امتدَّت الحضارۃ المصرية الفرعونية من عام 3300 إلى عام 525 قبل الميلاد، وهى الفترة التي يُعتقد أنّ مفهوم الصحة بدأ عندها، حيث تُشير بعض السجلات الطبية أنّ مفهوم الرعاية الطبية جاء من مصر القديمة.
آمن المصريون القدماء بالصلاة كحلٍ لمشاكلهم الصحيّة، لكن كان لديهم أيضًا العلاجات الطبيّة والعمليّة مثل الأعشاب.
ونظرًا لأنهم كانوا مجتمعًا منظمًا يعتمد على الكتابة والرياضيات، فقد سجلوا أفكارهم، مما سمح للآخرين بالاطلاع عليها والتعلم منها.
العوامل المؤثرة
اعتقد المصريون القدماء أنّ الآلهة والشياطين والأرواح تلعب دورًا رئيسيًا في الإصابة بالأمراض. واعتقد الأطباء أن الأرواح تغلق قنوات الجسم، مما يعيق طريقة عمل الجسم؛ لذلك بحث الأطباء عن طريقة لفتح هذه القنوات، مستخدمين مجموعة من الصلوات والعلاجات الطبيعية (غير الروحية).
في البداية، كان معظم المعالجين من الكهنة، ولكن مع مرور الوقت ظهرت مهنة الطبيب للوجود.
كان لدى المصريين القدماء نظام مطور من الحروف والأرقام، الأمر الذي أتاح لهم تسجيل وتطوير أفكارهم وإجراء الحسابات. حيث تُعد الوثائق الطبية المصرية القديمة من أقدم الوثائق التي عُثر عليها حتى يومنا هذا.
كان لديهم أيضًا نظام اقتصادي منظم، ونظام حُكمٍ وسكان مستقرون، واتفاقيات اجتماعية، وقوانين مُطبّقة.
قبل هذا كان يعيش السكان حياة بدوية. سمح هذا الاستقرار بتطور الأبحاث الطبية.
بالإضافة إلى ذلك، كان هناك بعض الأفراد الأثرياء في المجتمع المصري الذين اهتموا بالرعاية الصحية، وكان لديهم الوقت للدراسة والتفكير.
كان منهم أيضًا التجار الذين سافروا لمسافات طويلة وعادوا مع الأعشاب والتوابل من الأراضي البعيدة.
البحث والتعلّم
تشير ممارسات التحنيط عند المصريين القدماء إلى معرفتهم ببعض آليات عمل الجسم البشري. خلال عملية التحنيط، كان يقوم الكاهن/الطبيب بإدخال آلة طويلة معقوفة من خلال فتحة الأنف، ويكسر العظمة الرقيقة في الدماغ لإزالة المخ.
ونتيجة لسمعتهم المميزة، سعى ملوك وملكات العالم إلى الأطباء المصريين.
برديات إيبرس (Ebers Papyrus) والممارسات الطبية.
عُثر على عدد من الوثائق المكتوبة التي تصف الممارسات الطبية المصرية القديمة، من بينها برديّة إيبرس.
تحتوي البرديّة على أكثر من 700 وصفة طبية وصيغ سحرية وعشرات التعاويذ السحرية المستخدمة في إبعاد الشياطين المسببة للمرض. ربما كُتبت حوالي 1500 قبل الميلاد، لكن يُعتقد أنها نُسخت من وثائق أقدم يعود تاريخها إلى 3400 قبل الميلاد.
وتُعدّ من أقدم الوثائق الطبيّة المحفوظة التي عُثر عليها حتى الآن.
وفرت لنا البرديّات دليلًا على بعض الإجراءات العلمية الصحيحة.
يُعتقد أنّ الأطباء كان لديهم معرفة جيدة إلى حدٍ ما بتركيب العظام وكيفية عمل الدماغ والكبد.
القلب
وفقًا لبرديّة إيبرس، فإنّ القلب هو مركز إمداد الجسم بالدم، وكل منطقة في الجسم مرتبطة بالأوعية الدموية. وكان القلب هو نقطة التقاء الأوعية التي تحمل الدموع والبول والسائل المنوي والدم. يصف الباحثون الذين كتبوا في 2014 عن الفهم المصري القديم للنظام الدوري في الجسم بأنّه «فهم متطور بشكلٍ مدهشٍ، وعلى درجة عالية من الدقة».
