نقدم لكم مقالة تعالج التاريخ التطوّري للحيتان و تعتمد على الأدلة من تسعة مجالات علمية و هي أدلة الحفريات و أدلة علم التشكّل المورفولوجي و أدلة البيولوجية الجزيئية و أدلة الأعضاء الأثريّة و أدلة علم الجنين و أدلة الجيوكيمياء و أدلة التوزّع الجغرافي للمستحاثات و أدلة علم قياس الزمن.
كُتبت المقالة بقلم Raymond Sutera و نُشرت في تقارير the National Center for Science Education
نقدم لكم الآن مقدمة المقالة الأصلية ، قراءة ممتعة.
ــــــــــــــــــــــــــ
لسنواتٍ عديدة ظلَّ السجل الأحفوري للحيتان مليئاً بالفراغات و غير مكتملٍ، لكن الآن هناك العديد من الأنماط الإنتقالية التي توضح و تبين مسار تطور الحيتان.
الإكتشافات الحديثة لمستحاثات عائدة لحيتان تقدم الدليل الذي سيقنع أي متشكك موضوعي و عقلاني بتطور الحيتان.
إن البيولوجيا التطورية تتنبأ بأكثر من وجود مستحاثات لأسلاف الحيتان مع بعض الصفات المميزة فقط – فهي تتنبأ بأن كل التخصصات البيولوجية الأخرى ستُظهر أمثلة على التشابه بين الحيتان وأسلافها و الثدييات الأخرى بحسب القرابة التطورية بين هذه المجموعات ولذلك فليس مُفاجئاً أن هذه الأمثلة على التشابه هي ما سنجده حقاً، وبما أن الإكتشافات في حقل بيولوجي واحد لنقل مثلاً الكيمياء الحيوية يتم التوصل لها دون أي صلة بإكتشافات أخرى من حقل أخر (و ليكن علم التشريح المقارن) فإن العلماء يعتبرون أن هذه الأمثلة من المجالات العلمية المختلفة تقدم دليلاً مستقلاً على تطور الحيتان ، و كما هو متوقعٌ فإن هذه الخطوط المختلفة من الأدلة كلها تؤكد على تطور الحيتان بالطريقة التي سنتوقعها من السجل الأحفوري.
و لتوضيح ذلك، سأقوم بعرض الأدلة من مجالات وحقول علمية مختلفة على أنّ أصلَ الحيتان يعود إلى ثدييات بريّة.
في هذه الورقة البحثية سيتم معاينة الأدلة الداعمة لتطور الحيتان من تسعة مجالات مستقلة من البحث العلمي وبالطبع كبداية سيكون علينا توضيح و شرح ما الذي يجعل الحوت حوتاً.
ما هو الحوت؟
الحوت قبل كل شيء هو حيوانٌ ثديي فقاري من ذوات الدم الحار و الذي يستخدم مستوى الإستقلاب المرتفع لديه لتوليد حرارةٍ و تنظيم درجة حرارته الداخلية.
تلد إناث الحيتان صغاراً وترضعهم من الغدد الثديية التي لديها ، رغم أنّ الحيتان البالغة لا يكسو جسدها شعرٌ لكنّ شعراً مؤقتاً يظهر على جسدها في الطور الجنيني وبعض الحيتان البالغة تملك شعيرات حسية حول أفواهها. هذه الخصائص هي بلا شك خصائص ثديية.
لكن الحوت هو حيوان ثدي مُتخصصٌ جداً بصفاته الفريدة التي لا يتشاركها مع بقية الثدييات حتى أن العديد من هذه الصفات لا يتشاركها مع الثدييات البحرية مثل الخيلانيات كـ(خروف البحر، الأطوم) وزعنفيات الأقدام كـ (الفقمة، أسد البحر، الفظ). على سبيل المثال، تمتلك الحيتان أجساماً إنسيابية سميكة و مدورة على عكس غالبية أجسام الأسماك الرفيعة والممدودة. يحتوي ذيل الحوت على فصين أفقيين (Flukes بالإنكليزية) يعتبران الوسيلة الوحيدة للحوت للتقدم و الإندفاع في الماء. الزعنفة الظهريه مثبتة بوساطة أنسجة ضامة لكنها لحمية و تفتقد العظام الداعمة بالكامل.
الفقرات العنقية عند الحوت قَصُرَ طولُها و أصبحت مندمجة جزئياً في كتلة عظمية واحدة. الفقرات خلف العنق عديدة و تشبه بعضها كثيراً، وتقلصت بشكل كبير النتوءات الفقرية التي تربط بين الفقرات سامحةً بذلك للظهر أن يكون مرناً و قادراً على القيام بضربات قوية بوساطة الذيل.
الزعانف التي تسمح بتوجيه الحوت تتألف من عظام الذراع القصيرة والمسطحة ومن عظام المعصم المسطحة والشبيهة بالقرص وأصابع طويلة عديدة. مفصل الكوع ثابتٌ لا يتحرك فعلياً جاعلاً الزعنفة صلبة غير مرنة الحركة في الزنار الكتفي، عظمة الكتف مسطحة و الترقوة لا وجود لها. بعض الأنواع من الحيتان ما تزال تملك حوضاً أثرياً (غير وظيفي) و بعضها يملك أطرافاً خلفية متقلصة بشكل هائل وعديمة الوظيفة.
القفص الصدري غير ثابت (في بعض الأنواع الأضلاع منفصلة بشكل كامل عن العمود الفقري) مما يسمح للصدر أن يتمدد عندما يتنفس الحوت كما يسمح للقفص الصدري بأن ينضغط عند غوص الحوت في الأعماق.
الجمجمة لديها أيضاً مجموعة من الخصائص والصفات المميزة عن باقي الثدييات. الفك يمتد نحو الأمام معطياً الحيتان رأسها الطويل على نحو مميز و العظمتان الأماميتان من الفك العلوي (maxillary وpremaxillary) تمتدان من الأمام نحو الخلف مغطيتان أحياناً أعلى الجمجمة بشكل كامل. إن هجرة هذه العظام نحو الخلف هي التي سببت انتقال الفتحات الأنفية إلى أعلى الجمجمة مشكلةً فتحات النفث لدى الحيتان و مسببةً أيضاً انتقال الدماغ والجهاز السمعي إلى مؤخرة الجمجمة. الـodontocetes (الحيتان ذوات الأسنان) لديها فتحة نفث وحيدة، في حين أن الـmysticetes (الحيتان البالينية) تملك زوجاً من هذه الفتحات.
