النظريّة النسبيّة العامّة تبحث في تصرّف المادّة على أبعاد كبيرة جدًّا.
وهي نظريّة طوّرها شخص واحد، أينشتاين، من دون أيّ دافع تجريبيّ أو رصديّ يحثّه على اقتراح نظريّة جديدة، بل أتى بها نتيجةً لطرح أسئلة عميقة حول العلاقة بين مفاهيم فيزيائيّة معروفة جيّدًا: قوّة الجاذبيّة والزمكان.
ترتكز النظريّة النسبيّة العامّة على مبدأين، الأوّل يسمّى “مبدأ التكافؤ” وينصّ أنّه لا يمكن التمييز بين تسارع جسم معين نتيجة تأثير أيّ قوّة، الذان يربط بينهما قانون نيوتن الثاني (القوّة=الكتلة × التسارع)، وهو ما يحدّد ما يسمّى كتلة الجسم العطالية (inertial mass) من جهة، وبين تسارع هذا الجسم نتيجة تأثير قوّة الجاذبية التي تتناسب طرديًّا مع ما يسمّى بكتلة الثقالة (gravitation mass) من جهة أخرى، أو بكلمات أخرى الكتلة العطاليّة= الكتلة الثقاليّة.
المبدأ الآخر في نظريّته هو مبدأ النسبيّة، الذي يعود أصلًا إلى جاليليو وهو ينصّ على أنّ قوانين الفيزياء هي نفسها بغضّ النظر عن سرعة المراقب الذي يقيسها، وهو مبدأ استعملته أيضا النظريّة النسبيّة الخاصّة.
لكي يحصل القارئ على فكرة مبسّطة حول العلاقة بين الجاذبيّة وهندسة الزمكان في النظريّة النسبيّة العامّة سنلجأ إلى الاستعارة التالية.
تخيّل سريرًا مرتّبًا مغطًّى بشرشف ممدود بشكل مهندم على وجهه.
سطح هذا الشرشف المستوي هو كهندسة الفراغ المستوية.
فكّر الآن بماذا يحدث إذا وضعت بعض كرات صغيرة ذات أوزان مختلفة بشكل متفرّق على سطح الشرشف.
ستُغيِّر هذه الكرات من طبيعة سطح الشرشف حيث إنها ستكوِّن تجويفات حولها، بحيث تُحدِث الكرات الثقيله تجويفات أعمق مقارنةً بالكرات الخفيفة.
هذا يشبه ما يحدث في النظريّة النسبيّة العامّة، فوجود المادة يُنتج انحناءات وتجويفات في هندسة الفراغ، تمامًا كما تفعل الكرات التي وضعناها على وجه الشرشف المهندم.
وبالمقابل، إذا دحرجنا كرة صغيرة جدًّا على سطح الشرشف المتعرّج فإنها لن تسير بخطّ مستقيم، بل ستتابع الانحناءات والتجويفات عليه، تمامًا كما تؤثر هندسة الزمكان في حركة الأجسام.
تَنَبّأَ أينشتاين، على أساس هذا التغيير الجذري في طبيعة هندسة الفراغ نتيجةً لوجود المادّة والجاذبيّة، بأنّ الشمس تؤدّي إلى انحرافٍ في مسار الضوء الآتي من نجوم بعيدة خاصّة حين يمرّ الضوء بقربها.
فإذا افترضنا مثلًا أنّ هنالك نجمًا يقع خلف الشمس بالنسبة للأرض، فبحسب النظريّة النسبيّة العامّة سوف نراه يظهر من خلفها، نتيجةً لحركتها على صفحة السماء، قبل ما نتوقّعه وذلك نتيجة للانحناء الذي تُحدثُه الشمس في مسار ضوئه.
من الممكن قياس مثل هذا الانحراف فقط خلال كسوفٍ كليّ للشمس لأنّه الحدث الوحيد الذي يسمح برؤية النجوم من حول الشمس.
وهذا بالفعل ما تمّ قياسه خلال كسوف الشمس الكلّي في عام 1919.
نتيجةَ هذه النظريّة، استطاع العلماء فهم تكوّن الكون وانتشاره (نظرية الانفجار الكبير)، والتنبّؤ بوجود ثقوب سوداء وغيرها ممّا لا يُعدّ من الظواهر.
لكنّ أحد أهمّ تنبؤات هذه النظريّة هو وجود أمواج ثقالية، وهي أمواج تحدث في نسيج الزمكان (spacetime) نتيجة لتغيّر حادّ في الجاذبيّة في مكان ما (مثلا اندماج ثقبين أسودين لجسم واحد).
ولهذا تاريخٌ طويلٌ لن أدخل به هنا سوى أن أذكر أنّ التنبّؤ الأوّل لوجود هذه الأمواج كان من قبل أينشتاين نفسه عام 1915 (رغم أنّه كانت هناك تساؤلات كثيرة عن صحّة الطريقة التي استعملها في حساباته) لكنّه اعتقد، نتيجة لضعف هذه الأمواج، أنّها لن تكتشف أبدًا.
