تعد الثقوب السوداء إحدى أغرب الأشياء في الكون، ومع أن الباحثين حاليًا يفهمون هذه الأشياء المميزة أكثر من أي وقت مضى (من طريق دراسة التموجات الهائلة التي تخلقها الثقوب السوداء في الزمكان ومعرفة كيفية تشكلها)، فإن تحولات وتغيرات كبرى هزت فهم البشرية للثقوب السوداء بأكمله.
رغم أن وجود الثقوب السوداء شبه مؤكد، ولكن الخبراء لم يكونوا واثقين جدًا قبل نصف قرن من الآن. يقول روبرت مان، الفيزيائي المتخصص في الثقوب السوداء والمعلومات الكمومية، عن الأيام التي كان فيها طالبًا في السبعينيات: «لقد شكك الأساتذة بها حقًا».
تعد التلميحات الأولى لوجود الثقوب السوداء أقدم من الدستور الأمريكي، ففي عام ١٧٨٣، تصور العالم البريطاني القس جون مايكل الثقوب السوداء نجومًا مظلمة، إذ تساءل مايكل كيف سيبدو نجم ما إذا كان ثقيلًا لدرجة أن السرعة اللازمة للهرب من جاذبيته أكبر من سرعة الضوء، يقول مان.
كان سؤال مايكل جيدًا، لكن بعد سنوات قليلة، في تسعينيات القرن الثامن عشر، أقنع الرياضي الفرنسي الشهير بيير سيمون لابلاس وعدد من المفكرين الرائدين المجتمعَ العلمي أن الضوء يتصرف كموجة، ولذلك لا يتأثر بالجاذبية، يقول مان. جعل هذا الفهم الجديد للضوء نظرية مايكل تبدو غير واقعية.
لكن هذه الفكرة أُعيد إحياؤها بعد عام ١٩١٥ عندما قدم ألبرت أينشتاين نظريته النسبية العامة، التي تقول إن أي جسم له كتلة يحني الزمكان بالتناسب مع ثقله، ويسمح لكمية معينة من المادة أن تصبح كثيفة جدًا لدرجة أنها تنهار إلى نقطة لانهائية الكثافة تسمى نقطة التفرد (Singularity – قلب الثقب الأسود).
غالبًا ما يقول الناس إن أينشتاين تنبأ بوجود الثقوب السوداء، ولكن هذا ليس صحيحًا تمامًا. يقول خافيير غارسيا، عالم الفيزياء الفلكية في معهد كال تِك الذي يستعمل الأشعة السينية لدراسة الخواص الأساسية للثقوب السوداء «أينشتاين طوّر النظرية» وهذا مهم لوجودها، ولكنه لم يتنبأ بهذه العناصر بحد ذاتها.
استخدم أينشتاين في عام ١٩١٥ نظرية النسبية العامة لشرح حركة عطارد حول الشمس. شجع هذا الأمر -وتطبيقات أخرى ناجحة لنظرية أينشتاين- العلماء على استكشاف مضامين أعمق لها.
في غضون سنة، سمع كارل شوارزشايلد -الذي كان ملازمًا في الجيش الألماني بالتجنيد الإلزامي وعالم فلك كما وصفه مان- بنظرية أينشتاين، وكان أول شخص يحل معادلات أينشتاين التي أظهرت أن نقطة التفرد يمكن أن تتشكل، وأن لا شيء يمكنه الحركة بسرعة كافية للهرب من جاذبيتها فور الاقتراب منها إلى حد معين.
بعدها، في عام ١٩٣٩ حاول الفيزيائيان روبر أوبنهايمر (من مشروع مانهاتن الشهير، أو المخزي) وهارتلاند سنايدر، اكتشاف إمكانية أن يقوم نجمٌ بالشيء شبه المستحيل الذي تحدث عنه شوارزشايلد.
بافتراض وجود كرة من الغبار كبيرة بما فيه الكفاية، فإن الجاذبية ستسبب انهيار الكتلة وتشكل نقطة تفرد، وهذا ما أظهرته حساباتهما.
ولكن ومع اشتعال فتيل الحرب العالمية الثانية، تجمد التقدم في هذا المجال حتى نهاية الخمسينات، عندما بدأ الناس بمحاولة اختبار نظريات أينشتاين مجددًا.
في أثناء تفكيره بتأثير الثقب الأسود، سأل الفيزيائي جون ويلر أحد طلابه (جيكوب بيكينشتاين) سؤالًا أربك العلماء في نهاية الخمسينات، وكان السؤال حسب اقتباس مان: «ماذا يحدث إذا سكبت شايًا ساخنًا في ثقب أسود؟».