في الحيتان ذوات الأسنان هناك عدم تماثل (عدم تناظر) واضح في عظمتي الفك (maxillary وpremaxillary) والفتحة النفثية وهذا يقدم طريقة طبيعية لتصنيف هذه الحيتان وعلى الرغم أن الأسنان تظهر في أجنة الحيتان البالينية لكن فقط الحيتان ذوات الأسنان تمتلك أسنان في مرحلة البلوغ. تتخذ هذه الأسنان أشكالاً مخروطية أو وتدية و هي لا تختلف باختلاف المنطقة أو الوظيفة كما هو حال الأسنان عند باقي الثدييات (لا تستطيع الحيتان مضغ طعامها بل يتم طحنه في معدة أمامية عضلية تحوي حجارةً.)
بعكس باقي الثدييات لا تمتلك الحيتان غدد دمعية ولا غدد جلدية ولا تمتلك حساً شمياً. سمع الحيتان حادٌ لكن الأذن لا تمتلك أيّة فتحة خارجية. يحدث السمع عن طريق الإهتزازات المنتقلة إلى عظمة ثقيلة صدفية الشكل مؤلفة من اندماج بعض عظام الجمجمة (التجويفات الأذنية و التجويفات حول الأذن).
هذه إذن أهم مزايا و خصائص الحيتان. بعضُ هذه المزايا تُظهر تكيفاتٍ مميزة فرضتها على الحيتان ضرورات التأقلم مع الحياة البحرية وبعضها الأخر يظهر رابطاً قوياً و واضحاً بين الحيتان وأسلافها البريّة كما أن بعض الخصائص تعود لسلفٍ بريٍّ مشتركٍ مع العديد من الأنواع القديمة والحديثة الأخرى.
من خلال هذه الصفات و الخصائص يمكننا إعادة بناء و تصوّر المنحى الذي اتخذه تطور الحيتان من سلفٍ بريٍّ إلى الحوت الحديث حبيس أعماق المحيطات.
مُعمِلاً فكره في أصل الحيتان دوَّن John Ray” عام 1693 ملاحظته أنّ الحيتان حيوانات ثديية معتمداً في ذلك على التشابه بين الحيتان و الثدييات البريّة. كانت النقاشات العلمية حول أصل الحيتان في فترة ما قبل النظرية الداروينية تدور حول فيما إذا كانت الحيتان من أصلٍ بريٍّ أو هي أصل الثدييات البريّة. اقترح داروين عام 1859 أن الحيتان تطورت من الدببة مقدماً فرضية عن إمكانية أن تكون الضغوط الاصطفائية ساهمت في تطور الدببة إلى حيتان واضطر داروين تحت وطأة السخرية التي تعرض لها لسحب فرضية الدببة السابحة هذه من النسخ اللاحقة من كتابه “أصل الأنواع”.
بعد ذلك، وجد “فلاور” عام 1883 أن الحيتان تمتلك صفات أولية وأثرية غير وظيفية تتميز بها الثدييات البرّية وهذا ما أكدَّ أن إتجاه تطور السلف كان من نوع بريّ إلى نوع بحري و على أسس علم التّشكل (المورفولوجيا) ربط “فلاور” بين الحيتان وذوات الحوافر ويبدو أنّه أول من قال بهذا الرأي.
في بدايات القرن العشرين اقترح كل من “ايبرهارد فراس” و “تشارلز اندروز” أن السريدونتات (وهي مفترسات من آكلة اللحم البدائية و منقرضة حالياً) هي أسلاف الحيتان. في وقتٍ لاحق، افترض “ويليام ديلر ماثيو” من متحف التاريخ الطبيعي الأميركي أن الحيتان أصلها حيوانات ملتهمة الحشرات (الـinsectivores) لكن هذه الفكرة لم تلقَ تأييداً كبيراً. بعد ذلك بوقت قليل، حاول “ايفرهارد يوهانس سليبر” أن يمزج بين الفكرتين فافترض أن الحيتان هي سليلة ما دعاه “بارنس” بالـ”creodonts-cum-insecti
ربط “فان فالن” عام 1966 و “سزالاي” عام 1969 بين الحيتان الأولى و الـ”mesonychid condylarths” (و هي آكلات لحوم بدائية من ذوات الحوافر منقرضة حالياً وحجمها تقريباً بحجم الذئب) اعتماداً على صفات الأسنان. الأدلة الحديثة تؤكد صواب تخمينهم وعليه كان “فلاور” على حق بربطه بين الحيتان وذوات الحوافر.
-الأدلة:
الأدلة على أنّ الحيتان متحدرةٌ من ثدييات بريّة في هذه الورقة مقسّمة على تسعة أجزاء مختلفة ومستقلة عن بعضها البعض و هي:
أدلة من علم المتحجرات والمستحاثات، أدلة من علم دراسة الشكل والتشكل الـ”morphology”، أدلة من البيولوجية الجزيئية ، أدلة من الأعضاء الأثرية اللاوظيفية، أدلة من علم الجنين، أدلة من الجيوكيمياء، أدلة من البيئات القديمة (دراسة البيئة و ما يتعلق بها في عصر جيولوجي قديم)، أدلة من الـ”paleobiogeography” (علم الجغرافيا الحيوية القديمة و يدرس توزع الأحياء و المستحاثات في منطقة جغرافية قديمة)، و أدلة من علم الزمن الـ”chronology”. على الرغم من كون التلخيص الأدلة ليس شاملاً، لكنه يظهر أن رؤيتنا الحالية عن تطور الحيتان مدعومة بأبحاث علمية من عدة تخصصات مختلفة.