الأمراض العقلية
تصف البرديّة بالتفصيل صفات وأسباب وعلاج الاضطرابات العقلية، مثل الخرف والاكتئاب. اعتقد المصريون القدماء أنّ سبب الأمراض العقلية هو مزيج من القنوات المغلقة وتأثير الأرواح الشريرة والآلهة الغاضبة.
تنظيم الأسرة
احتوت البرديّة على قسم خاص بتحديد النسل، وكيفية معرفة إذا كانت المرأة حاملًا أم لا، وبعض المسائل الأخرى المتعلقة بأمراض النساء.
شملت البرديّات أيضًا مجموعة نصائح حول:
- مشاكل البشرة.
- مشاكل الأسنان.
- أمراض العينين.
- الأمراض المعوية.
- الطفيليات.
- كيفية علاج الخُراج أو الورم جراحيًا وبالإضافة إلى ذلك، هناك أدلة على معرفة الأطباء بكيفية وضع العظام المكسورة وعلاج الحروق.
النصائح الطبية
بعض النصائح التي كان يوصي بها الأطباء آنذاك تبدو سليمة إلى حدٍ ما بالنسبة لنا الآن. على سبيل المثال، نَصحوا الناس بضرورة غسل وحلق أجسادهم لمنع العدوى، والأكل بعناية، وتجنّب الحيوانات غير النظيفة والأسماك النيئة.
وعلى الجانب الآخر كانت هناك بعض النصائح الغريبة، مثل وضع سدادة من روث التمساح في مدخل المهبل كنوع من تحديد النسل. استخدم الناس أيضًا الروث لإبعاد الأرواح الشريرة.
طب الأسنان
مارس المصريون طب الأسنان، حيث عُرف لديهم نخر وتسوس الأسنان.
اشتملت العلاجات على الآتي:
- الكمون والعطور والبصل لعلاج تورم اللثة.
- ربما اُستُخدم الأفيون لعلاج ألم الأسنان.
- حفر الثقوب في الفك لتصريف الخراج.
ولكنهم لا يبدو أنهم عرفوا عملية استخراج الأسنان (الخلع).
السحر والدين.
شملت الحياة اليومية في مصر القديمة العديد من المعتقدات والخوف من السحر، والآلهة، والشياطين والأرواح الشريرة، حيث كانوا يعتقدون أنّ الآلهة بيدها شؤون الحياة.
كان (حِكِا) هو إله السحر والطب، في حين كان الإله (بِس) هو المسؤول عن حماية النساء أثناء الحمل، بينما كانت (سِرقِت) المعروفة أيضًا باسم (سلكت) هي المسؤولة عن الشفاء من اللسعات السامة للعقرب.
تسببت قوى الشر والآلهة الغاضبة في حدوث الكوارث وسوء الحظ؛ لذلك استخدم الناس السحر والدين في العلاج ولتجنب هذه القوى.
كان كثير من الكهنة أطباء، والعكس صحيح. في حين كان كثير من المعالجين من كهنة الإلهة سِخمت، إلهة الحرب والشفاء واللعنات والتهديدات.
بالإضافة إلى العلم، اشتمل العلاج على استخدام السحر والتعاويذ والتمائم والعطور والقرابين والأوشام والتماثيل.
يُعتقد أنّ الطقوس الدينية والسحرية كان لها تأثير وهمي قد يكون ساعد في الشفاء.
نظرية القنوات
جاءت النظرية عن طريق مراقبة الفلاحين للقنوات المحفورة لري محاصيلهم. ساعدت هذه النظرية الطب في الانتقال من العلاجات الروحية إلى العلاجات العملية والطبيعية.
يعتقد الأطباء أنّ القنوات الموجودة في الجسم مثلها مثل الخاصة بالري، تزوّد الجسم بطرق الصحة الجيدة، وإذا حدث وحصل انسداد، استخدموا أدوية مسهلة لتفريغها.
كان القلب مركز 46 قناة، يُنظر إليهم على أنهم أنواع من الأنابيب. بالرغم من أننّا نعلم الآن أنّ الأوردة والشرايين والأمعاء هي أنواع مختلفة من الأنابيب، لكن المصريون القدماء لم يفهموا أنّ لهذه القنوات وظائف مختلفة.
كان يُعتقد أنّ الانسداد في القنوات البشرية يحدث نتيجة روح شريرة تدعى (wekhedu) وعندما تصل هذه الروح إلى سطح الجسم تظهر كصديد.