الجواب أن الثقب الأسود سيشربه بالتأكيد، ولكن الشاي الساخن يسبب مفارقة، أي شيء ساخن يشع حرارة، ومزج شيء ساخن مع شيء بارد يسبب تبادلًا حراريًا؛ عندما تضع مكعبات ثلج في حمام ساخن فإن الثلج يسخن والماء يبرد.
إذا كان الثقب الأسود يبتلع كل شيء، ولا يصدر شيئًا، فذلك يعني أنه لا يصدر حرارة، ويجب أن تكون حرارته صفرًا. ثقب أسود يمتص مادة ساخنة ولا يصبح أسخن «يناقض كل ما نعرفه عن الترموديناميك»، يقول مان.
بحلول الستينات، أصبح لهذه الأشياء اسم جذاب (الثقوب السوداء)، وقد فسر المصطلح ميزتين: أنها ثقوب نظرًا لأن الأشياء يمكن أن تسقط فيها ولا تخرج أبدًا، وأنها تظهر عاتمةً لأي مراقب.
استمر بيكينشتاين بالعمل مع ستيفن هوكينغ ليكتشفا أن الثقوب السوداء تصدر طاقة. يطلق هذا الإشعاع، المسبب بالتغيرات الكمومية في الفضاء كمية صغيرة جدًا من الطاقة. لكن بحثهم أثبت امتلاك الثقوب السوداء للحرارة؛ مجيبًا بصورة نهائية عن السؤال الذي طرحه ويلر قبل عقد ونصف.
حل توظيفهم للفيزياء الكمومية في الثقوب السوداء معضلة واحدة، ولكنه خلق أخرى، يقول مان.
بحسب الميكانيك الكمي فإن المعلومات لا يمكن تدميرها، وحاليًا لا يملك العلماء أية طريقة ليعرفوا أي شيء عن الأشياء التي دخلت الثقوب السوداء من الإشعاع القليل الذي تصدره؛ ضاعت تلك المعلومات.
«لا يوجد توافق حتى الآن على كيفية حل هذه المعضلة»، يقول مان، ولكن بعض الباحثين يؤمنون أنهم قريبون من حلها.
أسهم هوكينغ في حل لغز آخر ارتبط بالثقوب السوداء منذ البداية. لم يمنع حل الثقوب السوداء الذي جاء به شوارزشيلد في بداية العشرينات الضوء من الهرب فحسب، بل تضمن أيضًا فجوة في الزمكان في قلب الثقب الأسود؛ نقطة التفرد. لكن في ذلك الوقت، لم يكن العلماء واثقين ما إذا كانت هذه صفة عامة لدى الثقوب السوداء، أو أنها فجوة في حسابات شوارزشيلد ولاحقًا أوبنهايمر وسنايدر.
أظهر هوكينغ وبينروز أن حل شوارزشيلد -الذي خلق نقطة تفرد- لم يكن مقتصرًا على النجوم الكروية فقط، فأي كتلة كبيرة بما فيه الكفاية ستفعل ذلك.
تكدست مشاهدات الأشعة السينية لثقوب سوداء محتملة عبر العقود، ولكن لم يملك الفلكيون أدلة قاطعة على وجود الثقوب السوداء حتى أُعلنت عن ذلك أول اكتشافات LIGO (مرصد أمواج الجاذبية) عام ٢٠١٦. وليس هذا فحسب، تصطدم الثقوب السوداء معًا مشكلة ثقوبًا سوداء أكبر ومصدرة موجات جاذبية، يقول مان.
لا زال العلماء في حيرة حيال مفارقة المعلومات ونقاط التفرد، «لكننا نرى هذه الأشياء، ولقد التقطنا صورة لأحدها»، يقول مان، مشيرًا إلى أول صورة لمادة متوهجة حول ثقب أسود التقطها تلسكوب أفق الحدث Event Horizon Telescope في ٢٠١٩.
يستمر التلسكوب الجديد بتسليط الضوء على أكثر الأشياء المظلمة في الكون، وعندما تجهز التحديثات الكبرى، يأمل فريق تلسكوب أفق الحدث بالتقاط أول فيديو لثقب أسود.
اقرأ أيضًا:
تسعة أحداث مثيرة تتعلق بالثقوب السوداء حدثت سنة 2021
قد تزداد الثقوب السوداء حجمًا مع توسع الكون
ترجمة: إيهاب عيسى
تدقيق: أحمد فواز
مراجعة: حسين جرود