1. أدلة من علم المستحاثات :
تأتي الأدلة من علم المستحاثات من دراسة التسلسل الأحفوري للثدييات البرية من خلال تتبع الأشكال الأكثر فالأكثر “شبهاً بالحيتان” (أي أن لها صفات أكثر قرباً للحيتان مقارنة بالأشكال الأخرى ) حتى ظهور الحيتان الحديثة على الرغم من الحيتان الأقدم “المبكرة” (Archaeocetes) ( الحيتان القديمة “ancient whales ” ) تظهر تنوعاً أكثر من المساحة التي لدي هنا لمناقشتها ، إلّا أنّ الأمثلة في هذا القسم تقدم التوجهات التي نراها في هذه “الأصنوفة” هناك رتيبتان من الحيتان الحديثة و هي الحيتان ذوات الأسنان و الحيتان البالينية (الرتيبة هي تصنيف حيوي تقع بين الضرب و العائلة) لكن في هذه المناقشة سنركز على أصل الحيتان كضربٍ من الثدييات وسندع جانباً القضايا المتعلقة بالتنوع ضمن الرتيبتين.
Sinonyx :
سنبدأ مع الـ”Sinonyx” وهو آكل لحوم بدائي من ذوات الحوافر حجمه بحجم الذئب تقريباً من ضرب الـ”اللقمانيات Condylarthra” وقد عاش في أخر العصر الباليوسيني قبل حوالي 60 مليون عام (ومنه تتحدر شفعيات الأصابع “artiodactyla” و وتريات الأصابع “perissodactyla” و الفيليات “proboscidea” و أنواعٌ أخرى).
الصفات المميزة التي تربط الـSinonyx مع الحيتان و التي تبيّن أنهم أقرباء تطوّريون تشمل خطماً طويلاً (الخطم هو بروزٌ في الوجه يحوي الفم و الأنف عند بعض الحيوانات كالكلاب و الذئاب مثلاً) و ثقبةً وداجيّةً متوسّعةً و عظام قاعدة الجمجمة قصيرة.
كان عدد الأسنان في الثدييات البدائية هو 44 أي كانت الأسنان أسناناً مختلفة ومغايرة لأسنان الثدييات الحالية، و كانت الأضراس عبارة عن قواطع رفيعة جداً خاصةً في الفك السفلي، لكنها كانت تمتلك نتوءات عديدة. الخطوم الطويلة هي صفةٌ مشتركةٌ بين كلِّ الحيتان التي تصطاد الأسماك، والدلافين أيضاً تملك خطوماً طويلة. هذه الصفات المميزة كانت غير اعتيادية عند الـmesonychid ما يعني أنّ الـSinonyx كانت قد بدأت بالتطور و اكتساب بعض التكيّفات التي ساهمت لاحقاً بتشكيل أُسس نمط الحياة المُميّز للحيتان.
Pakicetus:
المستحاثة التالية في الترتيب هي باكيسيتوس Pakicetus، و هي الأقدم بين الحيتانيات و أول حوت بدائي معروف لنا وهي تعود إلي أوائل العصر الإيوسيني و وُجدت في باكستان، و عمرها حوالي 52 مليون عام. على الرغم من أنّها تُعرف من بقايا جماجم مُتشظيّة، لكن تبقى هذه البقايا مفيدة في التصنيف لأنها تشكل نوعاً انتقالياً بين الـSinonyx والحيتان اللاحقة وخصوصاً فيما يتعلق بالأسنان.
الأضراس العلوية والسفلية و التي تملك نتوءاتٍ عديدة تظل في هذه المستحاثة شبيهة بتلك الموجودة لدى Sinonyx لكن الأسنان الطاحنة لديها أصبحت مُثلثة مؤلفة من نتوءٍ واحدٍ حادٍ من الأمام ومن الخلف.
الأسنان لدى الحيتان اللاحقة تبدي تطوراً نحو أسنانٍ مُثلثةٍ بسيطةٍ وحادة كالتي لدى أسماك القرش وهذا يبيّن أنّ أسنان الـPakicetus تطوّرت لتتكيف على صيد الأسماك.
يُظهرُ عظمُ قحفٍ محفوطٌ بشكلٍ جيد عائد لـPakicetus أنّه كان بالتأكيد من الحيتانيات بسبب قحفه الضيق وعُرفٌه سهمي الشكل sagittal crest المرتفع والضيق والعُرفٌ اللاميٌ lambdoid crest البارز. قام علماء عام 1983 بإعادة بناء و ترميم جمجمةٍ الـPakicetus طولها قرابة 35 سم.
تبيّن أنه لم يكن يسمعُ جيداً تحت الماء فجمجمته لا تحتوي فقاعة طبلية tympanic bulla أو تجاويف تفصل بين المنطقة السمعية اليسرى عن المنطقة اليمنى وهي تكيفات طورتها الحيتان اللاحقة تسمح لها بالسمع المُوجّه تحت الماء ومنع انتقال الأصوات عبر الجمجمة.
كل الحيتان الحيّة اليوم لديها تجاويف سمعية مليئة بسائل رغوي وفقاعة طبلية قاسية تُشكل وسيلةً لتفريق الأصوات بحسب جهة قدومها.
لا يوجد دليل على أن الـPakicetus كان يملك أوعيةً دموية في الأذن الوسطى وهو أمرٌ ضروري لتنظيم الضغط في الأذن الوسطى خلال الغوص وعليه فإنّ الـPakicetus لم يكن على الأغلب قادراً على الغوص لأعماقٍ كبيرة.
إن التقييم الأحفوري والمكانة الإيكولوجية لمستحاثة الـPakicetus تتوافق مع أدلة علم البيئة القديمة والجيوكيمياء.
وبالنسبة للسمع، فالـPakicetus بريٌّ أكثر من أن يكون مائياً، لكن شكل جمجمته تدل على أنه من الحيتانيات، وأسنانه تمثل شكلاً إنتقالياً بين أسنان السلف والحيتان الحالية.
Ambulocetus:
وُجدت في نفس المنطقة التي وُجدت فيها مستحاثة الـ Pakicetus لكن في طبقة رسوبيّة أعلى بـ120 متراً.
اكتشفه العالم Thewissen وزملاؤه عام 1992 و أطلقوا عليه Ambulocetus natans وتعني “الحوت الماشي و الذي يستطيع السباحة” ويعود تاريخه إلى أوائل العصر الإيوسيني الأوسط، تقريباً حوالي 50 مليون عامٍ مضت، والـAmbulocetus هي حقاً مستحاثة مُذهلة فمن الواضح أنها تعود إلى الحيتانيات، لكنّها تمتلك أقداماً وظيفية و هيكلاً عظمياً يسمح لها إلى حدٍّ ما بالمشي على اليابسة.