مثلت فكرة أن للوظيفة الجسدية دورًا في الصحة طفرة في تاريخ الطب.
القنوات والقلب
اعتقد المصريون القدماء أنّ الجسد يتكون من قنوات أو (ميتو – Metu).
لاحظ الباحثون أنّ سوائل الجسم يمكن أن تدخل هذا النظام، من بينها البراز، مما يؤثر سلبيًّا على الجسم؛ لذلك كانت الحقن الشرجية من العلاجات المهمة لديهم للعديد من الأمراض، مثل الملاريا والجدري.
تشير برديّات إيبرس أنّ الأوعية تمر من القلب إلى أطراف الجسم الأربعة وكل أجزاء الجسم.
لذلك كان يضع الطبيب (كاهن سِخمت) يده على أي جزء من الجسم لفحص القلب؛ لأن جميع الأوعية تأتي من القلب.
تنص نظرية القنوات على الآتي:
- القلب هو المركز الذي يصل إلى كل أجزاء الجسم.
- عند التنفس من خلال الأنف، يدخل الهواء إلى القلب والرئة ثُم البطن.
- تحتوي فتحة الأنف على أربع أوعية، اثنان للمخاط واثنان للدم.
- هناك أربع أوعية في الجسم تؤدي إلى الأُذنين، يدخل نَفَس الحياة من الأذن اليُمنى، ويدخل نَفَس الموت من الأذن اليسرى.
- أربع أوعية في الرأس يمكن أن تُسبب الصلع.
- جميع أمراض العين تأتي من أربع أوعية في الجبين تزود العين بالدم.
- إثنان من الأوعية يدخلان إلى الخصيتين ويوفران السائل المنوي.
- إثنان من الأوعية توفران التغذية في الأرداف.
- ستة أوعية تصل إلى باطن القدمين، وستة إلى أسفل الذراعين والأصابع.
- وعاءان يوفران البول في المثانة.
- أربع أوعية تزود الكبد بالسوائل والهواء، وعندما تمتلئ بالدم تسبب الأمراض.
- أربع أوعية تزود الرئتين والطحال بالسوائل والهواء.
- يأتي السائل والهواء من فتحة الشرج من أربع أوعية.
- يتصل الشرج أيضًا بجميع الأوعية الموجودة في الذراعين والساقين إذا امتلأوا بالنفايات.
الجراحة
تمكّن الأطباء مع التدريب من إصلاح العظام المكسورة والمفاصل المخلوعة بنجاح.
كانت أساسيّات الجراحة -جراحات الجلد والمناطق القريبة من الجلد- من الأمور الشائعة لديهم، كذلك عرف الأطباء كيفية خياطة الجروح بكفاءة.
استخدموا الضمادات وربطوا بعض النباتات مثل أوراق الصفصاف لعلاج الالتهابات.
بالرغم من ذلك، لم يعرفوا كيفية إجراء الجراحات العميقة، ربما بسبب عدم وجود المواد المخدرة والمطهرة.
كانت ممارسات ختان الأولاد الصغار من الأمور الشائعة لديهم. غير معلوم إذا كان لديهم ختان الإناث أم لا، يوجد مصدر واحد فقط على عملية ختان لفتاة، لكن قد يكون هناك خطأ في الترجمة.
استخدم الجراحين مجموعة من الأدوات، مثل الكماشة والملقط والملاعق والمناشير وأوعية لحرق البخور وخُطّافات وسكاكين.
كذلك عرفوا الأطراف الصناعية، لكنها لم تكن عملية بما فيه الكفاية. ربما استُخدمت لجعل المتوفين أكثر أناقةً أثناء الجنازات، أو لأغراض التزيين.
الإصابات والمرض
حدد الأطباء المصريون ثلاثة أنواع من الإصابات:
- إصابات يمكن علاجها: تعاملوا معها في الحال.
- إصابات يمكن اعتراضها: أي لا تهدد الحياة ويمكن للمريض أن يتعايش بها دون تدخل طبي. يراقب الطبيب المريض في حالة تطَّلب الأمر تدّخُل.
- أمراض لا يمكن علاجها: لا يتدخّل الطبيب.
