ازدهرت مملكة بابل القديمة ما بين النهرين تحت حكم حمورابي الذي حكم من 1792 إلى 1750 ق.م. الجدير بالملاحظة بخصوص هذه الفترة من التاريخ البابلي هو أن علماء الآثار استعادوا عشرات الآلاف من الألواح بالكتابة المسمارية التي ترسم صورة مفصلة عن الحياة في المملكة القديمة التي تقع في العراق الحالية.
توجد عقود لا تحصى تسجل مثلًا تبني طفل أو تشغيل عامل أو شراء حقل. توجد رسائل -بعضها بحجم طابع بريدي- تقدم لمحة قريبة عن العلاقات العائلية والمسؤوليات الملكية.
وحتى قانون حمورابي الشهير، أول قانون مكتوب مسجل، يوضّح تفاصيل مذهلة للحياة اليومية، كما تقول أماندا بوداني، أستاذة التاريخ بجامعة الدولة للفنون التطبيقية بكاليفورنيا بومانا، ومؤلفة «نسّاجون وكُتّاب وملوك: تاريخ جديد للشرق الأدنى القديم».
تضيف بوداني: «من المُفاجِئ أن قوانين حمورابي لا تخبرنا الكثير عن القانون البابلي لأنها في الحقيقة لم تُفَعَّل. إن ما تمثله هو سوابق من حالات أُحِيلَت إلى المحكمة، وكانت تتعلق كثيرًا بشؤون يومية كالفلاحة والطلاق والإرث ومعاملة العبيد».
العائلة والطبقة والمجتمع في بابل القديمة
لا يملك المؤرخون صورة واضحة عن تعداد سكان بابل في زمن حمورابي، لكنه على الأرجح كان أكثر من 25000. بعد قرونٍ تضخمت إلى أكثر من 100000 وكانت أكبر مدينةٍ في بلاد ما بين النهرين.
إذا مشيت في شارعٍ في بابل زمن حمورابي، فكل ما ستراه على الجانبين جدرانٌ طويلة من طوب الطين لها أبواب. خلف الأبواب كانت هنالك فناءات للبيوت في الهواء الطلق مع غرفٍ وفضاءاتٍ للجلوس. كانت النوافذ الخارجية نادرةً، لكن ساحة البيت الوسطى كانت توفر الكثير من الإضاءة والتهوية.
كانت العائلة بالغة الأهمية للبابليين وعاشت العائلات الموسعة في عديد من الأوقات جنبًا إلى جنب. لذلك السبب، نادرًا ما باع البابليون منزل العائلة كما تقول بوداني، فكان يتناقله الأجيال وكانت أراضي الدفن عادة تحت الفناء.
كان المجتمع البابلي القديم أبويًا كما تقول بوداني، لكن كانت للنساء البابليات حقوقٌ أكثر مما لدى النساء في حضاراتٍ لاحقةٍ مثل اليونان القديمة. إذ كان بإمكانِهِنّ تمثيل أنفُسهنّ في المحاكم ولهنّ الحق في الملكيّة ونقلها إلى أطفالهِنّ وفي تولّي مراكز مثل راهبات ومسؤولات.
كان من النادر لرجل بابلي أن يتخذ زوجة ثانية وفي العادة لا يسمح بذلك إلا إذا كانت الزوجة الأولى غير قادرةٍ على إنجاب طفل.
لم تكن الطبقة الاجتماعية جامدة في المجتمع البابلي. كان الملك وحاشيته في القمة بالطبع، يليه كبير رهبان وراهبات المعابد المخصصة للآلهة البابلية.
لكن بين عامة الشعب كانت هناك حركة بين الطبقة المالكة للأرض المعروفة بأويلوم أو “الأسياد” و”موشكنوم” أو العامة الذين كانوا أحرارًا لكنهم على الأرجح لم يمتلكوا الأراضي.
ينتمي العبيد إلى طبقة “واردوم”. ومع أن بعض العبيد البابليين تم شراؤهم والبعض الآخر وُلِد في العبودية، فإن في عديد الحالات كانت العبودية وضعًا مؤقتًا في بابل، فإذا غرق أحد العامة في الديون، فقد يستَعبَده الدائنون حتى يُسَدَّد الدين، أما العبيد البابليون الآخرون فكانوا أسرى الحرب الذين لم تستطع عائلاتهم تسديد ديونهم.
الفلاحة والحرفيون والتجارة
كان كثير من أراضي بابل الفلاحية مملوكةً إما للملك أو للمعبد، لكن بعض الأفراد كانوا أيضًا يمتلكون ويديرون أراضي خاصة.
كان العمل الشاق من حفر القنوات وحرث الحقول وتربية الأغنام يُنَفّذه عمال موظفون ومتعاقدون. كان الجنود أيضًا تُخصّص لهم قطع من الأرض مقابل خدمتهم العسكرية. لم يمتلكوا الأراضي لكن نسبة من الحصاد كان يخصّص لأجورهم والقيام على عائلاتهم.
إضافة إلى الشعير، المحصول الأساسي للخبز والجعة، يحصد البابليون التمر من عراجين نخيل التمر الشاهقة والخضروات من نباتات الحدائق الأصغر. الوفرة الفلاحية لبابل ممكنة بفضل نظام شامل من القنوات المحفورة يدويًا وسدود تزوّد بالماء العذب من نهر الفرات القريب.
