طور باحثون جهاز حوسبة يشبه الدماغ البشري، قادر على التعلم بواسطة الارتباط. على خطى الفيزيولوجي الشهير إيفان بافلوف، الذي كيّف الكلاب لتربط رنين الجرس بالطعام، نجح باحثون بجامعتي نورث وسترن وهونغ كونغ في تكييف دارتهم لتربط بين الضوء والضغط. يكمن سر هذا الجهاز في الترانزستورات التشابكية العضوية الكهروكيميائية، التي تعالج المعلومات وتخزنها في الآن ذاته، تمامًا مثل الدماغ البشري. برهن العلماء أنه بإمكان الترانزستور محاكاة المرونة قصيرة الأمد وطويلة الأمد للتشابك العصبي الموجود في الدماغ البشري، مشكلًا بذلك ذكريات يتعلم منها بمرور الوقت.
بوسع الترانزستور الجديد والدارة -بفضل قدرتهما العقلية المشابهة للدماغ البشري- تجاوز حدود الحوسبة التقليدية بأجهزتها المستنزفة للطاقة وقدرتها المحدودة على إنجاز مختلف المهام في آن واحد. يمتلك هذا الجهاز المشابه للدماغ البشري قدرة على تدارك الأخطاء تمكنه من مواصلة العمل بسلاسة حتى عند توقف بعض أجزائه عن العمل.
يقول المؤلف الرئيس جوناثان ريفناي، الباحث بجامعة نورث وسترن: «مع أن الحاسوب المعاصر ممتاز، فإن العقل البشري بوسعه التفوق عليه بسهولة في إنجاز بعض المهام المعقدة وغير المرتبة، مثل التعرف على الأشكال والتحكم الحركي وتضافر الحواس، بفضل مرونة التشابك العصبي، الذي يمثل حجر الأساس في القوة الحاسوبية للدماغ، ما يسمح له بالعمل بالتوازي، والتعامل مع الأخطاء بسلاسة، إضافةً إلى توفير الطاقة. نعرض في مشروعنا ترانزستورًا عضويًا بلاستيكيًا يحاكي الوظائف الأساسية للتشابك العصبي البيولوجي».
مشكلات الحوسبة التقليدية:
تمتلك الأنظمة الحاسوبية التقليدية الرقمية وحدات معالجة وتخزين منفصلة، ما يسبب استهلاك المهام كثيفة البيانات كميات كبيرة من الطاقة. في السنوات الأخيرة، حاول الباحثون تطوير حواسيب تعمل مثل الدماغ البشري، مع مصفوفات من الأجهزة تعمل مثل شبكة من الخلايا العصبية، بوحي من عمليتي الحوسبة والتخزين المشتركتين بالدماغ البشري.
يقول المؤلف المشارك شودونج جي: «تعتمد أنظمة الحاسوب الفصل المادي بين الذاكرة والمنطق. أنت تجري عملية الحوسبة وترسل تلك المعلومة إلى وحدة الذاكرة، ومن ثم عليك إن أردت استرجاع المعلومة أن تستدعيها. إذا أمكننا دمج هاتين العمليتين المستقلتين معًا فسنوفر المساحة والطاقة».
حاليًا، يُعد مقاوم الذاكرة أو «الميمرستور» تقنيةً بالغة التطور، بوسعها إجراء المعالجة المشتركة والذاكرة الوظيفية. لكنها تعاني ارتفاع استهلاك الطاقة وضعف التوافق البيولوجي. دفعت هذه العيوب الباحثين إلى ابتكار الترانزستور التشابكي، خاصةً العضوي الكهروكيميائي الذي يعمل بجهد كهربي منخفض، وذاكرة قابلة للضبط، متوافقة مع التطبيقات البيولوجية. ومع ذلك، فالتحديات ما زالت قائمة.
قال ريفناي: «حتى الترانزستورات الكهروكيميائية عالية الأداء تتطلب فصل عملية الكتابة عن القراءة. لذا إذا كنت تريد الاحتفاظ بالذاكرة فعليك فصلها عن عملية الكتابة، ما يزيد تعقيد الاندماج في الدوائر أو الأنظمة».
كيف يعمل الترانزستور التشابكي؟
للتغلب على هذه التحديات، طور الفريق مادة بلاستيكية موصلة ضمن الترانزستور العضوي الكهروكيميائي، بإمكانها احتجاز الأيونات.
التشابك العصبي هو بنية تستطيع الخلية العصبية بها نقل الإشارات إلى خلية عصبية أخرى، بواسطة جزيئات صغيرة تسمى الناقلات العصبية. في الترانزستور التشابكي، تعمل الأيونات مثل الناقلات العصبية، إذ ترسل إشارات بين المحطات الطرفية لتشكيل تشابك اصطناعي. يتذكر الترانزستور الأنشطة السابقة باستعمال ما احتفظ به من بيانات مخزنة بواسطة الأيونات المحتجزة، فيطور بذلك مرونةً طويلة الأمد.
عرض الباحثون السلوك التشابكي للجهاز بربطه بدائرة عصبية لمحاكاة التعلم الترابطي. دمجوا أجهزة استشعار الضغط والضوء بالدائرة ودربوها على ربط المدخلات المادية غير المرتبطة -الضغط والضوء- ببعضها.
المثال الأشهر للتعلم الترابطي هو كلب بافلوف الذي يسيل لعابه طبيعيًا عندما يصادف الطعام. بعد تكييف الكلب لربط رنين الجرس بالطعام، أصبح لعاب الكلب يسيل أيضًا بمجرد سماع الصوت.
في الدائرة العصبية، نشط الباحثون الجهد الكهربي بواسطة الضغط بالإصبع. لتكييف الدائرة لربط الضوء بالضغط، اعتمد الباحثون أولًا الضوء المنبعث من مصباح «ليد LED» ثم طبقوا الضغط فورًا. هنا يمثل الضغط الغذاء، والضوء الجرس. واكتشفت أجهزة الاستشعار الخاصة بالجهاز كلا المدخلين.
بعد دورة تدريبية واحدة، ربطت الدائرة الضوء بالضغط مبدئيًا. وبعد خمس دورات تدريبية، ازداد الارتباط على نحو ملحوظ. كان الضوء وحده قادرًا على إطلاق إشارة أو استجابة غير مشروطة.
تطبيقات مستقبلية:
نظرًا لتكون الدائرة التشابكية من بوليمرات ناعمة كالبلاستيك، أصبح من الممكن صناعتها بسهولة على صفائح مرنة ودمجها بيسر في إلكترونيات رقيقة قابلة للارتداء أو ضمن الروبوتات الذكية والأجهزة القابلة للزرع التي تتفاعل مباشرةً مع الأنسجة الحية متضمنةً الدماغ.
قال ريفناي: «مع أن تطبيقنا للفكرة يُعد إثباتًا لها، فإنه ما يزال بإمكاننا توسيع نطاق دارتنا المقترحة لتشمل المزيد من المدخلات الحسية، وإدماجها مع الإلكترونيات الأخرى، لتمكننا من تحقيق المزيد من توفير الطاقة بواسطة التوافق مع البيئات البيولوجية. بوسع الجهاز أن يتفاعل مباشرةً مع الأنسجة الحية، وهو أمر مهم سيؤثر في الجيل القادم من الإلكترونيات البيولوجية».
اقرأ أيضًا:
قد تمثل هذه الشريحة حلقة الوصل بين الحواسيب التقليدية والكمية
الحواسيب الكمية تحل مشاكل لايمكن للحواسيب التقليدية حلها
ترجمة: فاطمة البجاوي
تدقيق: أكرم محيي الدين