استنتاج أنّ الـAmbulocetus كان قادراً على المشي باستخدام أطرافه الخلفية مدعوم بامتلاكه عظمَ فخذٍ كبيرٍ ومتينٍ لكن عدم وجود أوتار كبيرة و أساسية لعضلات المشي على الفخذ يعني أنه لم يكن قادراً على المشي بشكلٍ جيد. من المحتمل أنّه كان يمشي بالطريقة التي يمشي بها أسود البحر في يومنا هذا عن طريق لف الأرجل الخلفية إلى الأمام متهادياً على الأرض بمساعدة أقدامه الأمامية وإنثناء عموده الفقري. بينما يمشي لابد وأن تشير أقدامه الأمامية إلى الجانبين إلى حد ما لأنه إن أشارت للأمام سيعوّق القدمين بعضهما البعض.
كانت الأطراف الأمامية متوسطة في البناء والوظيفة و كانت عظمتا الزند والكعبرة قويتان وقادرتان على حمل وزن الحيوان على الأرض.
كان الكوع القوي قوياً لكنه كان منحنياً إلى الخلف جاعلاً الساعد قادراً على الدفع أماماً للسباحة. مع ذلك كان الرسغ مرن، على عكس ذاك الخاص بالحيتان الحديثة.
يتضح من التركيب التشريحي للعمود الفقري أنه كان يتحرك لأعلى وأسفل حين كان حوت الـAmbulocetus يسبح مندفعاً بقوة أقدامه الخلفية المتجهة للخلف. كانت أقدامه كبيرة كما هو الحال مع الثدييات المائية الأخرى التي تستخدم أسلوب السباحة نفسه. الغريب في الأمر أن أقدام الحوت الخلفية انتهت بحوافر مبينة بذلك إنتماء الحيوان لسلف من ذوات الحوافر. الفقرة الذيلية الوحيدة التي وجدت كانت طويلة مما يرجح أن الذيل كان طويلاً هو الآخر مقارنه بذيول الحيتان الحديثة فلابد أن الـAmbulocetus امتلك رقبة مرنة.
كانت جمجمة الAmbulocetus حوتية جداً فقد كان له خطم طويل وأسنان شبيهة بالarchaeocetes اللاحقة وقوس وجني (عظمة خد) متقلص وفقاعة طبلية (تلك التي تدعم طبلة الأذن) ذات صلة ضعيفة بالجمجمة. بالرغم من أن الAmbulocetus لم يكن له فتحة نفث إلا أن الصفات الأخرى للجمجمة تؤهل الAmbulocetus ليكون من الحوتيات وعليه فأفضل وصف للـAmbulocetus هو أنه آكل سمك برمائي بحجم أسد البحر الذي لم يكن منفصلاً تماماً عن حياة أسلافه البرية.
Rodhocetus:
في منتصف العصر الإيوسيني (من حوالي 46 أو 47 مليون سنة) أخذ الـRodhocetus تلك التغيرات لمرحلة أبعد مع احتفاظه ببعض الخصائص الأرضية البدائية. إنه أول archaeocete له فقرات صدرية وعجزية وقطَنية محفوظة.
كان للفقرات القطنية نخاع عصبي أكثر مما في الحيتان السابقة، حجم تلك النتوءات على قمة الفقرات حيث كانت العضلات موجودة يشير إلى أن الـRodhocetus قد طوّر ذيلاً قوياً بهدف السباحة.
في مناطق أخرى في العمود الفقري لم تكن الفقرات الأربعة العجزية الكبيرة ملتحمة مما أعطى العمود الفقري المزيد من المرونة وسمح بوجود حركة دفع أقوى أثناء السباحة. من المحتمل أيضاً أنه كان للـRodhocetus زعنفة ذيلية مع أن تلك الصفة ليس لها حفريات: امتلكت صفات (مثل فقرات عنقية قصيرة و فقرات ذيلية قوية وثقيلة ونخاع ظهري كبير على الفقرات القطنية للوصلات الذيلية والعضلية المحورية الأخرى) و هي صفاتٌ يتم ربطها لدى الحيتان الحديثة بتطوّر و إستخدام الزعانف الذيلية.
على العموم لابد وأن الـRodhocetus كان سبّاحاً بارعاً في استخدام ذيله وهو يعتبر من أول حفريات الحيتان التي كانت مهتمة بالسباحة.
كان حوض الـRodhocetus أصغر من حوض أسلافه لكنه كان متصلاً بالفقرات العجزية ما يعني أنّه كان من الممكن للRodhocetus أن يمشي على الأرض إلى حد ما.
مع ذلك كانت ألواح الحوض العظمية قصيرة مقارنة بتلك التي كانت للـmesonychids جاعلاً الدفعة العضلية للفخذ أضعف أثناء المشي وكانت عظمة الفخد أقصر بمقدار الثلث من تلك التي للـAmbulocetus لذا فمن المحتمل أن الـRodhocetus لم يكن يتحرك بسلاسة كأسلافه.
كانت جمجمة الـRodhocetus كبيرة جداً مقارنة ببقية الهيكل العظمي. كانت عظام القواطع وعظام المضارس (عظام الفك) ممتدة إلى الأمام أكثر من أسلافه مما جعل الجمجمة أطول وشبيهة بالحيتان أكثر. كانت للضروس قمماً أعلى من الحيتان السابقة وكانت أكثر بساطة وكانت الضروس السفلى عالية أكثر مما هي عريضة. كان هناك تمايز أقل بين الأسنان. لأول مرة على الإطلاق كان للحوت فتحات أنف مرتفعة إلى مستوى الخطم وكانت موجودة أعلى من الأنياب مما يظهر تطور فتحات النفث. كانت الفقاعات السمعية كبيرة ومكونة من عظم سميك (وهي صفة نادرة في وسط الحيتان) لكنها في الظاهر لم تحتوي على الجيوب الأنفية التي كانت للحيتان اللاحقة مما يضع شكوكاً حول إمتلاك الـRodhocetus لسمع إتجاهي تحت الماء.
على العموم أظهر الـRodhocetus تحسنات عن الحيتان السابقة بفضل قفصة الصدري العميق والرشيق ورأسه الأطول ومرونته الفقارية الكبيرة وجهازه العضلي الذيلي المتمدد. أظهرت الزيادة في المرونة والقوة في الظهر والذيل مع تناقص القوة في والحجم في الأطراف أن الحوت هذا كان سباحاً ماهراً ذو قدرة ضعيفة للمشي على الأرض.
