جيمس بيبلز ، الفائز بجائزة نوبل للفيزياء لعام 2019 – أُعطيت جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2019 لثلاثة علماء:
- الأول هو «جيمس بيبلز» James Peebles من جامعة برينستون، وقد حصل على نصف الجائزة.
- الاثنان الآخران هما: «ميشيل مايور» Michel Mayor، و«ديدييه كويلوز» Didier Queloz من جامعة جنيف، وقد تشاركا في النصف الثاني؛ لاكتشافهم أول كوكب سيّار يدور حول نجم آخر غير الشمس.
سوف أتحدث هنا عن «جيمس بيبلز» الذي يُعدُّ أحد آباء مجالي العلمي وأعرفه شخصيًّا، وهو أحد ألمع العقول التي أعرفها، وألطف الأشخاص الذين قابلتهم.
«جيم بيبلز» كندي الأصل، يعمل في جامعة بيرنستون الأمريكية، له إسهامات كثيرة في علم الكون، يضيق المجال بالإسهاب بها، وسوف أركز هنا على أهم اثنين منها:
تموجات الأشعة الميكرونية الكونيّة:
كان «بيبلز» أول الذين تنبؤوا نظريًّا بصفات الأشعة التي تُسمى بـ «الأشعة الميكرونية الكونية» “Cosmic Microwave Background”، وخاصة صفات التموجات التي نراها بها وعلاقتها بخصائص الكون وتاريخه.
هذه الأشعة هي أقدم أشعة نستطيع أن نرصدها، وتأتي من ماضي الكون السحيق، إذ تحررت إلى رحاب الفضاء حين كان عمر الكون لا يتعدى 380 ألف عام، ونتعلم منها الكثير عن الكون وحرارته ومجمل طاقته ومحتوياته وما إلى ذلك من معلومات لا تُثمّن عن الكون وتاريخه.
عليّ أن أوضح أن هذه التموجات ضئيلة جدًّا جدًّا، والشيء الأول الذي نتعلمه من الأشعة الميكرونيّة الكونيّة هو أن الكون كان في بدايته متجانسًا تجانسًا مذهلًا.
قاس قمر اصطناعي أطلقته وكالة الفضاء الأمريكية ناسا اسمه COBE -وهي اختصار لـCosmic Background Explorer- في عام 1990 هذه الأشعة وحصل على نتائج مهمة عنها.
النتيجة المهمّة الأولى لهذا القمر الاصطناعي هي إثبات أنّ الأشعة الكونيّة تأتي من كل مكان في الكون، ولها نفس الحرارة -2.726 كلفن- أي حوالي 270 درجة مئوية تحت الصفر، بصرف النظر عن أي اتجاه ننظر إليه في صفحة السماء.
في الحقيقة هناك فروقات بين حرارة نقطة وأخرى على صفحة السماء بنسبة واحد في المئة ألف، أي تختلف الحرارة من نقطة لأخرى بمقدار سُمك شعرة نسبةً لطول إنسان بالغ! سوف نأتي لهذه الاختلافات في الفقرة القادمة، لكن ما أودّ تأكيده هنا أن الأشعة الميكرونية الكونية تزوّدنا بدليل حاسم أنه حين إصدار هذه الأشعة كان الكون متجانسًا جدًّا، إذ لا يمكن لحرارة الكون أن تظهر بهذا الشكل الثابت في كل اتجاه ننظر إليه ما لم يكن الكون نفسه متناسقًا ومتماثلًا.
هذه الحقيقة نراها أيضًا إذا نظرنا إلى توزيع المجرات في الكون على أبعاد كبيرة جدًّا، فهناك أيضًا لا نستطيع أن نرى الفرق بين منطقة وأخرى من الكون.
توالت القياسات المتكررة للأشعة الميكرونية الكونية منذ ذلك الحين، إما بواسطة أجهزة تحملها الأقمار الاصطناعية لقياس الأشعة في الفضاء الخارجي، أو تحملها المناطيد الهوائية التي تُطلَق لارتفاعات كبيرة، وذلك لتجنُّب الغلاف الجوي للأرض قدر الإمكان، إذ إن هذا الغلاف يُعدُّ عائقًا لقياس تموجات الأشعة الميكرونية الكونية.
