ما يزال تاريخ نظام الأرض-القمر غامضًا. يظن العلماء أن هذا النظام تشكل عندما اصطدم جسم بحجم كوكب المريخ بالأرض البدائية. انتهى الأمر بالأرض أن تكون الجسم الأكبر من نتائج هذا الاصطدام، وأن تحتفظ بحرارة كافية لتصبح نشطة تكتونيًا. أما القمر الأصغر حجمًا، فعلى الأغلب برد سريعًا وخمل جيولوجيًا. ولكن تتحدى الديناميكية الواضحة في بداية تشكل القمر هذا الأمر.
تقترح بيانات جديدة أن هذا بسبب التوزيع الفريد للعناصر المشعة بعد التصادم الهائل المكوِّن للقمر. إن قمر الأرض، مع الشمس، جسم مهيمن في السماء، يعرض الكثير من الميزات المرئية التي تزودنا بأدلة عن كيفية تشكل الأرض والمجموعة الشمسية. معظم الكواكب في المجموعة الشمسية لها أجسام تدور حولها. مثلًا، المريخ له قمران، المشتري له 79 قمرًا وكوكب نبتون له 14 قمرًا.
بعض الأقمار ثلجية، وبعضها الآخر صخري. بعضها نشط جيولوجيًا، وبعضها الآخر خامل نسبيًا. كيف تحصل الكواكب على أقمارها؟ ولماذا تتمتع بخصائصها الحالية؟ سؤالان من الممكن أن يلقيا الضوء على جوانب كثيرة لنشأة النظام الشمسي المبكرة.
القمر جسم صخري، بارد نسبيًا، يحتوي كمية محدودة من المياه، وتحدث فيه عمليات تكتونية بسيطة. يرى العلماء حاليًا أن نظام الأرض-القمر تشكل عندما اصطدم جسم بحجم كوكب المريخ يُسمّى ثيا (عند الإغريق ثيا هي أم سيلين إله القمر) بالأرض البدائية، ما أدى إلى اختلاط عناصر الجسمين.
يُظن أن حطام الاصطدام هذا انفصل سريعًا ليكوّن الأرض والقمر، ربما في غضون بضعة ملايين من السنين. انتهى الأمر بالأرض أن تكون أكبر حجمًا، بدرجة مناسبة لتصبح كوكبًا مفعمًا بالحيوية، له غلاف جوي وفيه محيطات.
أما القمر فكان أصغر حجمًا وليس بكتلة كافية للتمتع بهذه الخصائص. لذلك، يعود الفضل هنا لديناميكية الاصطدام المذكور، إذ تنفرد الأرض بخصائص مميزة كالاحتفاظ بمواد متطايرة مثل الماء والغازات المكوِّنة للغلاف الجوي، واحتوائها حرارة داخلية كافية للحفاظ على نشاط بركاني طويل الأمد ونشاط تكتوني.
أظهرت نتائج عقود من المراقبة أن تاريخ القمر كان مفعمًا بالحيوية أكثر مما كان يُعتقد، وحدث عليه نشاط بركاني ومغناطيسي منذ نحو مليار سنة، في وقت لاحق أكثر مما كان متوقعًا.
هناك دليل على سبب الاختلاف بين الجانبين القريب والبعيد من القمر يكمن في عدم التماثل الواضح في خصائصه السطحية. على جانب القمر القريب دائم المواجهة للأرض، يمكن رؤية بقع بالعين المجردة بعضها داكن والآخر فاتح. أطلق أوائل علماء الفلك على البقع الداكنة اسم (ماريا)، الذي يعني البحار باللاتينية، وقالوا إنها بقع مائية مماثلة للأرض. ولكن باستخدام التلسكوب، استطاع العلماء قبل قرن من الزمن اكتشاف أن هذه البقع لم تكن بحارًا، بل على الأغلب أفواه بركانية أو ما يشابهها.
في ذلك الوقت، افترض العلماء أن الجانب البعيد من القمر، والذي لم يكن ممكنًا رؤيته، كان عمومًا مماثلًا للجانب القريب منه.
ولكن، لأن القمر قريب نسبيًا من الأرض، يبعد عنها نحو 380,000 كم فقط، كان القمر أول جسم في المجموعة الشمسية يستكشفه الإنسان، بداية باستخدام مركبات فضائية دون طاقم، ومن ثم بمهمات مأهولة بالبشر.
في أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن الماضي، أرسل إلينا مسبار غير مأهول أطلقه الاتحاد السوفييتي أوائل الصور للجانب البعيد من القمر، وتفاجأ العلماء إذ وجدوا اختلافًا كبيرًا بين جانبي القمر. لا وجود تقريبًا لماريا في الجانب البعيد. تشكّل ماريا فقط ما نسبته 1% من سطح جانب القمر البعيد، مقارنة بنسبة 31% من سطح الجانب القريب. احتار العلماء! لكنهم اشتبهوا في أن عدم التماثل هذا يحمل في طياته دلائل على كيفية تشكل القمر.
