لماذا يمتلئ كوننا بالمادة العادية أكثر من نظيرها الغريب (المادة المضادة)؟ واحد من أكثر الألغاز إرباكًا في الفيزياء الحديثة. عندما كان الكون فتيًا، تلاشت تقريبًا كل المادة المضادة من الكون، ولا أحد يعلم السبب. بطريقة ما، عندما كان الكون فتيًا لدرجة لا تُصدق، تلاشت معظم المادة المضادة تقريبًا، تاركةً المادة العادية فقط. لاحق النظريون تفسيرًا صعب المنال لوقت طويل، والأهم من ذلك إثبات ذلك التفسير بالتجربة. اليوم، يقترح ثلاثة من المنظرين، أن ثلاثيًا من جسيمات هيغز (بوزونات هيغز)، قد تكون المسؤولة عن سر تلاشي المادة المضادة من الكون، ويعتقدون أنهم يعرفون كيفية إيجاد الجناة.
لغز فقد المادة المضادة
تقريبًا في كل واحد من التفاعلات بين الجسيمات دون الذرية، تنتج كميات متساوية من المادة العادية والمادة المضادة (والتي تتطابق تمامًا مع المادة العادية ولكن بشحنة معاكسة)، ويبدو هذا تناظرًا أساسيًا في الكون. مع ذلك، عندما ننظر إلى الكون نفسه، لا نرى أية مادة مضادة تقريبًا. وعلى حد علم الفيزيائيين، لكل جسيم عالق من المادة المضادة، يوجد مليار جسيم من المادة العادية، في جميع أنحاء الكون.
وقد سُمي هذا اللغز بعدة أسماء، مثل مشكلة عدم تناظر المادة، ومشكلة عدم تناظر الباريون. وبغض النظر عن الاسم، فقد حيرت هذه المسألة العلماء، وإلى الآن، لم يتمكن أحد من تقديم تفسير متسق ومتناسق، لهيمنة المادة العادية على المادة المضادة، ولأن مهمة الفيزيائيين هي شرح الكيفية التي تعمل بها الطبيعة، فقد أثارت هذه المشكلة غضبهم.
ومع ذلك، تركت لنا الطبيعة بعض الخيوط الملقاة للوصول إلى حل اللغز. على سبيل المثال، إن الإشعاع الميكروي الكوني cosmic microwave background – CMB -أي آثار الحرارة الباقية من الانفجار العظيم وولادة الكون- لا يُظهر دليلًا على وجود المادة المضادة بكثرة، ويشير هذا إلى أن الاختلال قد حدث في الكون المبكر، فقد كان مكانًا مجنونًا للغاية، تحدث به كل أنواع الفيزياء المعقدة وغير المفهومة، فإن كان التفسير بانشطار المادة عن المادة المضادة فذاك الوقت كان مناسبًا لحدوث ذلك.
تحميل جسيمات هيغز المسؤولية
في الواقع، أفضل وقت لتلاشي المادة المضادة هو خلال الفترة القصيرة والمضطربة في الكون، عندما كانت قوى الطبيعة تنفصل عن بعضها البعض وحينما كان الكون يبرد.
في نطاقات الطاقة العالية -كتلك الموجودة داخل مصادم الجسيمات- تندمج القوة الكهرومغناطيسية والقوى النووية الضعيفة لتشكل قوىً جديدة تدعى القوى الكهروضعيفة، ولكن ما إن تبرد الأشياء وتعود لطاقتها الطبيعية، تنقسم القوى الكهروضعيفة إلى القوتين المألوفتين.
في طاقات أعلى من ذلك، مثل تلك التي كانت موجودة في اللحظات الأولى من الانفجار العظيم، نعتقد أن القوة النووية القوية تندمج مع الكهروضعيفة، وفي طاقات أكثر أرتفاعًا، قد تنضم قوة الجاذبية أيضًا في قوة واحدة موحدة، ولكننا لا نعرف كيفية انضمام قوة الجاذبية إلى الآن.
يقوم جسيم بوزون هيغز -المقترح وجوده في ستينيات القرن الماضي، ولكنه لم يكتشف حتى عام 2012 في مصادم الهايدرونات الكبير- بفصل القوة الكهرومغناطيسية عن القوة النووية الضعيفة.
الفيزيائيون على يقين تام أن انشطار المادة والمادة المضادة حدث قبل ظهور قوى الطبيعة الأربع بوصفها كيانات مستقلة، وذلك لأن لديهم فهمًا واضحًا للغاية لفيزياء الكون بعد انشطار المادة والمادة المضادة، والتفسير بإضافة كميات كبيرة من المادة المضادة في عصور لاحقة لا يتوافق مع الملاحظات المرصودة من الإشعاع الميكروي الكوني CMB. وعلى هذا النحو، ربما يلعب بوزون هيغز دورًا.