تمكّنت هذه الأجهزة من رصد تموجات الأشعة الميكرونية بحساسية كبيرة واستبانة زاوية (Angular Resolution) دقيقة جدًّا.
آخر الأقمار الاصطناعية الذي أُطلق عام 2009 لرصد هذه الأشعة هو القمر الاصطناعي «بلانك» -Planck، على اسم العالم الشهير-، أطلقته وكالة الفضاء الأوروبية (ESA)، وقد حرر آخر نتائجه عام 2019.
الصورة اليسارية من الشكل رقم 1 تبيّن توزيع هذه التموجات على صفحة السماء مثلما رصدها المرصد الفضائي «بلانك» Planck، ولاحظ أوّلًّا أن حرارة الأشعة تُقاس بالميكروكلفين (واحد من مليون من الكلفن)، إذ إن متوسط التذبذبات هو حوالي ثلاثين ميكرو كلفين (مقارنة بـ 2.726 كلفن – قيمة الحرارة المتوسطة لهذه الأشعة).
يحلل الفيزيائيون هذه الصورة بواسطة تقنية معينة تُسمى بالعربية: «طيف القدرة» Power Spectrum، وهي تقنية تقيس مقدار القدرة الموجودة على أبعاد مختلفة في الصورة.
في حالة الكون، تُقسَم هذه الأبعاد لزوايا مختلفة، وتُقاس القدرة التي تحملها كل زاوية.
على سبيل المثال: لو فرضنا أنّ السماء ممتلئة ببقع دائرية، قطر كل بقعة منها درجة واحدة، ولا توجد بها بقع من نوع آخر، لَبيَّن هذا النوع من التحليل أن القدرة الموجودة في السماء متركزة في بُعد ملائم لدرجة واحدة.
الشيء المميز لِطَيف القدرة هو أننا نستطيع أن نتنبأ -حسب نظرية الانفجار الكبير- بكيفية توزيع طيف القدرة عمومًا.
يُبيّن الشق الأيمن من الشكل رقم 1 نتائج تحليل طيف القدرة كدالة للزاوية (المحور الأفقي الأعلى)، لاحظ أنّه في هذا الشكل تقلّ قيمة الزاوية كلّما توجَّهنا إلى يمين المحور (هذا معاكس لما نراه عادة في الرسومات البيانية).
النقاط الحمراء تُبيِّن المعطيات التي قاستها الأجهزة المختلفة (بلانك وغيره)، بينما الخطّ الأخضر يُبَيِّن الحساب المتوقَّع من نظرية تكوُّن الكون ونشوء المبنى المعقّد فيه، وقد كان «بيبلز» أحد أوائل الذين أجروا هذا الحساب.
تُعدُّ الملاءمة المذهلة التي نراها بين النظرية والمعطيات القياسية في هذا الرسم البياني من أكبر نجاحات نظرية الانفجار، إذ لا توجد نظرية أخرى تستطيع أن تنافسها -ولو من بعيد- في مثل هذا النجاح.
نستطيع أن نتعلم الكثير من هذا التحليل، لكني سأقف هنا على شيئين فقط:
الشيء الأول هو مكان القمة الأولى التي نراها في الرسم البياني الظاهر في يمين شكل رقم 1، وهو درجة واحدة تقريبًا، إذ نتعلم من هذا أن كثافة الطاقة الكلية للكون هي صفر، وهذا أمر مذهل سوف أسهب فيه في موضع آخر.
الأمر الثاني الذي نتعلمه من الرسم البياني هو عن كثافة المادة العادية المكوَّنة من العناصر الكيميائية.
هذه الكثافة نستنتجها -لأسباب فيها شيء من التعقيد- من العلاقة بين القمة الأولى والثانية في الرسم البياني، وينتج عنها أن نسبة هذه المادة من كثافة الطاقة في الكون هي حوالي 5٪ فقط، أي أن 95٪ من الطاقة في الكون هي من مركبات أخرى لا صلة لها بالمادة التي نعرفها، وهذه الحقيقة -بمفهوم معيّن- هي استمرار للثورة الكوبيرنيكية، فنحن لسنا مركز المجموعة الشمسية، والشمس هي نجم عادي غير هام يقع على طرف مجرتنا، ومجرتنا مجرّة عادية لا تتميز عن مليارات المجرّات الأخرى بشيء، ولكننا إضافة إلى كل هذا مصنوعون من المادة الباريونية التي تُعد نسبة ضئيلة من طاقة الكون.
