ننتقل الآن بقطار الزمن إلى حقبة زمنية جديدة، في تاريخ الفيزياء، فبعد استعراضنا شبه المجمل عن الفيزياء والفلك في عهد اليونانيين، وإيضاح إسهاماتهم وإنجازاتهم في هذين العلمين، حان وقت الوصول إلى القرنين الخامس عشر والسادس عشر داخل قارة أوروبا، حيث كان يسود الجهل والظلام، ويسيطر رجال الدين على كل جوانب الحياة بما فيها العلوم.
لم أجد أفضل من عبارة الكاتب الإنجليزي سيريل كونلوي التي قال فيها “حضارة كلّ عهد غذاء للتي تليها” في هذه المقولة استطاع الكاتب أن يوضح بشكل بسيط للغاية، أن العلم كالبناء، كلّ أمّة تضع فيه لبنة، وتأتي مَن بعدها لتضع الأخرى، وهذا ما سنلاحظه عند استعراضنا لتاريخ علم الفيزياء، إذْ سنرى كيف تأثّر العلماء في كلّ حقبة بمن سبقهم، وكيف طوّروا أفكارهم، وطوّعها لخدمة البشرية.
ولكن لماذا تمّ تجاوز كلّ هذه الحقبة الزمنية، الممتدّة منذ فترة علماء اليونان وحتى القرن الخامس عشر، أين ما بينهما؟ هذا ما سنتناوله في هذه الحلقة، لتوضيح الفرق الكبير بين الدراسة العلمية، القائمة على التجربة، والدراسة غير العلمية، حاول علماء العصر الوسيط أمثال هوغوسانت فكتور وتوما الأكويني دمج العلم مع الدين، وأخضعوا الظواهر الكونية والنظريات العلمية إلى قالب ديني محض، وفي حين ظل هؤلاء يحاولون جاهدين إيصال صورة غير جدلية عن وجود الله؛ استطاع كبلر بسهولة شديدة ربط عدة معادلات رياضية وهندسية، توصل من خلالها إلى تفسير حركة الكواكب والأجرام السماوية.
كل هذا دفع المؤرخين لتسمية هذه الفترة الممتدة بين كوبرنيكوس وبطليموس، بفترة الظلام الحالك، رغم التطورات التي شهدتها على صعيد الميكانيكا وأدوات الرصد والملاحة، بالإضافة إلى وميض خافت لبعض الاختراعات الأخرى التي كان أبرزها اختراع جوتنبرج للطباعة، إلّا أنّ هذه الاكتشافات لم تكن مبنية على أساس علمي، بمقدار ما كانت نتاج المحاولات العديدة فقط، نستثني من ذلك التليسكوب الذي اخترعه غاليليو، اعتمادًا على نظرية انكسار الضوء.
لم يكن من المسموح في هذه الفترة انتقاد أفكار أرسطو، أو أيّ أفكار لاهوتية، الأمر الذي كان يُعتبر من الزندقة، وعن ذلك أن اتُهِمَ روجر بيكون بالإلحاد ومُنع من تدريس علوم الطبيعة والميكانيكا نتيجة نقده لأفكار أرسطو عن الحركة، لكن هذا لم يكن كفيلًا بمنع بعض العلماء والمفكرين من رفض هذه السيطرة على العلم، ففي القرن السابع عشر، اقترح وليام أوكام أن هناك قوى دافعة داخل الكواكب هي التي تحركها، على خلاف ما افترضه أرسطو من وجود ملائكة تدفع هذه الكواكب فتسبب حركتها، انتشرت فكرة أوكام ولاقت قبولًا جيدًا، من هنا نشأ مبدأ “سيف أوكام” الذي يوصي باختيار أسهل نظرية بين العديد من النظريات الصعبة.
وانتقالًا إلى أحد أعظم علماء نهاية عصور الظلام وبداية عصور النهضة، العالم الذي يمكن وضعه في قائمة أفضل 100 عالم عبر التاريخ؛ نصل إلى الرسام والطبيب والمهندس والكيميائي الإيطالي ليوناردو دافينشي، مساعد حاكم فلورنسا لورينزو بييرو دي ميديشي، لقد لاحظ الجميع أن كلّ ما توصل إليه دافنشي يستند إلى أسس وقوانين فيزيائية، وبالرغم من عقليته الفذة إلّا أن التاريخ لم يذكر لنا أي قانون فيزيائي صاغه هو.