Basilosaurus:
يمثل الحوت الأحفوري Basilosaurus المرحلة التطورية التالية في خط تطور الحيتان.
عاش هذا الحوت في أواخر و وسط العصر الإيوسيني (منذ حوالي 35 – 45 مليون عام). كان الBasilosaurus حيوان طويل ونحيف وأفعواني وكان يُعتقد في الأصل أنه بقايا أفعى بحرية (ومن ذلك تم إختيار إسمه الذي يعني “السحلية الملك”.)
يبدو أن طول جسمه الرهيب (15 متراً) هو نتيجة لصفة فريدة بين الحيتان ، فقراته ال67 طويلة جداً مقارنة بحيتان أخرى عاصرته وحيتان حالية لدرجة أن هذا يمثل تخصصاً يفصله عن الخط التطوري الذي انحدرت منه الحيتان المعاصرة.
على الرغم من ذلك فما يجعل حوت الBasilosaurus حوتاً مثيراً للإهتمام بشكل خاص هو التركيب التشريحي لأطرافه الخلفية حيث كانت له عظام حوض شبه مكتملة ومجموعة من عظام أرجل خلفية. كانت الأرجل الخلفية أصغر من أن تنتج دفعاً فعالاً حيث كانت أقصر من 60 سنتيمتراً بالنسبة لطول الحيوان البالغ 15 متراً وكان حزام الحوض منعزل تماماً عن العمود الفقري لدرجة أن حمل الأوزان كان مستحيلاً.
إعادة التراكيب التي أجريت لعظام الحيوان جعلت من مكان الأرجل وضعاً خارجاً عن الجسم وهو ما يعتبر تركيبة تمثل حلقة تطورية متوسطة مهمة للحيتان.
على الرغم من أنه لم يتم العثور على زعانف ذيلية قط (لأنها لا تحتوي على عظام و من غير المحتمل أن تصبح مستحاثات) إلا أنّ بعض العلماء قاموا في عام 1990 بالإشارة إلى أنه كان لعمود الBasilosaurus الفقري صفات مشتركة مع حيتان لها زعانف ذيلية حيث كانت الفقرات الذيلية والعنقية أقصر من تلك الموجودة في المنطقتين الصدرية والقطنية مما جعل العلماء هؤلاء يعتبروا أن النِسَب الفقارية تلك دليل على أنه من المحتمل أن الBasilosaurus إمتلك زعنفة ذيلية.
تأتي المزيد من الأدلة على أن حوت الBasilosaurus قضى معظم وقته في الماء من تغير هام في جمجمته حيث كان لهذا الحيوان فتحة أنف وحيدة كبيرة والتي هاجرت مسافة قصيرة مقابلة للثلث الخلفي من صف الأسنان.
تلك الحركة من أقصى مقدمة الخطم إلى موقع أقرب إلى قمة الرأس هي صفة تنتمي فقط للثدييات التي تعيش في بيئات بحرية أو مائية.
Dorudon:
كان الDorudon معاصراً للBasilosaurus في أواخر العصر الإيوسيني (منذ حوالي 40 مليون عام) وتقريباً يمثل المجموعة التي يحتمل أنها سلف للحيتان الحديثة.
لم يمتلك الDorudon الفقرات المطوّلة الخاصة بالBasilosaurus وكان أقصر منه حيث كان يتراوح بين 4 و5 أمتار.
كان تركيب الأسنان الخاص به شبيها بالذي كان للBasilosaurus حيث كان قحفه متقوقعاً مقارنةً بقحف الBasilosaurus والحيتان السابقة.
لم يمتلك الـDorudon بعدْ شكل الجمجمة الذي كان ليشير إلى وجود القدرة على تحديد المواقع بالصدى (السونار) و التي تمتلكها الحيتان الحاليّة.
كان الBasilosaurus والDorudon حوتين مائيين بالكامل (حيث كان لهما أرجل خلفية صغيرة جداً قد تكون خرجت عن نطاق الجسم قليلاً.) لم يكونوا مرتبطين بالأرض على الإطلاق، في الواقع ما كان هذان الحوتان ليتحركا على الأرض بتاتاً فحجمهما وفقدانهما للأطراف التي تدعم الوزن جعلهما ثدييان يلتزمان بالماء وهي ظاهرة ظهرت بصورة أعقد وأقوى في الأصناف الحوتية اللاحقة.
لتلخيص الجزء الخاص بالأدلة الأحفورية قد أشرنا إلى التغيرات المتناسقة التي تشير إلى تغيرات تكيفية من بيئات أرضية إلى بيئات مائية حين انتقلنا من الفصائل القديمة إلى الفصائل الأحدث.
تؤثر تلك التغيرات على شكل الجمجمة، شكل الأسنان، موضع فتحات الأنف، حجم وتركيب الأطراف الأمامية والخلفية، حجم وشكل الذيل، وتركيب الأذن الوسطى حيث أن لها علاقة وثيقة بالحركة والغطس تحت الماء.
يسجل الدليل الأحفوري تاريخاً من التكيف المتزايد للحياة في الماء و ليس فقط أي أسلوب من أساليب الحياة في الماء لكن الحياة التي تعيشها الحيتان الحالية بالتحديد.
2. أدلة من علم التشكّل (المورفولوجيا):
الفحص المورفولوجي للصفات التي تتشارك فيها الحيتان الأحفورية مع ذوات الحوافر الحالية تجعل اشتراكهم في السلف أكثر وضوحاً.
على سبيل المثال التركيب التشريحي لقدم حوت الBasilosaurus يربط بين الحيتان وذوات الحوافر مزدوجة الأصابع حيث أن محور انتظام القدم في تلك الحفريات يقع بين الإصبع الثالث والرابع و ذلك الترتيب يدعى paraxonic هو من صفات ذوات الحوافر مزدوجة الأصابع والحيتان واللقمانيات و نادراً ما يوجد في المجموعات الأخرى.
هناك مثالٌ آخرٌ يتضمن “سندان” الأذن الوسطى.
السندان الخاص بالPakicetus هو حلقة مورفولوجية متوسطة في الصفات بين السندان الخاص بالحيتان الحديثة وذوات الحوافر مزدوجة الأصابع الحاليين.
