هو شاعر وكاتب ومؤرخ إنجليزي، وُلد في لندن 9 ديسمبر 1608 وتُوفي 8 نوفمبر 1674، ويُعد أهم كاتب إنجليزي بعد وليام شكسبير. اشتهر ميلتون بقصيدة الفردوس المفقود، التي يعدها كثيرون أعظم قصيدة ملحمية في الأدب الإنجليزي، وتثبت بوضوح -بجانب استرداد الفردوس وعذاب شمشون- أنه أحد أعظم الشعراء الإنجليز. دعا في أعماله النثرية إلى إلغاء كنيسة إنجلترا وإعدام الملك تشارلز الأول. ومنذ بداية الحروب الأهلية الإنجليزية في 1642 حتى بعد فترة طويلة من عودة الملك تشارلز الثاني في 1660، تبنى ميلتون فلسفة سياسية تعارض الاستبداد والدولة الدينية.
ولم يقتصر تأثيره في الحرب الأهلية وفترة خلو العرش فقط، بل أثر في الثورتين الأمريكية والفرنسية. في أعماله اللاهوتية، قدّر حرية الضمير والأهمية القصوى للكتاب المقدس بوصفه مرشدًا في مسائل الإيمان والتسامح الديني تجاه الخارجين عن الدين. وبعد 1649 أصبح ميلتون صوت الكومنولث الإنجليزي بوصفه موظفًا مدنيًا، وذلك بتوليه المراسلات الدولية ودفاعه عن الحكومة ضد الجدل الخارجي.
حياته المبكرة وتعليمه
كان جد ميلتون لأبيه -ريتشارد- كاثوليكيًا مخلصًا، إذ طرد ابنه جون -والد ميلتون- من منزل العائلة في أوكسفوردشاير لقراءته الإنجيل الإنجليزي (البروتستانتي)، فأسس الأب شركة في لندن، وعمل في التدقيق وإعداد مستندات المعاملات القانونية، وعمل أيضًا مقرضًا يتفاوض مع الدائنين لترتيب قروض لمصلحة عملائه. وله من زوجته -سارة جيفري التي كان والدها تاجر أقمشة- ثلاثة أطفال: آن وجون وكريستوفر. ومع أن كريستوفر أصبح محاميًا ملكيًا وربما كان كاثوليكيًا، فقد حافظ طوال حياته على علاقة ودية مع أخيه الأكبر، وبعد استعادة ستيوارت -البلاط الأسكتلندي- للملكية في 1660 ربما توسط كريستوفر مع آخرين لمنع إعدام أخيه.
سجل جون ميلتون الأب، الذي كان له اهتمامات ثقافية بوصفه موسيقيًا وملحنًا، ابنه جون في مدرسة سانت بول، سنة 1620 تقريبًا، واستعان بمعلمين خاصين لإكمال تعليم ابنه الرسمي، وكان منهم توماس يونغ المشيخي الأسكتلندي، الذي قد يكون له أثر في طالبه الموهوب في الدين والسياسة، إذ بقيا على اتصال في العقود اللاحقة. وفي سانت بول، أصبح ميلتون صديقًا مقربًا لزميله تشارلز ديوداتي. وفي سنواته الأولى، ربما سمع ميلتون خُطب الشاعر جون دون، عميد كاتدرائية القديس بولس، التي كانت ضمن نطاق مدرسته. تلقى ميلتون تعليمه باللغتين اللاتينية واليونانية، وأتقن لغات أخرى، خاصةً الإيطالية التي ألّف بها بعض القصائد، وتحدثها بطلاقة كأهلها، بشهادة الفلورنسيين الذين صادقهم في سفره 1638-1639.