تكوّن البنية المعقدة في الكون:
الإسهام الثاني الكبير لـ «بيبلز» هو في مجال تطور البنية المعقدة في الكون.
كان الكون في بدايته متجانسًا جدًّا، تتوزّع الطاقة والمادّة في أرجائه بتناسق مذهل، وهذا ما تبينه لنا الأشعة الميكرونية الكونية جليًّا، إذ تعطينا الدليل القاطع على هذا التجانس الكبير.
لكن الكون المبكر كونٌ غريب، تغيب فيه المجرات والنجوم عن أي حضور، وهو أيضًا خالٍ من معظم العناصر الأساسية التي نحتاج إليها من أجل تطور الحياة على الأرض، كالكربون والأكسجين والنيتروجين والحديد وغيرها من العناصر الكيماوية.
وقد بيّنتُ في الفصول السابقة أن هذه ليست قصة حيكت من خيالنا الوقّاد، بل هي نظرية علمية دقيقة تدعمها أعداد كبيرة جدًّا من المعطيات الرصدية الواضحة.
من الطبيعي أن نسأل: كيف انتقل الكون من بدايته المتجانسة -التي تتماثل بها خواصّ كل نقطة فيه مع خواصّ أخواتها تماثلًا يكاد يكون تامًّا- إلى الكون المركّب الذي يحيط بنا؟ وما هي خواصّ هذا التركيب؟ وما الذي يدفعه؟
يُعَدُّ البحث في هذه الأسئلة أهم مجالات البحث العلمي لفهم الكون، إذ يُمكّننا من ربط ما يحدث به على أكبر الأبعاد مع ما يجري على أصغرها، خاصة في بيئتنا الفضائية القريبة، وتُعَدُّ أيضًا الإجابات على هذه الأسئلة الحبلَ الرابط بين صفات الكون في الماضي السحيق وبين ما يحدث الآن، وهذا هو أحد إسهامات «بيبلز» الكبيرة.
تخيّل منطقة معينة في الكون المبكّر، ذات كثافة أعلى من معدل كثافة الكون بنسبة ضئيلة جدًّا، مثلما يظهر في الشقّ الأيسر من الشكل رقم 2، ماذا سيحدث لهذه المنطقة مع تطوُّر الكون؟
حتى نبسِّط الإجابة على هذا السؤال دعونا نفرض للحظة أن الكون ساكنٌ لا ينتشر، ففي مثل هذه الحالة تكون قوة الجاذبية التي تجذب بها هذه المنطقة نفسها أكبر، ما يؤثر عليها من الخارج، وذلك لأن الجاذبية التي تأتي من توزيع المادة خارج هذه المنطقة يكاد بعضُها يلغي بعضَها، إذ يكون تأثيرها ضعيفًا نسبيًّا؛ لأنها تأتي من كل الجهات،
ولذلك تبدأ هذه المنطقة بالانكماش على نفسها، مثلما تُبيِّن الأسهم في الجزء الأوسط من الشكل رقم 2، ونتيجة لهذا الانكماش تزداد الكثافة في الجزء المركزي لهذه المنطقة، ومن ثَمَّ تزداد قوة الجاذبية التي تجذب هذه المنطقة إلى المركز أكثر، وتنكمش أكثر، وهلمَّ جرًّا.
تُسمّى هذه العملية بعدم الاستقرار الجاذبي Gravitational Instability، وتنشأ نتيجة حلقة التغذية الاسترجاعية feedback loop بين الازدياد في الكثافة، والازدياد في الجاذبية، فكلما زاد أحدها زاد الآخر، وتنتهي هذه العملية عندما تخلق الحركةُ العشوائية للمادة -التي تزداد كلما ازداد انكماش هذه المنطقة- حالةَ توازن مع الجاذبية، مثلما في الشقّ الأيمن من الشكل رقم 2.
