أشباه الموصلات هي اللبنات الأساسية في بناء الشرائح الإلكترونية. هذه الروائع التكنولوجية موجودة في كل شيء من المصابيح الكهربائية وفرشاة الأسنان، إلى السيارات والقطارات والطائرات، فضلًا عن المجال الواسع من الأجهزة الإلكترونية التي صارت أساسية في الحياة اليومية لمعظمنا.
وُصف قطاع تصنيع الشرائح الإلكترونية في القرن الحادي والعشرين بأنه يقارب المكانة الجيوسياسية للنفط في القرن العشرين. لكن صناعة أشباه الموصلات تتطلب كميات هائلة من الماء لتبريد الآلات وإبقاء الرقاقات البلورية خالية من الشوائب، على هذا تمثل أزمة المناخ الطارئة خطرًا على هذا القطاع.
رغم اعتماد هذا المجال على الماء، لم يُسلط الانتباه الكافي على الظروف المناخية المتغيرة التي قد تؤثر فيه. إذ يميل الصحفيون ومراكز البحوث في تغطيتهم للحدث إلى التغاضي عن كون المناخ من عوامل الخطر على مستقبل المجال.
مع ذلك توجد علامات اضطراب على المستويين الدولي والإقليمي. مثلًا، تمر تايوان -التي تنتج نحو 90% من أشباه الموصلات المتطورة- بجفاف حاد منذ عام 2021.
كان الجفاف حادًا إلى درجة أن المزارعين التايوانيين تقاضوا أموالًا مقابل إراحة أراضيهم، كي تُزوّد مصانع أشباه الموصلات بالمياه التي كانت ستُخَصص للزراعة. واضطُرت المصانع التايوانية لنقل المياه بالشاحنات من مجمع مياه إلى آخر لتلافي النقص.
البيانات المتوفرة عمومًا المتعلقة بالشح المائي الناتج من التغير المناخي، إضافةً إلى البيانات عن منشآت تصنيع أشباه الموصلات قيد التخطيط أو الموجودة حاليًا حول العالم، تُشير كلها إلى نسق عالمية مثيرة للقلق حيال مستقبل تصنيع أشباه الموصلات.
شُحّ المياه يلوح في الأفق:
أيًا كان السيناريو المتوقع للتغير المناخي، فإن ما لا يقل عن 40% من مصانع أشباه الموصلات الموجودة حاليًا تقع في مجمعات مياه يُتوقّع أن تعاني شحًا مائيًا شديدًا أو شديدًا للغاية بحلول سنة 2030.
تُعد مجمعات المياه في خطر شديد عندما تتراوح نسبة المياه المستعملة فيها بين 40% و%80 من إجمالي مصادر المياه المتجددة السطحية والجوفية المتاحة لجميع الاستعمالات، متضمنةً الزراعة والصناعة والاستعمال المنزلي. أما مجمعات المياه التي تفوق نسبة المياه المُستعمَلة فيها 80% من إجمالي المياه السطحية والجوفية المتجددة فتُعد في خطر شديد للغاية.
إن الكثير من المخاوف التي يُعبر عنها في إطار العلاقة بتصنيع أشباه الموصلات، تطرح المسألة في إطار جيوسياسي يتعلق بالتنافس بين الدول، خاصةً بين الصين والولايات المتحدة.
أعلنت كل من الولايات المتحدة وأوروبا عن تمويل حكومي كبير لقطاع صناعة أشباه الموصلات، بهدف إعادة منشآت الشركات التي نشرت قاعدتها الصناعية خارج هذه المناطق لعقود. مع ذلك، فإن المنشآت الصناعية التي أعلنت عنها الولايات المتحدة أو أوروبا كلها تقع في مناطق تواجه بالفعل شحًا خطيرًا في المياه.
تُشيّد شركات إنتل وسامسونج و«تي إس إم سي» -شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات- منشآت جديدة في جنوب غرب الولايات المتحدة، وهي منطقة تعاني الجفاف بالفعل منذ 1994. عام 2021، أصدر مكتب استصلاح الأراضي بالولايات المتحدة لأول مرة إعلانًا عن الجفاف يتعلق بحوض نهر كولورادو.
تشير سيناريوهات التغير المناخي إلى أن 40% من منشآت تصنيع أشباه الموصلات المعلن عنها منذ 2021 ستكون في مجمعات مياه يُرجح أن تعاني حالات إجهاد مائي خطير أو خطير للغاية.