سنة 1625 التحق ميلتون بكلية المسيح بكامبريدج على أن يتعلم لصالح الوزارة، لكنه بعد عام فُصل مؤقتًا بسبب خلاف مع أحد معلميه، عالم المنطق ويليام تشابيل، ولاحقًا أُعيد تحت إشراف ناثانيال توفي. سنة 1629 حصل ميلتون على درجة البكالوريوس في الآداب، سنة 1632 حصل على درجة الماجستير في الآداب، ومع أن هدفه كان العمل في الوزارة، لم يتم ذلك لأسباب مجهولة، من المحتمل أن ميلتون لم يحترم زملاءه الطلاب الذين كانوا يخططون لأن يصبحوا وزراء وهم برأيه غير مؤهلين أكاديميًا، أو أن ميوله البيوريتانية -الساعية لتخليص الكنيسة الإنجليزية من شوائب الكاثوليكية، التي أصبحت أكثر راديكالية مع نضجه- جعلته يكره التسلسل الهرمي للكنيسة القائمة وإصرارها على توحيد العبادة، أو أن استياءه الواضح من كنيسة إنجلترا دفعها إلى رفضه في الوزارة.
كان ميلتون مستاءً من كامبريدج عمومًا، ربما لأن الدراسة هناك أكدت التمسك الشديد بالتعاليم التقليدية، التي وجدها تقيد الخيال، وفي مراسلاته مع ألكسندر جيل -مدرسه السابق في مدرسة سانت بول- اشتكى ميلتون نقص الصداقة مع زملائه الطلاب الذين أطلقوا عليه لقب «سيدة كلية المسيح»، ربما بسبب بشرته الفاتحة وملامحه الرقيقة وشعره البني. ومع ذلك، تفوق ميلتون أكاديميًا، وأنشأ ممارسات أكاديمية تُسمى التمهيدية، وهي عروض خطابية على هيئة مناظرات، ويستعمل فيها الطلاب ما تعلموه في المنطق والبلاغة والتخصصات الأخرى. وأَذِن ميلتون بنشر سبع من تدويناته هذه وسردها باللاتينية.
بعد سبع سنوات في كامبريدج عاد ميلتون سنة 1632 إلى منزل عائلته في هامرسميث في ضواحي لندن، وانتقلت العائلة إلى هورتون في باكينجهامشير بعد 3 سنوات ربما بسبب تفشي الطاعون، حيث أمضى 6 سنوات متقاعدًا في كنف والده، يقرأ لمؤلفين يونانيين ولاتينيين دون عمل مربح.
الشهرة
اشتهر ميلتون بسبب ملحمة الفردوس المفقود التي لم تحظ بإعجاب واسع عندما نُشرت أول مرة سنة 1667، فقط أصدقاؤه المقربون وشركاؤه أشادوا بملحمته، وأعلن أندرو مارفيل -الذي ساعد ميلتون عندما كان سكرتيرًا لاتينيًا فترة خلو العرش- إعجابه الشديد بالفردوس المفقود مع بداية نشره 1674، أما جون درايدن فبعد التشاور مع ميلتون حصل على موافقته على تحويل الملحمة إلى مواقف بطولية، وهو إجراء ميز الكثير من الشعر في تلك الحقبة، كانت النتيجة أوبرا دولة البراءة وسقوط الإنسان التي نُشرت 1677 ولم تُؤدَّ مطلقًا. وفي نهاية القرن السابع عشر اتسع الإعجاب بالفردوس المفقود وظهرت خمس طبعات من القصيدة في الفترة 1688-1698، ثلاث منها بالإنجليزية واثنتان باللاتينية، وتُعد طبعة 1695 باللغة الإنجليزية مع تعليق باتريك هيوم وشروحه أول طبعة تعليمية.
في أوائل القرن الثامن عشر بدأت ملحمة الفردوس المفقود بجذب المزيد من الإشادة، إذ نشر جوزيف أديسون سلسلة من المقالات في 1721 في دورية (The Spectator) صنف فيها ملحمة ميلتون مع أعمال العصور الكلاسيكية القديمة، لأن الحركة الكلاسيكية الجديدة في الشعر التي ركزت على المقاطع البطولية سادت في هذا العصر. وكان يُنظر إلى الفردوس المفقود بأنها استثناء بديع في استخدام الشعر الحر، ونالت مكانة فريدة لأن أسلوبها كان يشبه أسلوب الملاحم التوراتية، واستعار الشاعر الكلاسيكي الجديد ألكساندر بوب الكثير من صور قصيدة ميلتون، وبين عامي 1712-1714 أنشأ الملحمة الساخرة «اغتصاب القفل» لتكون محاكاة عبقرية لملحمة الفردوس المفقود.
