توقع العلماء في تسعينيات القرن الماضي أن 5% من المادة الكونية يتمثل في المادة العادية التي نعرفها، في حين يتكون ما تبقى من مادة مظلمة وطاقة مظلمة. لكن عندما بدأوا بدراسة ما هو موجود في الكون وتحليله، وحساب كل ما يستطيعون رصده في ذلك الوقت لتأكيد هذه النسبة، وجدوا أن النتيجة أقل من المتوقع بكثير.
بلغ كل ما استطاع العلماء حسابه من المادة نصف النسبة المذكورة فقط، وسميت هذه الظاهرة بمشكلة الباريون المفقود. ولأكثر من عشرين عامًا، فحص العلماء أركان الكون لإيجاد هذه المادة المفقودة لكن دون نجاح.
تطلب إيجاد هذه المادة اكتشاف ظاهرة كونية جديدة وتقنيات عديدة وتليسكوبات حديثة، لكن في النهاية استطاع العلماء إيجادها.
كيف بدأت مشكلة الباريون المفقود؟
الباريونات هو جسيمات دون ذرية، تشمل النيوترونات والبروتونات، وتكوّن كل المادة الموجودة في الكون.
منذ أواخر السبعينيات، توقع العلماء أن المادة المظلمة تمثل معظم كتلة الكون، فهذا هو التفسير الوحيد لقوى الجاذبية الكونية. أما باقي كتلة الكون فيتمثل في الكتلة الباريونية.
لكن لم تتحدد النسبة بالضبط حتى عام 1997، حين استخدم علماء من جامعة كاليفورنيا-سان دييغو نسبة نواة الهيدروجين الثقيل (هيدروجين يحتوي على نيوترون إضافي) إلى الهيدروجين العادي، وبهذا استطاعوا حساب نسبة الكتلة الكونية.
لكن هذا الاكتشاف عارضه اكتشاف آخر، إذ أعلن مجموعة من علماء الفلك أن الكتلة الباريونية المحتسبة -من طريق عد النجوم والمجرات والغازات- تعادل نصف النسبة المتوقعة فقط.
ومن هنا بدأت مشكلة الباريون المفقود، إذ إن المادة لا تفنى ولا تُستحدث من العدم وفقًا لقوانين الفيزياء الحالية. لهذا السؤال إجابتين محتملتين فقط: إما أن المادة غير موجودة وأن الحسابات كانت خاطئة، أو أنها مودة لكنها تختبئ في مكانٍ ما.
واصل العلماء البحث عن إجابة لهذه المعضلة على مدار سنوات، تنبأت المحاكاة الحاسوبية بأن هذه المادة تختبئ في بلازما منخفضة الكثافة، منتشرة في الكون، تبلغ درجة حرارتها مليون درجة، أسموها «الوسط الدافئ بين المجري». لو أكد العلماء وجود هذا الوسط فستُحل المشكلة، لكن إثبات وجوده كان شبه مستحيل آنذاك.
عندما كان العلماء يبحثون في بقايا إشعاعات الانفجار الكوني العظيم، لاحظوا دليلًا آخر يدعم نظرية الوسط الدافئ، بمراقبة تقلبات درجة الحرارة. وبعد التوصل إلى نفس النتيجة عبر اختبارين مختلفين، كان من شبه المؤكد أن الباحثين قد وجدوا الإجابة أخيرًا. والآن عليهم أن يجدوا البلازما.
سنة 2007، صرح عالم الفضاء دونكن لورمير من جامعة فيرجينيا الغربية بأنه استطاع أن يرصد ظاهرةً نادرة جدًا، ظاهرة التدفق الراديوي السريع، التي تُعَد أحد أندر الظواهر الكونية، وهي تدفقات راديوية عالية الطاقة جدًا تستمر مدةً قصيرة. لا يعلم العلماء حقيقة هذه الظاهرة، لكنهم توقعوا أنها تصدر من مجرات بعيدة جدًا.