في تلك الفترة ظهر ثلاثة علماء أثّر كلّ منهم في تاريخ العلم بطريقته الخاصة: كوبرنيكوس وكبلر وبراهي. أعاد كوبرنيكوس شيئًا هامًا جدًا لأي مجتمع، وهو التساؤل الذي كانت المجتمعات قد فقدته آنذاك، نظرًا للسيطرة التي فرضها رجال الدين على كلّ مناحي الحياة، إلّا أن التساؤل مكّن المجتمع من الاقتناع بأن نظرية أرسطو التي تقول بمركزية الأرض للكون ليست صحيحة.
كان كوبرنيكوس من ضمن أساقفة الكنيسة، وأخذ منها تصريحًا لدراسة علوم الطب، دون أن ينسى ولعه بعلم الفلك الذي تعلق به منذ طفولته، أجرى رصده الأول عام 1500م، وبعد 13 عامًا اشترى 800 حجر لبناء مرصد خاص به، كان يستخدمه سرًا، وبعد العديد من المحاولات توصل أن الطرف الثابت هو الشمس، لا الأرض كما ادّعى أرسطو وبطليموس، شرح هذه الفكرة في كتابه «Commentariolus» الذي ظهر فيه جليًّا تأثّره بأرسطرخوس، رغم محاولاته نسب الفضل إلى نفسه، لكن بعيدًا عن هذا، كان الكتاب بمثابة تحدٍ، ليس لاكتشافه الفلكي الجديد فقط، وإنّما لمواجهة أفكار بطليموس التي سادت في المجتمع لمدة 15 قرنًا، حيث أثبت مركزية الشمس، ووضح حركة السماء اليومية، وحركة الشمس في دائرة البروج.
لم يستطع كوبرنيكوس تجنب كلّ أفكار بطليموس، فقد تأثر بفكرة دوران الكواكب في مدارات دائرية لا بيضاوية، المثير للدهشة هو أن افتراض مركزية الشمس يتطلب افتراض مدارات إهليجية لا دائرية كما افترض كوبرنيكوس، إلّا أنّه بدلًا من ذلك أدخل نظامًا هندسيًا جديدًا للحفاظ على أفكار بطليموس، وربما نعزي هذا إلى أنّ تميّز كوبرنيكوس لم يكن بالفيزياء بقدر ما كان بالفلك، فلم ينجُ من استخدام البديهيات اليونانية التي تحتوي على العديد من الأخطاء من أجل توضيح أفكاره.
عندما برز كبلر وضّح مدارات الكواكب، وأظهر خطأً جزئيًا في نظرية كوبرنيكوس، الذي كان متأثّرًا باللاهوت نتيجة نشأته كأسقف في إحدى الكنائس، وهكذا كان لا بد له أن يتبع النصوص الدينية التي تدّعي أن مدارات الكواكب دائرية، وذلك حتى يحدث الكمال أو ما ندعوه اليوم في علوم الرياضيات بالتناظر، الذي يتمثّل في الدائرة الواقعة على سطح مستوٍ، إذ بالإمكان إبصار سطحها من أيّ اتجاه، على خلاف الشكل البيضاوي، الذي دائمًا ما يظهر به قطع ناقص.
لم يكن من المستغرب أن تلاقي أفكار كوبرنيكوس معارضة عنيفة ومن كلّ الاتجاهات، وقد تجرّأ على مجاوزة أفكار لاهوتية ومتوارثة عن بطليموس وأرسطو، مات كوبرنيكوس وهو يدافع عن أفكاره، قبل أن يتسلم زمام الأفكار فلكي آخر، سنتعرف عليه في الحلقة القادمة.
الحلقات السابقة:
الحلقة الأولى: http://172.104.145.106:8080/ibelieveinsci.com/?p=9221
الحلقة الثانية: http://172.104.145.106:8080/ibelieveinsci.com/?p=9312
الحلقة الثالثة: http://172.104.145.106:8080/ibelieveinsci.com/?p=9490
الحلقة الرابعة: http://172.104.145.106:8080/ibelieveinsci.com/?p=9545