حارب النوبيون الرومان وحكموا مصر بوصفهم فراعنةً، وبنوا العديد من الأهرام. هم ليسوا حضارةً مفقودة، بل شعب ما زال موجودًا إلى اليوم فيما يُعرف حاليًا بالسودان وجنوب مصر. في العصور القديمة كان من بين الحكام النوبيين نساء، أشارت إليهن النصوص القديمة باسم (كانداكس)، وهو لقب لملكات مملكة كوش اللائي حكمن مدينة ميروي. وجد الباحثون صورًا منحوتةً لهن، وتكشف هذه الصور أن هؤلاء الملكات أحببن أن يظهرن سمينات.
عُرف عن النوبيين القدماء امتلاكهم مهارة رمي السهام، وأطلق المصريون أحيانًا على أرضهم اسم (أرض القوس)، ودُفِن الحكام النوبيون غالبًا مع معدات الرماية مثل الحلقات الحجرية المصممة لتسهيل إطلاق الأسهم.
نجد اليوم البقايا الأثرية للنوبيين في السودان وجنوب مصر، وتمتد من عصور ما قبل التاريخ حتى العصور الحديثة، وتفحص عدة مشاريع أثرية هذه البقايا وغيرها من الاكتشافات المتواصلة.
(كيرما)
من المحتمل أن أسلاف الإنسان وصلوا إلى ما يُسمى السودان وجنوب مصر حاليًا منذ أكثر من مليون سنة. كتب عالم الآثار بجامعة ليستر (ديفيد إدوارد) في كتابه (الماضي النوبي: علم الآثار في السودان) أنه قبل 7000 سنة، انتقل الناس في هذه المنطقة من نمط الحياة المُعتمِد على الصيد والجمع إلى نمط الحياة المعتمد على تربية الحيوانات المُدجنة، وفيما بعد بدأت الزراعة والمستوطنات الدائمة بالظهور.
منذ نحو 4500 سنة، نشأت مستوطنة كبيرة في (كيرما) شمال الشلال الثالث على نهر النيل، ولم يستخدم الناس الذين عاشوا في كيرما نظام كتابة، لكن أشار المصريون القدماء إلى المنطقة التي سيطروا عليها باسم كوش.
نقب فريق سويسري عن كيرما لأكثر من 30 سنة، واكتشف بقايا معابد ومقابر وسور لمدينة مع أبراج الحراسة، وقد أظهرت الكشوفات أن المدينة كانت مركزًا لتجارة الذهب والعاج والماشية وغير ذلك.
تبقى مساحة الأراضي التي سيطرت عليها مدينة كيرما غير محدد، لكن يبدو أنها شملت أجزاء مما يُطلق عليه حاليًا السودان وجنوب مصر.
الغزو المصري
منذ نحو 3500 سنة أصبحت مصر قويةً وطامعةً في موارد كيرما، لذلك أطلق المصريون سلسلةً من الحملات العسكرية التي دمرت كيرما وأدت إلى احتلال النوبة، وبعد ذلك أرسل فراعنة مصر حكامًا لإدارة النوبة واستخدموا عددًا من البلدات محاور ومراكز للسيطرة عليها.
إحدى هذه البلدات هي موقع أثري يُسَمّى (أمارا)، نقب عنه فريق المتحف البريطاني، الذي وجد مقابر احتوت جعارين ملكية منقوش عليها اسم الفراعنة المصريين. كُتب على أحد الجعارين: «رمسيس، محبوب (آمون-رع) و(رع-حوراختي) ابن الآلهة الذي أوجد الأرض».
الاستقلال وحكم مصر
انهارت السلطة المصرية منذ نحو 3000 سنة بانهيار حكومتها المركزية، نتيجة عدة عوامل منها هجوم من يطلق عليهم علماء الآثار اسم (شعوب البحر).
وبتضاؤل سلطة مصر، بدأ النوبيون يوطدون استقلالهم، وكانت أولى هذه البدايات صعود مملكة قوية في مدينة تُسمى (ناباتا)، تقع قرب الشلال الرابع على نهر النيل.
توسعت أراضي مملكة ناباتا، وخلال حكم الملك باي الممتد في الفترة 734- 712 ق.م، توسعت ناباتا شمال الشلال الأول وغزت مصر، وحكم الملوك النوبيون بوصفهم فراعنة مُؤسسين لما يُسمى الأسرة الخامسة والعشرين الحاكمة لمصر.