ولتوضيح هذا بصورة أفضل، لنفرض أن المادة في هذه المنطقة غازية عادية، عندها تكون الحركة العشوائية لجسيمات الغاز هي نفسها الحرارة، أي أن انهيار هذه المنطقة على نفسها يؤدي إلى ازدياد الحرارة، التي ترفع تبعًا من الضغط الذي يقاوم بدوره قوة الجاذبية.
لكن كيف يتغير تأثير الجاذبية على هذه المنطقة إذا أخذنا في الحسبان أيضًا أنها تنتشر مع بقيّة الكون؟
الإجابة على هذا السؤال تتعلّق بكثافة المنطقة، فإذا كانت هذه الكثافة أكبر بقليل من معدل الكثافة في الكون-ولكن ليس بقدر كبير يوقف انتشار أجزائها-، فكل ما يحدث هو أن الجاذبية الزائدة تُبطيء انتشار هذه المنطقة، ولكن لا توقفه.
أما إذا كانت الكثافة أكبر من معدل كثافة الكون بقدر يكفي للتغلّب على انتشار المادة من حولها، فإنها ستنجح في وقف هذا الانتشار محليًّا -أي حول هذه المنطقة فقط-، إذ تؤدّي إلى انكماش هذه المنطقة إلى أن توقف الحركة العشوائية للمادة هذا الانكماش، مثلما ذكرنا سابقًا.
هذه المواقع هي مواقع تكوّن المجرّات والنجوم، أي أن المجرّات تنشأ في تلك المناطق من الكون الذي انفصلت عنه نتيجة كثافتها، ومن ثَم أصبحت تُشَكِّل «جُزُرًا كونية مستقلة» لا تخضع لانتشاره.
إذن مع ابتعاد المجرّات عن بعضها نتيجة لانتشار الكون، فإن المادة داخل المجرّة لا تخضع لهذا الانتشار، ولهذا لا نشعر داخل المجرة بانتشار الكون، أي أنّ المجرّة بعد أن تنفصل عن انتشار الكون تصبح كيانًا مستقلًّا منعزلًا -بمفهوم ما- عن تطوُّر هندسة الكون العامة.
من الطريف أن نذكر أن مصطلح المجرّة باعتبارها «جزيرة كونية» مستقلة يعود إلى الفيلسوف الكبير «عمانوئيل كانط» Immanuel Kant، الذي كان يعمل في العلوم الطبيعية قبل أنْ يُحِّول اهتمامه إلى الفلسفة.
لا تعيش هذه المجرات بمعزل عن بعضها، بل إن آلاف المليارات من المجرّات المُبعثرة تفصلها عن بعضها مسافاتٌ هائلة من فراغ لا يستوعب العقل مقداره، وجزء من هذه المجرات يتجمّع فيما يُسمّى «عناقيد المجرّات» Galaxy Clusters، التي قد يصل عدد المجرات فيها إلى عشرة آلاف مجرّة، أو يتجمّع في مجموعات المجرّات Galaxy Groups، التي قد يصل عدد المجرات فيها إلى بضع عشرات، أمّا باقي المجرّات فتتجمّع في هيكل عملاق من خيوط كونيّة Cosmic Filaments تربط بينها شبكة عنكبوتية كونية Cosmic Web هائلة.
يُبيِّن الشّكل رقم 3 الشبكة العنكبوتية الكونية التي يخطها توزيع المجرّات على صفحة الفضاء الفلكي الرحب.
هذه الصورة نتجتْ عن طريق برنامج حاسوب يُحاكي عملية نشوء المبنى في الكون وتكوُّنه، مثلما علمنا «بيبلز»، وهي تشبه كثيرًا ما نراه في الكون في الواقع.
كل نقطة صفراء في هذا الشكل هي مجرّة واحدة، والنقاط الزرقاء والبنفسجيّة تُبَينِّ مناطق الكثافة المرتفعة.
نرى بوضوح في مركز هذا الشكل عنقود مجرّات كبيرًا تنبعث منه خيوط كونية في اتجاهات مختلفة، وحين تلتقي هذه الخيوط مع بعضها تُشَكّل عناقيد مجرات أو مجموعات مجرّات لترسم هيكلًا عظْميًّا من الخيوط العنكبوتية الرائعة.
إعداد البروفيسور سليم زاروبي – تدقيق لغوي لعثمان صالح
إقرأ أيضًا جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2019