في حين تتدفق هذه الموجات بين المجرات وخلال الوسط الدافئ، تمر بما يُسمى عملية التشتت.
يدوم تدفق الموجات الراديوية مدةً قصيرةً جدًا (جزءًا من ألف جزء من الثانية). لو وقف شخص ما في منطقة صدورها، فستصدمه الموجات مباشرةً.
لكن مرور هذه الموجات خلال المادة يؤدي إلى إبطائها، كلما ازداد الطول الموجي، ازداد تأثير المادة.
لتقريب الصورة نعطيكم مثالًا بسيطًا، فكر في السيارات الكبيرة والصغيرة، السيارات الكبيرة تتأثر بمقاومة الرياح أكثر من الصغيرة.
تأثير المقاومة في الموجات الراديوية صغير جدًا، لكن عندما تسافر هذه الموجات ملايين بل مليارات السنين الضوئية، سيؤثر التشتت في الموجات الطويلة بدرجة كبيرة، ما يجعلها تصل بعد الموجات الأقصر بنحو ثانية.
ومن هنا حصلنا على فرصة رصد الباريون المفقود، بقياس تشتت الموجات الراديوية، بعدها يمكن قياس كمية المادة «الباريونات» التي مرت بها هذه الموجة حتى تصل إلى الأرض.
اقتربنا من الحل، لكن ما زالت هناك قطعة مفقودة: من أين تأتي الموجات الراديوية؟ أين مصدرها بالضبط؟
إذا استطعنا إيجاد مصدرها، فسنستطيع معرفة كمية المادة التي تمر بها الموجات.
للأسف لم تكن تليسكوبات 2007 بالتطور الكافي لرصد مصدر هذه الموجات بالضبط.
لكن بعد 11 عامًا استطعنا تحديد مصدر أول تدفق موجي. بدأ مشروع تعاوني في أغسطس 2018 باستخدام التليسكوب الراديوي التابع لوكالة البحث العلمي الوطني الأسترالية، يستطيع هذا التلسكوب تحديد مصدر الموجات بدقة بالغة.
استطاع التليسكوب رصد تدفق موجات راديوية للمرة الأولى بعد شهر واحد فقط، وبعد أن رصد العلماء هذه الموجات، استخدموا تليسكوب كيك في هاواي لتحديد مكان صدورها بالضبط.
كانت المجرة (DES J214425.25–405400.81) هي مصدر هذه الموجات. وبعد حصول الباحثين على كل المعلومات المطلوبة، بدأوا الحسابات، لكن للحصول على الجواب النهائي، احتاج الباحثون إلى دراسة المزيد من الموجات الأخرى.
بحلول يوليو 2019 رُصدت 5 ظواهر أخرى، واستطاع العلماء أخيرًا مقارنة النتائج وحساب كمية المادة التي تمر بها الموجات الست المكتشفة حتى وصولها إلى الأرض.
وبهذا وجد الباحثون الكتلة المفقودة بعد إجراء الحسابات اللازمة. بلغت نسبة الكتلة الباريونية 5% من الكتلة الكلية للكون.
يُعَد هذا البحث خطوةً أولى فقط، يطمح العلماء إلى تحديد مكان جميع الباريونات المفقودة. ما زلنا نجهل طريقة توزيع هذه الباريونات، لكن العلماء يتوقعون أنها جزء من شبكة غازية كبيرة تُسمى الشبكة الكونية. بعد الوصول إلى نحو 100 رصد لظاهرة تدفق الموجات الراديوية، حينها سيستطيع العلماء رسم خريطة لهذه الباريونات المفقودة.
اقرأ أيضًا:
نوع مفقود من المادة المظلمة قد يحل اللغز الفيزيائي الأكبر
ترجمة: زينب سعد
تدقيق: أكرم محيي الدين
مراجعة: صهيب الأغبري