ولكن لا يمكن لبوزونات هيغز أن تقوم بذلك بمفردها، لأنه لا توجد آلية معروفة تستخدم فقط جسيمات هيغز لتسبب عدم التوازن هذا بين المادة والمادة المضادة.
لكن لحسن الحظ، ربما لم تنته قصة هيغز بعد، فقد وجد الفيزيائيون بوزون هيغز واحد في تجارب مصادم الهادرونات الكبير، بلغت كتلته حوالي 125 مليار إلكترون فولت (أو 125 جيجا إلكترون فولت مع العلم أن البروتون يزن فقط حوالي 1 جيجا إلكترون فولت). فاتضح أنه من المرجح ألا يكون جسيم هيغز وحيدًا.
من الممكن حقًا وجود المزيد من بوزونات هيغز الطافية وهي أكثر ضخامة مما تمكننا تجاربنا الحالية من اكتشافه. حاليًا، إذا كانت جسيمات هيغز الأثقل موجودة، لن تؤثر كثيرًا، فلا يمكنها المشاركة في أي فيزياء يمكننا القيام بها في مصادماتنا، فنحن لا نملك الطاقة الكافية لتنشيطها.
ولكن في الأيام الأولى للكون حين كانت نطاقات الطاقة أعلى بكثير، كان من الممكن تنشيط جسيمات هيغز الأخرى، وربما تسببت في اختلال توازن بعض تفاعلات الجسيمات الأساسية، ما أدى إلى عدم التناظر الحديث بين المادة والمادة المضادة.
حل اللغز
في ورقة بحثية حديثة نشرت على الإنترنت بمجلة arXiv، اقترح ثلاثة فيزيائيين، حلًا محتملًا مثيرًا للاهتمام، فربما، ولّدت ثلاثة من بوزونات هيغز (يطلق عليها هيغز ترويكا Higgs Troika) في الكون المبكر الكثير من المادة العادية، وعندما تلامس المادة العادية المادة المضادة يفني كلٌ منهما الآخر.
لذلك فإن التدفق الشديد من المادة العادية سوف تفني على المادة المضادة، وتنفيها بالكامل تقريبًا من الوجود في ذلك الفيضان من إشعاع المادة العادية. في ذلك السيناريو سيبقى ما يكفي من المادة العادية لنشأة ذلك الكون الذي نحبه ونعرفه.
لإنجاح هذا العمل، يقترح المنظرون أن جسيمات هيغز الثلاثية تتضمن جسيم هيغز المعروف واثنين جديدين (من النوع الذي تم اكتشافه في مصادم الهادرونات الكبير)، إذ تبلغ كتلة كل واحد منهم 1000 جيجا إلكترون فولت. هذا الرقم اعتباطي بحت، لكنه اختير تحديدًا لجعل بوزونات هيغز الافتراضية قابلة للاكتشاف مع الأجيال القادمة والأكثر تطورًا لمصادم الجسيمات، فلا فائدة من التنبؤ بوجود جسيم بصفات تُعجزنا عن اكتشافه أبدًا.
يواجه الفيزيائيون تحديًا، فأيًا كانت الآلية التي تسببت في عدم التناظر، فقد آثرت المادة العادية على المادة المضادة، لأنه لكل جسيم من المادة المضادة كان يوجد في المقابل مليار جسيم من المادة العادية، وكان لتلك الآلية وقت قصير جدًا للقيام بذلك في الكون المبكر، فحالما انفصلت القوى انتهت اللعبة، وثبتت الفيزياء كما نعرفها. وهذه الآلية، التي تتضمن اثنين من بوزونات هيغز الجديدة، يجب أن تكون قابلة للاختبار وهذا هو التحدي.
الإجابة القصيرة: لقد تمكنوا من فعل ذلك، فمن المفهوم أنها عملية معقدة للغاية، لكن محور القصة نظريًا هو على هذا النحو: ينحل جسيما هيغز (المفترضين حديثًا) إلى الكثير من الجسيمات بحيث تكون بمعدلات مختلفة قليلًا مع أفضلية قليلة للمادة على المادة المضادة، تتراكم تلك الاختلافات مع مرور الوقت، وعندما تنفصل القوى الكهروضعيفة، يكون قد وُجد ما يكفي من الاختلاف في تعداد جزيئات المادة والمادة المضادة لينتهي الكون إلى هيمنة المادة العادية على المادة المضادة.
بالتأكيد ذلك يحل مشكلة عدم التناظر الباريوني، ولكنه يؤدي مباشرة إلى سؤال: ماذا تفعل الطبيعة مع العديد من جسيمات بوزون هيغز؟ لكننا سوف نأخذ الأشياء خطوة بعد خطوة.
اقرأ أيضًا:
قفزة علمية هائلة في الفيزياء: العلماء يرصدون تحلل بوزون هيغز
ترجمة: آية قاسم
تدقيق: محمد حسان عجك