأ، أيضًا، أراضٍ جديدة في الظهور، مع كشف الثليج الذائب عن أرض مدفونة على عمق يتراوح ما بين 33 إلى 66 قدمًا (10 إلى 20 مترًا) تحت السطح الأصلي. ويقول مورتون: “لدينا تلك التربة الصقيعية الغنية بالجليد التي تبدأ في الذوبان من أعلى لأسفل مع جفاف الجليد وذوبانه، ومن ثم سيتكوّن لدينا منظر طبيعي جديد.
قد لا تكون هذه الآثار بعيدة الحدوث. فنحن نعلم الآن أن هذه التربة الصقيعية تتغيّر سريعًا.
لقد رصد فرانك جونتر، الأستاذ بمعهد ألفريد فيجنر في بوتسدام بألمانيا، وزملاؤه موقع الحفرة على مدار العقد الماضي، مستخدمين صورًا من الأقمار الصناعية لقياس معدل التغيّر.
يعني النمو المتواصل أن الحفرة تزداد عمقًا عامًا تلو الآخر.
وفي أثناء دراستهم، ازداد طول الجدار الرأسي بمتوسط 33 قدمًا (10 أمتار) كل عام. وفي الأعوام الأكثر دفئًا، كانت التغيّرات أكثر من ذلك، وتصل أحيانًا إلى 98 قدمًا (30 مترًا) كل عام. وقد أعلن جونتر هذه النتائج في اجتماع الاتحاد الجيوفيزيائي الأمريكي في ديسمبر 2016.
ولدى جونتر، أيضًا، أسباب تجعله يعتقد أن الجدار الجانبي للحفرة المتزايدة حجمًا سيصل إلى وادٍ مجاور يشهد تجرفًا في شهور الصيف القادمة. وسيكون ذلك “على نحو مرجح للغاية” سببًا لمزيد من النمو.
ويقول جونتر: “على مدار عدة أعوام، رأينا أنه لا يوجد تسارع أو تباطئ كبير في هذه المعدلات في المتوسط، لكن النمو متواصل.
ويعني النمو المتواصل أن الحفرة تزداد عمقًا عامًا تلو الآخر”.
ولهذا عواقب أخرى مُقلِقة.
الكثير من الرواسب الجليدية التي يُكشَف عنها الآن تكوّنت في أثناء العصر الجليدي الأخير.
ويحتوي هذا الجليد الأرضي على الكثير من المادة العضوية، التي تشمل الكثير من الكربون الذي كان محفوظًا لآلاف الأعوام.
ويضيف جونتر: “التقديرات العالمية لمقدار الكربون المخزن في التربة الصقيعية مساوية لمقداره في الغلاف الجوي”.
لا يوجد ما يشير إلى أن تعرية هذه الحفرة ستتباطئ في أي وقت قريب.
مع ذوبان المزيد من التربة الصقيعية، يتعرض المزيد من الكربون للميكروبات.
فتستهلك الميكروبات الكربون، منتجةً الميثان وثاني أكسيد الكربون كمواد فائضة.
ينطلق، بعد ذلك، غازا الدفيئة هذان في الغلاف الجوي، ما يؤدي إلى تزايد سرعة التدفئة.
ويقول جونتر: “هذا ما نطلق عليه التغذية الراجعة الإيجابية. التدفئة تُزيد من سرعة التدفئة، ويمكن أن تظهر هذه الخصائص في أماكن أخرى.
وهذا ليس مجرد خطر يهدد البنية التحتية. فلا يمكن لأحد إيقاف هذا التطور. لا يوجد حل هندسي لإيقاف هذه الحفر من التطور”.
لا يوجد ما يشير إلى أن تعرية هذه الحفرة ستتباطئ في أي وقت قريب، فهي تتزايد عامًا بعد عام.
يجعل ذلك مستقبل التربة الصقيعية في سيبريا يبدو متقلبًا للغاية بالتأكيد.
- ترجمة: أميرة علي عبد الصادق
- تدقيق: يحيى أحمد
- تحرير: ياسمين عمر
- المصدر