في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي، حطّت ست مركبات فضائية من بعثات أبولو من ناسا على سطح القمر، وأعاد رواد الفضاء معهم 382 كغ من صخور القمر لمحاولة فهم منشأ القمر من طريق التحليل الكيميائي لها.
بوجود هذه العينات من الصخور في متناول اليد، أدرك العلماء سريعًا أن الطابع الداكن للبقع يعود إلى تركيبها الجيولوجي، ففي الواقع كانت مرتبطة بالنشاط البركاني.
وتعرفوا على نوع جديد مميز من الصخور أطلقوا عليه اسم كرييب، وهو صخر غني بالبوتاسيوم وعناصر نادرة الوجود على الأرض (منها السيريوم والديسبروسيوم والإربيوم واليوروبيوم وغيرها) والفوسفور، وكانت هذه الصخور مرتبطة بماريا، البقع الداكنة. ولكن، لماذا يتوزّع النشاط البركاني وصخور كرييب بطريقة غير متساوية على جانبي القمر القريب والبعيد؟ سؤال أمسى لغزًا يحيّر العلماء.
الآن، باستخدام مجموعة من الملاحظات والتجارب المخبرية والنمذجة المحوسبة، توصّل علماء من معهد علوم الحياة الأرضية في معهد طوكيو للتكنولوجيا وجامعة فلوريدا ومعهد كارنيجي للعلوم وجامعة توسون ومركز جونسون للفضاء في ناسا وجامعة نيو مكسيكو، إلى دلائل جديدة بخصوص كيفية حصول القمر على عدم التماثل بين جانبيه القريب والبعيد. هذه الدلائل لها علاقة بخاصية مهمة لصخور كرييب.
يُعد البوتاسيوم والثوريوم واليورانيوم عناصر مشعة غير مستقرة، توجد بتشكيلات ذرية متنوعة، ولها أعداد مختلفة من النيوترونات. تُعرف التركيبات الذرية المتنوعة هذه باسم النظائر، بعضها غير مستقر ويتفكك إلى عناصر أخرى، مولّدة بذلك حرارة.
يمكن للحرارة الناتجة عن التحلل الإشعاعي لهذه العناصر إذابة الصخور التي تحتويها، ما قد يفسر جزئيًا مواقعها المشتركة.
توضح هذه الدراسة أنه بالإضافة إلى زيادة الحرارة، فإن احتواء الصخور على عنصر كرييب يقلل من درجة حرارة انصهارها، ما يشكل النشاط البركاني المتوقع من نماذج التحلل الإشعاعي. لأن معظم تدفقات الحمم هذه حدثت باكرًا في تاريخ القمر، تضيف هذه الدراسة أيضًا حدودًا زمنية على توقيتات تطور القمر وترتيب الأحداث المتنوعة التي حصلت عليه.
تطلب هذا العمل تعاونًا مشتركًا بين العلماء العاملين على الجزأين النظري والعملي. بعد إجراء تجارب انصهار عالية الحرارة على صخور تحوي عناصر كرييب بتنوع، حلل فريق العمل الآثار المترتبة على توقيت النشاط البركاني وحجمه على سطح القمر، موفرين بذلك منظورًا مهمًا عن المراحل البدائية لتطور نظام الأرض-القمر.
قال ماثيو لانويفيل، مؤلف مشارك في معهد علوم الحياة الأرضية: «بسبب النقص النسبي في عمليات التآكل، يحتفظ سطح القمر بسجل أحداث جيولوجية يرجع تاريخها لبداية نشأة النظام الشمسي. بالتحديد، هناك مناطق على الجانب القريب من القمر لديها كثافة عالية من العناصر المشعة مثل اليورانيوم والثوريوم بدرجة غير موجودة في باقي أرجاء القمر. إن فهم مصدر ثراء تلك المناطق بهذه العناصر قد يساعد على تفسير المراحل الأولى من تكوّن القمر، ومن ثم الظروف في بداية الأرض».
تقترح نتائج هذه الدراسة أن مناطق ماريا على القمر والغنية بكرييب كان لها تأثير في تطور القمر منذ نشأته. يرى لانويفيل أنه من الممكن إيجاد دلائل على هذه الأشكال من عدم التماثل وعمليات التضخيم الذاتي في أقمار أخرى داخل نظامنا الشمسي، وقد يكون شائعًا في الأجسام الصخرية في أنحاء الكون كافة.
اقرأ أيضًا:
ما هو تعريف القمر ؟ وكيف تُصنّف بعض الأجرام أقمارًا؟
وجدت العربة القمرية الصينية صخورًا غريبة على الجانب الآخر من القمر
ترجمة: سامي أنضوني
تدقيق: إبراهيم قسومة
مراجعة: رزان حميدة