بناءً على تنبّؤات النظريّة النسبيّة العامّة حول الأمواج الثقالية، بدأ الفيزيائيّون في الستينيّات من القرن الماضي بتخطيط تجارب لقياس مثل هذه الأمواج في حال وجودها.
وفي سنوات السبعين ابتدأوا ببناء تجارب بسيطة لكن من غير نتائج.
في عام 1980 انطلق مشروع لايجو (LIGO – Laser Interferometer Gravitational-Wave Observatory) الذي استمرّ في العمل وتحسين طرق القياس حتى نجاح هذه التجربة في العام المنصرم.
وتجربة لايجو هي تجربة بسيطة مبدئيًّا لكنّها تحتاج إلى دقّة كبيرة جدًّا في القياس.
والتجربة هي عبارة عن قناتين خطّيتين متعامدتين طولُ كلٍّ منها 4 كم، يطلق بهما أشعّة ليزر لها نفس واجهة الموجة وطولها.
عند مرور موجة ثقالية يطرأ تغيير طفيف على طول إحدى هاتين القناتين نسبة للقناة الثانية.
لقياس هذا التغيّر النسبيّ في طول القناتين يتمّ استخدام تداخل أمواج الليزر وبالذات التغيّر الذي يطرأ على موقع جبهة موجة ضوء الليزر التي تمرّ في القناة الأولى نسبة لموقع جبهة موجة ضوء الليزر في القناة الثانية.
التحدي الأساسيّ أمام العلماء هو الحصول على دقّة كبيرة في قياس التغيّر الطفيف جدًّا الذي يطرأ على أطوال القنوات.
لإعطاء فكرة عن دقة التجربة في قياس تغيّر الطول فهو بمقدار سُمْك شعرة واحدة على بعد يعادل المسافة بين الشمس وبين قنطر الأقرب، أقرب نجم للمجموعة الشمسيّة (يبعد حوالي 4.2 سنة ضوئيّة)، وهي دقّة خياليّة تفسّر الانتظار الطويل للحصول على نتائج من هذه التجارب.
في الفترة ذاتها بدأ الفيزيائيّون النظريّون بالتفكير في مصادر بإمكانها أن تنتج مثل هذه الأمواج.
هناك عدّة إمكانيّات تؤدّي إلى نشوء أمواج ثقالية، منها اندماج جسمين ثقيلين جدًّا (كثقوب سوداء أو كواكب نيوترونات) أو دوران جسم ثقيل حول نفسه بسرعة كبيرة جدًّا، أو تنشأ نتيجة الانفجار الكبير وغيرها.
وبالفعل بعد عملية التحسين الأخيرة التي أجراها فريق الأبحاث على الأجهزة في التجربة، وفي غضون يومين، تمّ رصد أوّل موجة ثقالية بشكل مباشر في تاريخ البشر.
وهي موجة نشأت نتيجة اندماج ثقبين أسودين، كتلة الأول أكبر بِ 36 مرّة من شمسنا، أمّا كتلة الثاني فهي أكبر ب 30 مرة من كتلة الشمس، بحيث نتج الإندماج عن ثقب أسود ذي كتلة تعادل 62 كتلة الشمس.
وهو اكتشاف مفاجئ إذ كان التوقّع أن تكون أغلب عمليّات الاندماج هذه بين أجسام أصغر من هذه بكثير.
هذا الاكتشاف ذو أهمية عظيمة ليس فقط لأنّه يدعم نظريّة أينشتاين بشكل حاسم، بل لأنّه يمكّننا من دراسة الثقوب السوداء بشكل خاصّ.
فمثلا قد يكون هذان الثقبان الأسودان من مخلّفات الجيل الأوّل من النجوم في الكون، لأنّ الثقوب السوداء التي تنشأ نتيجة موت الجيل الحاليّ من النجوم تكون عادةً أصغر بثلاث أو أربع مرّات من الأجسام التي رصدها لايجو.
كما توفّر لنا هذه التجربة وأمثالها نافذة جديدة نرصد بها الكون من خلال الأمواج الثقالية وليس من خلال الأمواج الكهرومغناطيسية (مثل الضوء المرئيّ الذي يرصد بواسطة التلسكوبات).
الثلاثة الذين حصلوا على هذه الجائزة هم: راينر وايس (Rainer Weiss) من معهد ماساشوستس التطبيقيّ (MIT) وهو أحد المؤسّسين لتجربة لايجو.
باري باريش (Barry Clark Barish) من معهد كاليفورنيا التطبيقي (Caltech) وهو مدير هذا المشروع لسنوات عديدة والمسؤول عن تعزيزِه وتحسينه بحيث أصبح يسمح بقياس الأمواج الثقالية.
والثالث هو فيزيائيّ نظريّ شهير باسم كيب ثورن (Kip Thorne) الذي قام بالحسابات التي أوضحت طبيعة الإشارة التي يقيسها مرصد لايجو ويفسّر معناها.
- إعداد: البروفيسور سليم زاروبي
- تحرير: ناجية الأحمد