باختصار، يشكل التغير المناخي وشُحّ المياه مخاطر على صناعة أشباه الموصلات على المدى القريب والبعيد.
حالة القطاع:
تقدر الاستثمارات في منشآت أشباه الموصلات بمليارات الدولارات. ولا يمكن ببساطة نقل إحدى هذه المنشآت من موقعها إلى مكان آخر إذا ساءت الظروف المائية المحلية.
مع كل هذا القلق بخصوص مستقبل القطاع، فإن مخاطر الشح المائي مجتمعةً تمثل فقط جانبًا من المسألة. من العوامل الأساسية الأخرى أهمية نقاط التقاء معينة في شبكات الإنتاج العالمية لصناعة أشباه الموصلات.
مثلًا فإن شركة «تي إس إم سي» تُعد على نطاق واسع شركة رائدة عالميًا في تصنيع أشباه الموصلات المتطورة، لصالح شركات مثل «آبل» و«إنفيديا» و«سيربراس». مع ذلك، تقع المنشآت التي تستعملها «تي إس إم سي» للتصنيع لهذه الشركات في ثلاثة مواقع فقط بتايوان، ما يؤدي إلى هشاشة شبكات الإنتاج العالمية التي تصنع هذه التكنولوجيا. تعتمد أشباه الموصلات -خاصةً الأكثر تطورًا منها- على شبكة تتكون من منشآت محدودة، منها «تي إس إم سي».
لا يستطيع زبائن هذه المنشآت استبدالها بسهولة بمزود آخر حال حدوث اضطراب، لذلك فإن المشكلات التي تظهر في منشأة واحدة قد تلقي بظلالها على سلاسل الإمداد العالمية. قد يؤثر هذا على نطاق واسع من البضائع المتنوعة التي تستعمل أشباه الموصلات، كما حدث في أثناء جائحة كوفيد-19.
يزعم رواد تصنيع أشباه الموصلات مثل «إنتل» و«تي إس إم سي» أنهم يتعهدون مسألة المياه بكل جدية، مع أن تقارير شركاتهم ذاتها تشير إلى اضطرابات محتملة قادمة. رغم استثمارات «تي إس إم سي» في استخدام المياه وإعادة تدويرها، تتوقع الشركة أنها ستكون قادرة على توفير فقط ثلثي احتياجهم من المياه للاستهلاك يوميًا في منشآتها في تايوان.
في الوقت ذاته تزعم إنتل أنها حققت استخدامًا إيجابيًا في شبكة تصنيعها إجمالًا. لكن ذلك ممكن فقط عند احتساب فائض المياه في مكان واحد من العالم مقابل عجز في المياه في مقراتها بأماكن أخرى.
مستقبل مثير للقلق:
لن يكون تجاوز مخاطر هذا الشح المائي المزمن الناتج عن أزمة المناخ سهلًا أو زهيد التكلفة لقطاع أشباه الموصلات، إذ يوجد الآن بالفعل نزاع بين القطاع وبين الاستعمالات الأخرى للمياه.
حتى عندما تحسن الشركات فرديًا من نجاحها في استهلاك الماء، لا تؤدي هذه المجهودات تلقائيًا إلى تحقيق الفعالية الهيكلية في جميع شبكات إنتاج أشباه الموصلات. مهما كان مستوى الفعالية في الاستهلاك، فلن يحل مشكلة الماء الذي تتطلبه عملية تصنيع أشباه الموصلات، فضلًا عن الاستعمالات الأخرى.
ربما ما زال من الممكن تجنب بعض العواقب الأسوأ للقطاع، الناتجة عن استمرار شح المياه، بإعادة التفكير في مواقع المنشآت المستقبلية التي أُعلِن عنها والتي لا تزال قيد التشييد.
لا يمكن أن توجد أجهزة إلكترونية دون أشباه موصلات، ولا يمكن تصنيع أشباه الموصلات دون توفير الماء. إن الأزمة المناخية عامل مهم في شح المياه الآن وفي المستقبل، فهل يتمكن القطاع من التأقلم؟ هذا ما سنعرفه مستقبلًا.
اقرأ أيضًا:
توقع حدوث نقص في أشباه الموصلات مع غزو روسيا لأوكرانيا
سابقة علمية: دمج أشباه الموصلات بالموصلات الفائقة
ترجمة: زياد نصر
تدقيق: أكرم محيي الدين
مراجعة: باسل حميدي