يقتل السرطان كل عام ملايين البشر حول العالم وهو يعتبر أحد أكبر التحديات التي تواجهنا كبشرٍ في مجال الطب والصحة.
نجح الفائزون بجائزة نوبل في الطب لهذا العام بتأسيس مبدأ جديد في علاج السرطان يقوم على تحفيز قدرة الجهاز المناعي البشري على مهاجة الخلايا السرطانيّة والقضاء عليها.
قام جيمس أليسون بدراسة بروتين معروف يقوم بكبح عمل الجهاز المناعي البشري مدركًا أهمية التخلص منه في سبيل القضاء على الأورام، مطلقًا العنان للخلايا المناعية كي تقوم بدورها على أكمل وجه لإنقاذ حياة الكثيرين.
أما بالنسبة لتاسوكو هونجو، فقد اكتشف بروتينًا على الخلايا المناعية، وبعد دراسة متأنية له، توصَّل إلى خلاصة مفادها أن هذا البروتين يلعب دور المكابح التي تعيق عمل الجهاز المناعي البشري.
توصّل العالمان العبقريان لاستراتيجيتين مختلفتين تفيان بنفس الغرض، ألا وهو إزالة أو تثبيط عمل العوائق التي من شأنها أن تضعف من قدرة الجسم – عبر جهازه المناعي- على مقاومة الأورام السرطانية.
هل يمكن إشراك جهازنا المناعي في محاربة السرطان؟
يتضمن السرطان العديد من الأمراض المختلفة التي تتميز جميعها بانتشارٍ خارجٍ عن السيطرة للخلايا غير الطبيعية مع إمكانية انتقالها لإصابة الأعضاء والأنسجة السليمة.
تتوفر اليوم عدة أساليب علاجية للسرطان، وهي تتضمن الجراحة والعلاج الإشعاعي وغيرها، وقد مُنح بعضها جوائز نوبل في السابق.
تشمل هذه الأساليب العلاج الهرموني لسرطان البروستاتا (Huggins-1966) والعلاج الكيميائي (Elion and Hitchins-1988) ، وزرع النخاع العظمي لعلاج سرطان الدم (Thomas-1990).
ومع ذلك، يشكل السرطان في مراحله المتقدمة حالة شديدة الصعوبة تستوجب استراتيجيات علاجية جديدة.
مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، برز مفهوم جديد يقضي بتحفيز الجهاز المناعي كاستراتيجية ناجعة لمهاجمة الخلايا السرطانية.
انكب العلماء على محاولاتهم، فمنهم من اعتمد حقن المرضى بأنواع مختلفة من البكتيريا لتحفيز الدفاعات الطبيعية في الجسم، لكن تلك المحاولات لم تأتِ إلّا بنتائجة متواضعة دون أن ننسى وجود حالة استثنائية نجح فيها هذا الأسلوب -بعد إدخال بعض التعديلات عليه– بعلاج سرطان المثانة.
تباطأ التطوّر هنا، كل الاستراتيجيات التي جُرّبت أظهرت أن المهمة أصعب مما اعتقدنا، وأن الهدف ما يزال بعيد المنال.
المُسرِّعات والمكابح لعمل الجهاز المناعي
تعتبر قدرة الخلايا المناعية على التفريق بين الصديق والعدو علامة فارقة في أداء الجهاز المناعي الذي تلعب فيه الخلايا التائيّة -نوع من أنواع خلايا الدم البيضاء- دورًا محوريًا.
فهي، وعن طريق المتلقيات العديدة عليها تحدد وجود دخيل في الجسم من عدمه، لكنها لا تقوم بذلك الدور لوحدها، فهناك نوع من البروتينات يُسمى “مسرعات أو محفزات” الخلايا التائية؛ لإطلاق استجاب مناعية كاملة(انظر الشكل).
ساهم العديد من العلماء في هذا البحث الأساسي المهم، وحددوا بروتينات أخرى تعمل على كبح الخلايا التائية مما يثبط تنشيط الجهاز المناعي.
