يرجع تاريخ الذرة المعروفة اليوم إلى بدايات معرفة الإنسان بالزراعة، قبل حوالي 10 آلاف عام. في البقعة التي تعرف الآن بالمكسيك، قام المزارعون القدامى بالخطوات الأولى نحو استزراع الذرة حين بدأوا ببساطة في اختيار الحبيبات (البذور) التي يزرعونها. لاحظ هؤلاء المزارعون أن النباتات ليست كلها متطابقة. فبعض النباتات قد تنمو أكبر من مثيلاتها ، أو ربما يكون طعم بعض الحبوب أفضل من مثيلاتها، أو ربما تكون أسهل في الطحن. احتفظ الزراع ببعض الحبوب من النباتات ذات الصفات المتفوقة ليزرعوها في الموسم التالي. تعرف هذه العملية بالتهجين الانتقائي، أو الانتخاب الصناعي.
مع مرور الزمن، صار حجم أكواز الذرة يزداد وعدد صفوف الحبيبات في الكوز يزداد، وصولاً إلى الشكل الذي نعرفه اليوم.
ظلّت هوية الجد البري للذرة لغزًا حتى عقود مضت. بينما كان للحبوب الأخرى (كالقمح والأرز) أقارب برية يسهل التعرف عليها، لم يكن هناك أي نبات بري يشبه الذرة وله نفس الحبيبات النشوية الناعمة المرتبة في كيزان (أكواز). الظهور المفاجئ للذرة في السجل الأثري حير العلماء. كان معروفًا عن التطور أنه أمر يحدث بالتدريج عبر تراكم تغييرات طفيفة. فلماذا ظهرت الذرة فجأة؟
كيزان الذرة التي عثر عليها علماء الآثار تبين كيف تطور الذرة عبر آلاف السنين عن طريق التهجين الانتقائي. فحتى أقدم العينات الأثرية تحمل تشابهًا لا تخطئه العين مع الذرة المعاصرة.
عن طريق دراسة الجينات، ندرك اليوم أن الجد البري للذرة كان نوعًا من النباتات العشبية يدعى التيوسينت teosinte (الذرة الريانة). هذا التيوسينت لا يحمل شبهًا واضحًا مع الذرة، خصوصًا إذا نظرنا إلى شكل الحبيبات في كل منهما.
لكن على مستوى الـ DNA يصير الشبه واضحًا بشكل مدهش، فكلاهما يحمل نفس عدد الكروموزومات، بجانب أنهما وإلى حد كبير يحملان نفس ترتيب الجينات. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يحدث تزاوج بين هذين النباتين، التيوسينت والذرة المعاصرة، لتكوين هجينات قادرة على التناسل بشكل طبيعي.
يقوم العلماء بدراسة هجينات التيوسنت مع الذرة و السلالة الناتجة عنها من خلال أسلوب البحث الأثري الجيني. يساعد هذا الأسلوب الباحثين في علوم الوراثة على فهم مايحدث على مستوى الـDNA و الذي يصنع الاختلافات بين النباتين. بجمع الأدلة الوراثية والأثرية معًا، استطاع العلماء فهم جزء كبير من قصة تطور الذرة.
أحد أوائل العلماء المقتنعين بالقرابة اللصيقة بين التيوسينت والذرة كان جورج بيدل George Beadle، فقد درس بيدل في الثلاثينات هجينات التيوسينت و الذرة وبين أن كروموسوماتهما متوافقة إلى حد بعيد. فيما بعد قام هذا العالم بانتاج أعداد كبيرة من هجينات التيوسينت والذرة و درس خصائص نسلها. و بتطبيق القوانين الأولية للوراثة، قام بيدل حسابيًا بإيضاح أن عددًا يقارب الخمسة فقط من الجينات هو المسئول عن الفروق الأكثر وضوحًا بين التيوسينت و إحدى السلالات البدائية للذرة.
باستخدام تقنيات أكثر تطورًا، قام فريق آخر من العلماء بتحليل الـDNA من نسل هجين التيوسينت مع الذرة. لاحظ الفريق أيضًا خمس مناطق من الجينوم (قد تكون جينات مفردة أو مجموعات من الجينات) ربما تكون هي المسئولة عن الفوارق الأهم بين النباتين.
وفي السنين الأخيرة، استخدم علماء الوراثة وسائل البيولوجيا الجزيئية molecular-biology المتقدمة لتحديد أدوار بعض من هذه الجينات ذات التأثير الكبير، إلى جانب مناطق أخرى من الجينوم أقل تأثيرًا في عملية استزراع الذرة.
أقدم الأحداث في تاريخ استزراع الذرة ربما كان من بينها حدوث تغيرات طفيفة، لكنها ذات تأثير عظيم، في جينات مفردة. نحن نعرف أن هذه الأحداث كانت قديمة لأن الاختلافات التي نراها في هذه الجينات بين أنواع الذرة المختلفة طفيفة جدًا، مما يرجح أن الأنواع الحديثة كلها تنحدر من سلف واحد مشترك. حدوث تأثيرات كبيرة بسبب تغيرات طفيفة يفسر الظهور المفاجئ للذرة المعاصرة في السجل الأثري. هذه الأمثلة تعلمنا كيف أن التطور لا يشترط أن يحدث دائمًا من خلال تغيرات تدريجية بطيئة.
التغييرات الأحدث في تطور الذرة الحديثة شملت جينات عديدة (ربما آلاف من الجينات) تركت آثارًا طفيفة. هذه الأثار الطفيفة تتضمن:
نوع وكمية النشاء التي ينتجها النبات
القدرة على النمو في أجواء مختلفة، و أنواع مختلفة من التربة
طول صفوف الحبيبات وعددها
حجم الحبيبة وشكلها ولونها
القدرة على مقاومة الآفات
هذه الأمثلة تتوافق أيضًا مع النظرة التقليدية للتطور كتغير تدريجي بطيء. فمجتمعات المزارعين المحليين قاموا بانتخاب النباتات ذات الصفات المفضلة لهم والأصلح لبيئتهم. وعبر آلاف السنين، أنتج التهجين الانتقائي طيفًا كبيرًا من التنوع في الحبوب التي لاتزال تنتج إلى يومنا هذا حول العالم