بالإضافة لذلك يقع المفصل الموجود بين “مطرقة” الأذن الوسطى وعظمة السندان الخاصين بمعظم الثدييات في موقع متوسط بين وسط ومقدمة الحيوان بينما في الحيتان وذوات الحوافر الحديثة يكون واقع بين جانب ومقدمة الحيوان.
في الPakicetus بالتحديد في أولى الحيتان الحفرية يقع المفصل ذاك في موقع متوسط بين هذا الخاص بالأسلاف وذاك الخاص بالحيوانات الحديثة و عليه فمن الواضح أنه إلتف ناحية الوسط عما كان عليه في الحيوانات الأرضية السابقة فبذلك يزودنا الPakicetus بصورة لحلقة متوسطة بين المرحلتين.
3. أدلة من الأحياء الجزيئية:
الفرضية القائلة بأن الحيتان تنحدر من حيوانات أرضية تتنبأ بأنّ الحيتان المعاصرة وأقاربهم من الثدييات الأرضية لابد وأن يُظهروا تشابهات في التركيب البيولوجي الجزيئي الخاص بهم بالتناسب مع حداثة السلف المشترك بينهم، بمعنى أن الحيتان ينبغي أن تكون متشابهةٌ أكثر في البيولوجيا الجزيئية مع مجموعات من الحيوانات تشاركهم في سلف حديث نسبياً بدلاً من مشاركة ذلك مع حيوانات أخرى تظهر تشابهات متقاربة في التركيب والبيئة والتصرفات.
تظهر الدراسات الجزيئية التي أجراها مجموعة من العلماء في عام 1985 أنّ الحيتان على قرابة وثيقة لذوات الحوافر أكثر من الثدييات الأخرى وهي نتيجة متسقة مع التنبؤات التطورية. تعرضت تلك الدراسات لبروتينات مثل الميوجلوبين وبروتين alpha-crystallin A الموجود في عدسة العين والسيتوكروم c في دراسة ل46 فصيلة من الثدييات.
زود العالمان مياموتو وجودمان لاحقاً عدد السلاسل البروتينية عن طريق تضمن ألفا وبيتا الهيموجولبين والريبونيوكلياس، كما قاما برفع عدد الثدييات في الدراسة إلى 72.
كانت النتائج متطابقة: تنتمي الحيتان بوضوح إلى ذوات الحوافر.
قامت دراسات جزيئية أخرى على مجموعة من الجينات والبروتينات والإنزيمات من العام 1991 إلى 1997 بتوضيح أنّ الحيتان ذات صلة قرابة لذوات الحوافر مزدوجة الأصابع على الرغم من أن هناك إختلافات في تفاصيل الدراسات.
عن طريق وضع الحيتان على مقربة من و في وسط ذوات الحوافر مزدوجة الأصابع نتج تأكيد من تلك الدراسات الجزيئية لتنبؤات قامت بها النظرية التطورية. لابد و أن تكون تلك التشابهات البيوكيميائية حاضرة إن كان للحيتان وذوات الحوافر -خاصة مزدوجة الأصابع- سلف مشترك لذا فحقيقة تواجد تلك التشابهات يعتبر بذلك دليل قوي على وجود سلف مشترك بين الحيتان وذوات الحوافر.
4. أدلة من الأعضاء الأثرية:
تخبرنا تلك الأدلة شيئين عن الحيتان: تخبرنا أنّ الحيتان مثلها مثل كائنات عديدة أخرى تمتلك صفات غير منطقية من وجهة نظر تصميمية -حيث لا وظيفة لتلك الأجزاء الآن ويتطلب إنتاجها و الحفاظ عليها كمية من الطاقة ومن الممكن أن تكون مضرة للكائن الحي، كما تخبرنا أيضاً أن الحيتان تحمل جزءاً من تاريخها التطوري معها مما يُظهر تاريخ السلف المشترك بينها وبين حيوانات البر.
عادة ما تحتفظ الحيتان الحديثة ببقايا غير وظيفية من العظام الحوضية عوديّة الشكل وعظام الفخذ والسيقان والتي تكون منغمسة في التركيب العضلي لجدران أجسامهم وتبرز تلك العظام في الفصائل القديمة و تندثر في الفصائل الحديثة وكما يظهر مثال الBasilosaurus فالحيتان التي وجدت في العصر المتوسط لديها أجزاء عظام حوضية و طرفية غير وظيفية متوسطة.
تحتفظ الحيتان أيضاً بأجزاء غير وظيفية في أعضاءها الحسية حيث أنّ للحيتان الحديثة أعصاب شمية غير وظيفية و بالإضافة إلى هذا ففي الحيتان الحديثة تكون فتحة القناة السمعية مغلقة وفي العديد منها تكون في حجم خيط رفيع بعرض 1 ميليمتر وتكون مقطوعة في المنتصف.
لدى كل الحيتان عدد من العضلات الصغيرة المخصصة لآذان خارجية غير موجودة و هي إشارة لوقت كانت لديهم فيه القدرة على تحريكهم -وهذا تصرف تختص به حيوانات البر بغرض السمع في الإتجاهات المختلفة.
الحجاب الحاجز في الحيتان هو غير وظيفي و به عضلات قليلة جداً ، و تستخدم الحيتان الحركة المتجهة للأمام الخاصة بالضلوع لملء رئاتها بالهواء.
أخيراً قام ستيفن جاي جولد في عام 1983 بتقرير تكرار حدوث العثور على حيتان عنبر تم إصطيادها والتي تمتلك أرجل خلفية ظاهرة وبارزة وبصورة مشابهة تمت رؤية دلافين ذات زعانف حوضية صغيرة على الرغم من أنها من المحتمل لم تكن مدعومة بعظام طرفية كما في حال حيتان العنبر النادرة.
تمتلك بعض الحيتان مثل الحوت الأبيض صيوانات أذنية بدائية وهي صفة لا تخدم أي هدف لحيوان لا يمتلك آذان خارجية والتي قد تقلل من كفاءة الحيوان في السباحة عن طريق رفع مستوى المقاومة المائعة.
على الرغم من أن تلك القائمة ليست شاملة إلّا أنّه من الواضح أنّ الحيتان لديها ثروة من المظاهر اللاوظيفية المتبقية من أسلافها البرية.