لم يتخذ الملوك النوبيون الألقاب المصرية فحسب، بل حاكوا أيضًا الكتابة والأهرام المصرية، إذ أمر الفراعنة النوبيون بنقش كتابات مُطوَّلة تسجل ألقابهم وأعمالهم، وبدأت عملية بناء الأهرام في النوبة بتوسع، فقد وجد علماء الأثار العديد من الأهرام، إضافةً إلى الكشوف الحديثة في (سيدينغا) حيث وجدوا 35 هرمًا.
حارب ملوك النوبة الأشوريين، ويشير مقطع في التوراة إلى نشوب معركة مهمة في مكان غير بعيد عن القدس في فترة حكم (طهرقا) الممتدة 690-664 ق.م.
أثبت الأشوريون أنهم خصم عنيد، وطردوا طهرقا أخيرًا من العاصمة المصرية ممفيس، وفقد النوبيون آخر أراضيهم في مصر في فترة حكم (تانوتاماني) الممتدة 664-652 ق.م.
الانتقال إلى ميروي
بعد أن أخرج الأشوريون النوبيين من مصر، تعاقب على حكمها عدة قوى أجنبية منهم الفرس والمقدونيين والرومان، وتخلل ذلك فترات قصيرة تمتعت فيها مصر بالاستقلال.
كان على النوبيين أن يقْنَعوا بتعاقب حكم القوى الأجنبية في الشمال، ونحو سنة 300 قبل الميلاد نقلوا عاصمتهم جنوبًا من ناباتا إلى مدينة تُسمى (ميروي).
بنى النوبيون في عاصمتهم الجديدة عددًا من القصور والمعابد والأهرام، وطوروا أيضًا نظام كتابتهم الذي حُلت رموزه جزئيًا في الوقت الحالي، وسُميَّ نظام الكتابة (الميرويتيكي).
تُظهر النصوص الأثرية القديمة أن النوبيين حاربوا الإمبراطورية الرومانية أيضًا، إذ وُجدَت سنة 1910 قطعة أثرية مصنوعة في ميروي، وهي رأس برونزي للإمبراطور الروماني أوكتافيان (أغسطس).
يفترض علماء الأثار أن النوبيين غنموا هذه القطعة في أثناء غارة على مصر الرومانية وأحضروها إلى ميروي. وتُؤكد السجلات القديمة توقيع روما وميروي معاهدة سلام نحو سنة 20 ق.م.
جلبت القرون اللاحقة فترةً من الاستقرار النسبي مع تحول العلاقة بين ميروي وروما تحولًا رئيسيًا إلى التجارة، وتشير الدلائل الأثرية إلى انهيار ميروي سنة 300 ميلادية، ويقترح الباحثون جملةً من الأسباب وراء هذا السقوط، منها التصحر وخسارة طرق التجارة.
تحول أكثر الإمبراطورية الرومانية إلى الديانة المسيحية خلال القرنين الرابع والخامس بعد الميلاد، ووجدت الديانة المسيحية طريقها إلى النوبة أيضًا، فعند انهيار ميروي نشأت عدة ممالك مسيحية مكانها، منها مملكة (ماكوريتا).
أنشأت هذه الممالك الكاتدرائيات والأديرة، وازدهر في النوبة عدد من اللغات الجديدة منها القبطية، والنوبية القديمة.
تاريخ مستمر
ليست النوبة حضارةً مفقودة، فالنوبيون يعيشون اليوم في مصر والسودان وبلدان أخرى، لكن يبقى العدد الكلي للسكان غير معروف.
عانى النوبيون حديثًا عدة مشكلات منها التنمية والتمييز، فقد أدى إنشاء السد العالي بأسوان (انتهى بناؤه سنة 1970) إلى غرق مناطق من جنوب مصر كانت جزءًا من موطن النوبيين القديم، وخلال إنشاء السد أجلتهم السلطات المصرية من قراهم، ومنذ ذلك الوقت وهم يسعون للمطالبة بالتعويض.
طالب النوبيون أيضًا بحق عودتهم إلى القرى التي لم تغرق إثر بناء السد.
وفي السودان تخطط السلطات السودانية لبناء سلسلة من السدود، وحال حدوث ذلك فسيؤدي إلى غرق جزء آخر من موطن النوبيين القديم، وإجلاء المزيد منهم عن أراضيهم.
وإضافةً إلى السدود المُزمَع إنشائها، فإن سد ميروي موجود ويعمل بالفعل، وقد أدى تشغيله إلى نزوح 50 ألف شخص.
اقرأ أيضًا:
حضارة المايا أكثر تعقيدًا مما اعتقدنا
الزراعة المكثفة سبّبت تفاقم الجفاف في مدينة من مدن المايا القديمة.
ترجمة: طارق العبد
تدقيق: أنس شيخ
مراجعة: أكرم محيي الدين