سنة 1727 أثنى فولتير بسخاء على ملحمة الفردوس المفقود في كتابته عن الشعر الملحمي، وظهرت ترجمات ملحمة ميلتون إلى الفرنسية والألمانية والإيطالية قبل منتصف القرن، واستشهد جوزيف وارتون سنة 1756 بإعدادات ميلتون الطبوغرافية الرائعة وخاصة جنة عدن في الفردوس المفقود، وأثنى على رحلات الخيال السامي التي رفعت القراء إلى الجنة قرب عرش الإله، وبهذا أكد وارتون اثنتين من سمات القصيدة: احتفاء ميلتون بالطبيعة وخياله الجامح، وستحظى هذه السمات لاحقًا بتقدير كبير من الأدباء الرومانسيين الإنجليز. لكن مع نهاية القرن الثامن عشر، تأثرت سمعة ميلتون بسبب صمويل جونسون الذي انتقده في السيرة الذاتية لحياة الشعراء (1779-1781)، وفي حين أشاد بسمو الفردوس المفقود ازدرى صور ميلتون عن الطبيعة، لأنه استنسخ تخيله عن الطبيعة من الكتب ولم يختبرها بنفسه.
ومع أوائل القرن التاسع عشر اشتهر ميلتون بسبب عدد من المؤلفين الرومانسيين، مثل ويليام بليك وبيرسي شيلي واللورد بايرون، الذين تلقّوا الشيطان في الفردوس المفقود بوصفه المتمرد البطولي الذي يعارض التقاليد الراسخة والإله بوصفه طاغية، ومن خلال تخصيصهم لعناصر من سيرة ميلتون وأعماله، أنشأ هؤلاء المؤلفون سياقًا تاريخيًا وأدبيًا لأفكارهم الثورية، فمثلًا في 1820 صمم شيلي «بروميثيوس» على غرار شيطان ميلتون. ومع نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، تعرض ميلتون للنقد مرة أخرى، فكان صوت تي. إس. إليوت الأكثر تأثيرًا في تقليل شهرة ميلتون، إذ انجذبت اهتماماته الجمالية نحو الشعراء الميتافيزيقيين، وبعض كتاب دراما عصر النهضة، وغيرهم من معاصري ميلتون، واتهم شعر ميلتون الملحمي بأنه يفتقر إلى الشعور الجاد، وأنه كان جامدًا وملتويًا، وكان غير مرن لدرجة أنه لا يشجع على التقليد.
حدث تحول آخر في سمعة ميلتون في أواخر القرن العشرين، ففي حين ظل موضع تقدير لإنجازاته الأدبية والجمالية في الشعر، أصبح يُنظر إليه بوصفه مؤرخًا للتوترات والمعارضة والثورات الإنجليزية في القرن السابع عشر حتى في قصائده. ومع ذلك في الوقت نفسه، غالبًا ما يصور العلماء ميلتون بأشكال مختلفة، فهو سلف الحساسيات القديمة في الوقت الحاضر وداعية لوجهات النظر الرجعية، فمثلًا، العلاقة الزوجية بين آدم وحواء في الفردوس المفقود، قبل السقوط وبعده، علاقة هرمية صارمة، يكون الزوج فيها المشرف على الزوجة، لكن تصويره للزواج يُعد تعبيرًا عن آرائه الرجعية، ويتناقض مع مبدأ الطلاق وضوابطه، إذ يؤكد أن أساس الزواج هو التوافق، وأنه إذا لم يكن الشريكان متوافقين، فإن الزواج سيتلاشى نتيجة لذلك. ومع أن مثل هذه النظرة الليبرالية للطلاق كانت غير مقبولة في عصر ميلتون، فإنها ضربت على وتر حساس أكثر استجابة في البلدان حيث أصبح الزواج في مطلع القرن الحادي والعشرين اتحادًا طوعيًا بين ندين. ويظهر العلماء اليوم القيمة المستمرة لأعمال ميلتون وأهميتها في العصر الحديث عند وضعها في سياق التيارات الاجتماعية والسياسية والدينية لعصره.
اقرأ أيضًا:
جنكيز خان: مؤسس أكبر إمبراطورية في التاريخ
ترجمة: طه سعد
تدقيق: محمد حسان عجك
مراجعة: أكرم محيي الدين