هذا التوازن المعقد بين المسرعات والمكابح ضروري للسيطرة، وهو يضمن أن نظام المناعة يعمل بشكلٍ كافٍ للهجوم على البكتيريا الغريبة مع تجنب النشاط المفرط الذي يمكن أن يؤدي إلى تدمير المناعة الذاتية للخلايا والأنسجة السليمة.
مبدأ جديد للعلاج المناعي
خلال تسعينات القرن الماضي، درس جيمس بي أليسون James P. Allison في مختبره في جامعة كاليفورنيا بيركلي، بروتين الخلايا التائية CTLA-4 (بروتين مرتبط بالخلايا اللمفاوية التائية السامة 4 / cytotoxic T-lymphocyte-associated protein 4).
وكان واحدًا من العديد من العلماء الذين لاحظوا أنّ CTLA-4 يعمل بمثابة مكابح للخلايا التائية.
استغلّت فرق بحثٍ أخرى الآلية كهدفٍ في علاج أمراض المناعة الذاتية، لكن أليسون كانت لديه فكرة مختلفة تمامًا.
وقد طوّر بالفعل جسمًا مضادًا يُمكنه الارتباط بـ CTLA-4 ومنع وظيفته (انظر الشكل)، وشرع الآن بالبحث فيما إذا كان حصار CTLA-4 يمكن أن يحرّر الخلايا التائية المكبوحة ويطلق العنان لجهاز المناعة لمهاجمة الخلايا السرطانيّة.
أجرى أليسون وزملاؤه تجربةً أوليّةً في نهاية عام 1994، وكانت النتائج مذهلة، وتمّ علاج الفئران المصابة بالسرطان عن طريق العلاج بالأجسام المضادة التي تمنع عمل المكابح وتسمح بنشاط الخلايا التائيّة المضادّة للورم.
على الرغم من الاهتمام القليل من قبل شركات صناعة الأدوية، واصل أليسون جهوده المكثفة لتطوير الاستراتيجية في علاج البشر، وسرعان ما ظهرت نتائج واعدة من عدة مجموعات.
ففي عام 2010، أظهرت دراسةٌ سريريةٌ مهمةٌ آثارًا مذهلةً على المرضى المصابين بالورم الميلانيني المتقدّم advanced melanoma، وهو نوعٌ من سرطان الجلد، كما اختفت علامات السرطان المتبقي عند عدّة مرضى.
مثل هذه النتائج الرائعة لم يسبق رؤيتها من قبل في هذه المجموعة من المرضى.
الشكل: أعلى اليسار: يتطلّب تنشيط الخلايا التائيّة أن يرتبط مستقبل الخلايا التائيّة بتراكيب على خلايا مناعيّة أخرى معروف بأنّها ’’غير ذاتية‘‘، وبروتين يعمل بمثابة مسرّع خلية تائيّة مطلوب لتنشيط خلية تائيّة، يعمل CTLA – 4 بمثابة مكابح على الخلايا التائيّة التي تمنع وظيفة المسرّع.
أسفل اليسار: تمنع الأجسام المضادّة أو الأضداد (الخضراء) مقابل CTLA-4 وظيفة المكبح ممّا يؤدّي إلى تنشيط الخلايا التائيّة والهجوم على الخلايا السرطانيّة.
أعلى اليمين: PD-1 هو مكبح آخر لخلية تائيّة كي تمنع تنشيط الخلايا التائيّة.
أسفل اليمين: تمنع الأجسام المضادة لـ PD-1 وظيفة المكبح ممّا يؤدّي إلى تنشيط الخلايا التائيّة والهجوم عالي الكفاءة على الخلايا السرطانيّة.
اكتشاف PD-1 وأهميته لعلاج السرطان
في عام 1992، وقبل بضع سنوات من اكتشاف أليسون، اكتشف تاسكو هونجو PD-1 (بروتين الموت الخلوي المبرمج Programmed cell death protein 1)، وهو بروتين آخر تمّ التعبير عنه على سطح الخلايا التائيّة.