5. أدلة من علم الأجنة:
كما هو الحال مع الصفات اللاوظيفية فالصفات الجنينية تخبرنا شيئين: أولاً، يطور جنين الحوت عدد من الصفات التي يتخلى عنها لاحقاً قبل حصوله على الشكل الأخير، حيث يتطلب التطور أن تُبنى الصفات الجديدة على أسس من الصفات السابقة التي يمكن تعديلها أو التخلص منها لاحقاً.
ثانياً، يقدم الفحص المفصّل للتركيب الجنيني للحوت أدلة على وجود سلف برّي. سواء كانوا أجنة أو حيوانات بالغة فالحيتان هي ساحات خردة لصفات قديمة تم التخلص منها والتي ليست ذات فائدة الآن.
يطوّر العديد من الحيتان شعراً جسدياً وهم مازالوا في الرحم ومع ذلك لا تحتفظ أي حيتان حالية بأيّ شعرٍ جسديٍ بعد الولادة بإستثناء بعض الشعيرات التي تنمو على الخطم وبعض الشعيرات حول فتحات النفث والتي تستخدم كشعيرات إستشعار في بعض الفصائل.
حقيقة أن الحيتان تمتلك جينات إنتاج شعر الجسد تُظهر أن أسلافهم امتلكوا هذا الشعر وبصيغة أخرى كان أسلافهم ثدييات إعتيادية.
في العديد من أجنة الحيتان براعم الأرجل الخلفية تكون ظاهرة لمدة لكنها تختفي حين يكبر الجنين في الحجم ويظهر أيضاً لدى الجنين صيوانات أذنية بدائية والتي تختفي قبل الولادة (بإستثناء تلك الحيتان التي تحتفظ بهم كرجعية تطورية) وفي بعض الحيتان تتواجد فصوص الشم المخية في الاجنة فقط.
ينطلق الجنين في النمو مع وجود فتحات الأنف في المكان المعتاد للثدييات على طرف الخطم لكن أثناء النمو تهاجر فتحات الأنف إلى مكانها النهائي على قمة الرأس لتكوين فتحة (أو فتحات) النفث.
يمكننا أيضاً فهم التطور ما بين الحيتان عن طريق تراكيبهم الجنينية فنحن نعرف أن الحيتان البالينية قد تطورت من حيتان ذوات أسنان: بعض الأجنة البالينية تبدأ في تطوير أسنان وكما الحال مع الشعر الجسدي تختفي الأسنان قبل الولادة.
بما أنه لا يوجد أي استخدام للأسنان في الرحم فلا يكون الأمر منطقي إلا عن طريق وجود وراثة من سلف مشترك لذا فنحن لدينا مجال مستقل آخر في إتساق مع البحث الكلي -حيث أن الحيتان تمتلك صفات تربطهم بأسلاف من الثدييات البرية، بالتحديد الثدييات ذوات الحوافر.
6. أدلة جيوكيميائية:
عاشت الحيتان الأولى في بيئات مياه عذبة لكن أسلاف الحيتان الحالية انتقلت إلى بيئات مياه مالحة لذا فكان عليها التكيّف لشرب المياه المالحة. بما أن المياه العذبة والمياه المالحة يختلفان في نسبة نظير الأكسجين فسيمكننا أن نتنبأ أن التحول سيكون مُسجلاً في البقايا العظمية للحيتان -وأكثر جزء يصمد منها هو الأسنان وكما هو متوقع فالأسنانالمتحجرة التي ترجع إلى الحيتان الأولى تحتوي على نسب أقل من الأكسجين الثقيل نسبة إلى الأكسجين الخفيف مما يعني أن الحيوانات شَربت مياه عذبة. أسنان الحيتان اللاحقة تحتوي على نِسب أكسجين ثقيل أعلى من الأكسجين الخفيف مما يعني أنها شربت مياه مالحة. هذا يعزز تماماً الإستنتاج المأخوذ من الأدلة الأخرى التي تمت مناقشتها هنا: قام أسلاف الحيتان الحديثة بالتكيّف من بيئات أرضيّة إلى بيئات مياه مالحة عن طريق بيئات مياه عذبة.
7. أدلة من علم البيئات القديمة:
يقوم التطور بعمل تنبؤات عن تاريخ الأصناف بناءاً على النظرة العامة للحفريات في نطاق بيئي واسع. لابد أيضاً أن يرتبط تسلسل حفريات الحيتان والتغيّرات التي مرّت بها بالتغيرات الملحوظة في السجل الأحفوري لكائنات أخرى من نفس الحقبة في بيئات متشابهة. تظهر حفريات الكائنات الأخرى المرتبطة بحفريات الحيتان نوعية البيئة التي عاشت فيها الحيتان. بالإضافة إلى ذلك لابد وأن تكون هذه الأدلة متسقة مع أدلة مجالات الدراسة الأخرى. ينبغي أن نتوقع وجود أدلة لسلسلة من البيئات الإنتقالية -من بيئة أرضية بالكامل إلى بيئة بحرية بالكامل- تحتلها سلسلة من فصائل الحيتان في السجل الأحفوري.
يُظهر التركيب التشكّلي لحيوان الSinonyx أنه كان حيواناً برياً بالكامل فليس من المفاجيء إذاً أن أحافيره تُكتشَف في إرتباط مع أحافير حيوانات برية أخرى. على الأغلب قد قضى الPakicetus وقتاً طويلاً في الماء بحثاً عن الطعام. على الرغم من أن مجموعة الحيوانات المُكْتشَفة مع الPakicetus تتكون من القوارض، الخفافيش، عدد من ذوات الحوافر مزدوجة الأصابع، وذوات الحوافر مفردات الأصابع والفيليات وحتى نوع من الرئيسيات كما يوجد أيضاً حيوانات مائية كالحلزون والسمك والسلاحف والتمساحيات. علاوة على ذلك الرواسب المرتبطة بالPackicetus تُظهر دليلاً على الجريان أو التدفق والذي يكون عادة مرتبط بالتُربة التي تحملها المياه. أدلة البيئة القديمة إذاً تُظهر بوضوح أن الPakicetus عاش في بيئةٍ أرضيةٍ منخفضة ورطبة مع دخوله من وقتٍ لآخر في المياه العذبة. المثير في الأمر هو أن الأسنان النَفضيّة والدائمة للحيوان وجدت في تلك الرواسب بنفس المعدل مما يدعم فكرة أن الPackicetus كان يلِد على الأرض.