كانت عشرات الآلاف من الأغنام مصدر صناعة النسيج في بابل، وكانت ترعى في سفوح التلال الجافة. جز الصوف، الذي كان يحدث في آخر ديسمبر وأول يناير، كان مشروعًا هائلاً يسميه البابليون النتف كما تقول بوداني، لأنه عوض جز الصوف، يقوم العمال بمشطه وقلعه من الخراف عندما تقوم بإسقاط معاطفها طبيعيًا في الربيع. كانت أكوام الصوف الضخمة تُخَزّن في بيت النتف الملكي.
أدت النساء البابليات دورًا أساسيًا لحياكة منتجات نسيج الصوف عالي الجودة الذي كان يُتَاجر به مع الممالك المجاورة مقابل المعادن والخشب والأحجار الكريمة وأحجار البناء.
المعابد والحياة الدينية
كان البابليون يؤمنون بآلهة متعددة ويعبدون مجموعة واسعة من الآلهة. بعض الآلهة كانوا أربابًا للدولة مثل عشتار وإنليل وسسن وشاماش بالإضافة إلى ماردوك. وداخل كل معبد كان هناك تمثال طائفي مفصل للإله أو الإلهة وكان يسمح للرهبان والراهبات وعمال المعبد فقط الدخول إلى حضرة الإله.
تقول بوداني: «لم يكن التمثال صورة للإله فقط بل كان الإله نفسه، إذ كان يجب إطعام التمثال ثلاث مرات في اليوم، وتقديم النبيذ والجعة إليه وكسوته بالمجوهرات. في أيام الأعياد، كانت الآلهة العظيمة تُستَعرَض في الشوارع».
القانون والعدالة في بابل القديمة
قانون حمورابي الذي اشتهر بصرامته لم يكن يطبق، على الأقل بالنظر إلى السجلات المتبقية من المحاكم، لكنه يعكس الإتقان في نظام بابل القضائي.
كانت كل محكمة في بابل مُراقَبةً من سبعة قضاة، وتُحَدَّد الأحكام برأي الأغلبية. إذا عرض أحدهم قضية على المحكمة، يدعو القُضاة في العادة إلى تحقيق مستقل ويدعون الشهود إلى الإدلاء بشهاداتهم تحت القَسَم.
تقول بوداني: «إن كون المرء شاهدًا هو أمر جلل»، وبما أن كل عقد وصفقة أعمال كانت تتطلب شاهدًا فيجب على الشهود أن يؤدوا قسمًا بالآلهة، وإذا استُدعوا أمام المحكمة، فإن قسمهم يماثل قول: «إن لم أقل الحقيقة، فليقتلني شاماش».
تضمنت المنظومة القانونية البابلية نصوصًا منعت القضاة من أخذ الرشوة أو تفضيل الأغنياء. حتى العقوبات التي قد تبدو للقارئين المعاصرين قاسية، غالبًا اتخذت بعين الاعتبار الطبقة التي تنتمي إليها الضحية.
على سبيل المثال، إذا فقأ رجل غني عين رجل بنفس المستوى من الغنى، سيعاقب المعتدي بفقأ إحدى عينيه عقوبةً، أما إذا فقأ رجل غني عين أحد العامة، فيدفع للضحية 60 شيكلًا فضيًا، وهو ما يعادل راتب 6 سنوات.
تقول بوداني إنه بالنسبة للعامة فإن المال كان أكثر قيمة بكثير من معرفة أن الجاني صار أعور. ويبدو أنه كان نظامًا يفتخر البابليون به لعدله.
الحرب والغزو
في زمن حمورابي، كانت الحروب تخاض بطريقة مختلفة عن أزمنة لاحقة، وقد أزهقت المعارك العنيفة المستمرة أرواحًا لا حصر لها.
تقول بوداني: «كانت الحروب مخططة جدًا، وإذا تنازعت مملكتان متجاورتان نزاعًا حدوديًا يقرر الدبلوماسيون موعدًا وتوقيتًا للمعركة، وأحيانا تقرر معركة واحدة من المنتصر».
في عامه الثلاثين على العرش، وجد حمورابي شغفًا بتوسعة الإمبراطورية، وعلى مدى ثلاث عشرة سنة غزا سبع عشرة منطقة ومملكة مجاورة.
إحدى خصائص الحرب زمن حمورابي هي أن الجيوش حاولت أن تأسر وليس بالضرورة أن تقتل أكبر عدد ممكن من جنود العدو. ذلك لأن الأسرى كانوا يُحتَجزون للفدية، وهي تجارة مربحة.
لذلك أدى التجار دورًا محوريًا، فبما أن التجار سافروا بعيدًا وتحدثوا عدة لغات، فكانوا يدفعون فدية الأسير ويعودون به إلى الديار. في بابل، إذا كانت العائلة فقيرة ولم تستطع دفع الفدية، تنتقل المسؤولية إلى المعبد. وإن لم يستطع المعبد دفعها، يتولى القصر تغطية الدين.
اقرأ أيضًا:
حدائق بابل المعلقة.. حقيقة أم أسطورة؟
ترجمة: زياد نصر
تدقيق: رغد أبو الراغب