وقد تمكّن من تحديد دوره بدقة، واستكشف وظيفته في سلسلةٍ من التجارب التي أُجرِيَت على مدار سنواتٍ عديدةٍ في مختبره في جامعة كيوتو.
وأظهرت النتائج أنّ PD-1، على غرار CTLA-4، يعمل ككابح خلية تائيّة، لكنّه يعمل من خلال آلية مختلفة (انظر الشكل).
كما أظهر هونجو والمجموعات الأخرى في التجارب على الحيوانات، أنّ حصار PD-1 يمكن أن يكون استراتيجيةً واعدةً في مكافحة السرطان.
مهّد هذا الطريق لاستخدام PD-1 كهدفٍ في علاج المرضى.
نشأ تطوّر سريري بوصفه نتيجة، وفي عام 2012 أظهرت دراسةٌ رئيسيةٌ فعاليةً واضحةً في علاج المرضى الذين يعانون من أنواع مختلفة من السرطان.
وكانت النتائج مثيرة، ممّا أدّى إلى شفاءٍ على المدى الطويل وعلاجٍ مُمكنٍ لدى العديد من المرضى الذين يعانون من السرطان النقيليّ metastatic cancer، وهي حالة كانت تُعتبَر سابقًا لا أمل في علاجها.
نقطة رقابة مناعيّة لعلاج السرطان اليوم وفي المستقبل
بعد الدراسات الأوليّة التي أظهرت آثار حصار CTLA-4 و PD-1، كان التطوّر السريري دراماتيكيًا.
نحن نعلم الآن أنّ العلاج الذي يشار إليه غالبًا باسم ’’معالجة نقطة رقابة مناعية immune checkpoint therapy‘‘، قد غيّر جوهريًا النتيجة بالنسبة لمجموعاتٍ معيّنةٍ من المرضى المصابين بمراحل متقدمة من السرطان.
وعلى غرار غيرها من العلاجات السرطانية، يُنظر إلى الآثار الجانبيّة الضارّة، والتي يمكن أن تكون خطيرةً وتُهدّد الحياة أيضًا.
وهي ناجمة عن استجابةٍ مناعيّةٍ مفرطة النشاط تؤدّي إلى ردود فعلٍ مناعيّةٍ ذاتيّة، ولكنّها عادةً ما تكون سهلة العلاج.
يُركّز البحث المستمر المكثّف على توضيح آليات العمل، بهدف تحسين العلاجات والحدّ من الآثار الجانبيّة.
من بين الاستراتيجيتين العلاجيتين، ثَبُتَ أنّ علاج نقطة رقابة ضد PD-1 أكثر فعاليّةً ولوحظت نتائج إيجابية في عدة أنواعٍ من السرطان، بما في ذلك سرطان الرئة، وسرطان الكلى، وسرطان الغدد الليمفاوية، وسرطان الجلد (ميلانوم).
كما تشير الدراسات السريريّة الجديدة إلى أنّ العلاج المركّب، الذي يستهدف كلّ من CTLA-4 و PD-1، يمكن أن يكون أكثر فعاليّةً، حيث ثَبُتَ ذلك لدى المرضى المصابين بالميلانوما.
وهكذا، ألهمت الجهود المبذولة لدمج استراتيجيات مختلفة أليسون وهونجو لتحرير المكابح على جهاز المناعة بهدف القضاء على خلايا الورم بشكلٍ أكثر كفاءة.
هناك عددٌ كبيرٌ من تجارب علاج نقاط الرقابة المناعيّة تجري حاليًا ضد معظم أنواع السرطان، ويتمّ اختبار بروتينات نقاط الرقابة الجديدة كأهداف.
حاول العلماء لأكثر من 100 عام إشراك جهاز المناعة في مكافحة السرطان.
وحتّى الاكتشافات المبدعة من قبل الحائزين على الجائزة، كان التقدّم في التطور السريري متواضعًا. لقد أحدث العلاج في نقاط الرقابة ثورةً في علاج السرطان، وقد غيّر بشكلٍ أساسي الطريقة التي نتعامل بها مع كيفية إدارة علاج السرطان.