الرواسب التي أكتُشف فيها الAmbulocetus تحتوي على بصمة من أوراق شجر بالإضافة إلى حفريات الحلزون البرجي Turritella ورخويات بحرية أخرى. من الواضح أن وجود تلك الحفريات لابد وأن يعني أن حفرية الAmbulocetus وجدت في ما كان بحراً ضحلاً في وقت من الأوقات -مع أنه من الممكن أن الأورق قد انجرفت إلى البحر وتحجرت هناك إلا أن حفريات الرخويات لا يمكن أن توجد على الأرض.
عُثر على الRodhocetus في صخور طينية خضراء مترسّبة في عمق الجُرف القاري (ما يوازي الجزء الخارجي للمنحدر القاري.) بسبب أن الصخور الطينية الخضراء عادةً ما تكون مرتبطة بالمياة القاعية منخفضة الأكسجين فلابد وأن الRodhocetus قد عاش على عمق مياه أكبر من أي حوت سابق له. حقيقة أنه وجِد مرتبطاً بمنخربات عوالقية وحفريات مجهرية أخرى يتطابق مع تحديد هذا العمق من الماء. تم العثور على الBasilosaurus والDorudon في أنواع عديدة من الرواسب مما يوضح أنهما كانا واسعا النطاق وقادرين على العيش في المياه العميقة والضحلة.
من أدلة البيئة القديمة يمكننا أن نرى بوضوح أنه أثناء تطورها شقّت الحيتان طريقها إلى مياه أعمق وأصبحت متحررة من البيئات الأرضية والساحلية.
8. أدلة التوزّع الجغرافي للمستحاثات:
تتّسق الأدلة الجغرافية أيضاً مع الأنماط التوزيعية لظهور الحوت الأول وتوسعه الجغرافي اللاحق. نحن نتوقع أن يكون للفصائل البرّية توزيع جغرافي أكثر ضيقاً من ذاك الخاص بالفصائل البحرية التي يكون لها المحيط كله كمساحة جيوغرافية. مجال الSinonyx الجغرافي محدود بآسيا الوسطى ولم توجد أي عينات للPakicetus إلا في باكستان ومن الواضح أن الAmbulocetus والRodhocetus مقيّدان بنفس الطريقة وعلى العكس فالBasilosaurus والDorudon الذان يمثلان الحيتان المتكيّفة مع العيش في البحر المفتوح قد وجِدا في مساحةٍ أوسع بكثير حيث وجدت أحافيرهم على مسافةٍ كبيرةٍ من جنوب آسيا في جيورجيا ولويزيانا وكولومبيا البريطانية.
كانت معظم المناطق -التي وجِدت فيها أحافير لحيتان لاحقة- قريبة لبعضها البعض أثناء العصر الإيوسيني، في الواقع معظهم وجِد على حافة بحر قديم كان يدعى التيثس و بقاياه اليوم هي البحر المتوسط وبحر قزوين والبحر الأسود وبحر آرال. يطابق التوزيع البيوجيوغرافي للحيتان الأحفورية النمط الذي تنبأ به التطور: توجد الحيتان مبدأياً في منطقة جيوغرافية صغيرة حيث لم تتوزع حول العالم حتى تطورت إلى حيوانات مائية بالكامل لم تعد مرتبطة بالأرض.
9. أدلة من علم قياس الزمن:
آخر أجزاء الدليل في صورتنا المتناسقة عن أصل الحيتان تأتي من وضع سبب ظهور الحيتان وقتما ظهرت في الإعتبار. التطور هو إستجابة للتحديات والفرص البيئية ففي بداية العصر الحديث زُوّدت الثدييات بمجموعة جديدة من الفرص للإنتشار والتنوع، جزئياً بسبب الفراغ الذي تركته الإنقراضات الجماعية في نهاية العصر الطباشيري، ولأن الزواحف لم تعد مسيطرة فقد ظهرت طرق عيش جديدة للثدييات.
في حالة الحيتان بالأخص لم تعد الزواحف القابعة في محيطات الكوكب قادرة على إبعاد الثدييات فقبل الإنقراضات التي حدثت في أواخر العصر الطباشيري قامت زواحف الحقبة الوسطى البحرية كالplesiosaur والichthyosaur والmosasaur والتماسيح البحرية بالتغذي على الثدييات التي ضلّت الطريق على الساحل بحثاً عن الطعام. عندما إختفت تلك المفترسات؛ أنتج التطور تلك الثدييات سريعاً ومن ضمنها الحيتان و التي أحست كأنها بموطنها الأصيل في البحر كما كانت على الأرض. تطلّب التحول حوالي 10 إلى 15 مليون عام لإنتاج حيتان مائية بالكامل تعيش في الأعماق ومزودة بقدرة سمع إتجاهية تحتمائية. تنبأ التطور أنه لم يمكن للحيتان أن تَظهر بنجاح وتنتشر قبل العصر الأيوسيني وأن الثدييات لابد وأنها إنتشرت إلى بيئات بحرية كما إنتشرت في العديد من البيئات الأخرى التي أخليت من الزواحف في نهاية العصر الطباشيري.
في الختام: عند أخذها كلها معاً فتلك الأدلة تشير إلى إستنتاج واحد وهو أن الحيتان تطورت من ثدييات برية ولقد رأينا أنه يوجد 9 مجالات مستقلة للدراسة والتي تقدم دليل أن الحيتان تشترك في السلف مع الثدييات ذوات الحوافر. الإستنتاج العلمي الوحيد الذي يصمد في وجه الحجج المضادة للتطور هو أن الحيتان تطورت من ثدييات برية. هذه هي الطريقة التي يعمل بها العلم وعلينا أن نشدّد على عملية الإستنتاج العلمي بينما نشير إلى الإستنتاجات التي يستمدها العلماء من الأدلة وهي أن التنبؤات المتناسقة من مجالات الدراسة العلمية المستقلة تؤكد نفس النمط التطوري الخاص بالحيتان.
[divider] [author ]ترجمة : جون فؤاد ، راوان خاشوق[/author] [divider]