اشتملت الشكاوى الشائعة على:
- نزلات البرد
- مشاكل الجهاز الهضمي
- الصداع
طِبقًا لبرديّة إيبرس يعالج الصداع بالآتي: « دقيق، عطور، خشب من غرب أفريقيا، نعناع، قرن من الأيل، بذور جميز، نبتة وانيب، حجر الجص، بذور القرع، ماء، تُهرس معًا، وتوضع على الرأس».
هناك علاج آخر، هو استخدام بذور الخشخاش أو الصبار.
بعض الأمراض الأخرى وعلاجاتها:
- الربو: العسل والحليب والسمسم واللبان.
- الأمراض الجلدية والحروق: الصبار.
- الألم: الزعتر.
- مشاكل الجهاز الهضمي: العرعر والنعناع والثوم وخشب الصندل.
- رائحة الفم السيئة: النعناع والكراوية.
- الصرع: الكافور.
- القيء: النعناع لإيقافه، وبذور الخردل لإحداثه.
- علاج نزلات البرد كان تعويذة.
الأفكار الأوليّة للمعالجة المثلية (الطب التجانسي- homeopathy)
اُستُخدمت النباتات والأعشاب الشبيهة بالمرض الذي يُعالج، وهي ممارسة تعتمد على مبدأ (المثل يعالج المثل).
حتى اليوم، لايزال الطب التجانسي يتبع مبدأً مماثلًا.
في مصر القديمة، اُستُخدم بيض النعام لعلاج كسور الجمجمة.
الصحة العامة
شكلت النظافة جُزءًا مُهمًا في الحياة المصرية، واحتوت المنازل على حمّامات ودورات مياه بدائية. واعتُبر التزين والمظهر الخارجي من الأمور المهمة لديهم.
كان الهدف الرئيسي من التزين هو لأغراض اجتماعية ودينية؛ وبالرغم من ذلك، كان كثير من الناس يضعون المكياج حول عيونهم لحمايتها من الأمراض.
استُخدمت الناموسيات خلال الشهور الحارة، للحماية ضد اللدغات المسببة للملاريا وأمراض أخرى، حيث كانت الملاريا من الأمراض الشائعة لديهم.
بالرغم من أنّ الدوافع كانت دينية، فقد اهتم الكهنة بغسل أنفسهم وملابسهم وأواني الطعام الخاصة بهم، مما ساعد على حماية صحتهم.
بالرغم من ذلك، لم يُعرف لدى المصريين القدماء بنية تحتية للصحة العامة مثلما نعرفها اليوم؛ حيث لم يكن هناك أنظمة صرف صحي، أو رعاية طبية منتظمة، أو نظافة عامة.
المهنة الطبية
يُعتقد أنّ المصريين القدماء هم أول من عرفوا مهنة الطبيب بالشكل المتعارف عليه، وكان يُنظر إليها بإجلال واحترام.
طِبقًا لموسوعة التاريخ القديم، كان يجب على الطبيب أن يكون مُتعلّم ونظيف الجسد والروح. كان هناك أطباء في جميع أنحاء البلاد.
أقدم طبيب وصل اسمه إلينا هو (حِسي رَع) – 2700 قبل الميلاد، كان رئيس الأطباء وأطباء الأسنان في عهد الملك زوسر.
بينما أقدم طبيبة ذُكر اسمها هي (بيسيشت) -2400 قبل الميلاد، كانت مشرفة الطبيبات، لكن ربما كان هناك طبيبات في وقت مبكر من 3000 قبل الميلاد.
عمل كبار الأطباء في البلاط الملكي، تحت منهم كان هناك مُفتشون يشرفون على عمل الأطباء الآخرين. أيضًا كان هناك أخصائيون، مثل أطباء الأسنان، أخصائي أمراض الشرج والمستقيم، أخصائي الجهاز الهضمي، أخصائي العيون.
أطلق على أخصائي أمراض المستقيم -المسؤول عن الحقن الشرجية- اسم (nery phuyt) الذي يعني راعي فتحة الشرج.
عرف المصريون القدماء طرق طبية متطورة، جمعت بين العلاجات الروحية والعلاجات العشبية والجراحة.
وسمحت لنا سجلاتهم المكتوبة بمعرفة أفكارهم.
وعلى الرغم من عدم دقة ما توصلوا إليه، لكن بعض من نظرياتهم وممارساتهم لم تكن مختلفة كثيرًا عما نعرفه اليوم.
- ترجمة: شيماء ممدوح
- تدقيق: مينا خلف
- تحرير: صهيب الأغبري
- المصدر