في نوفمبر 2023 قدمت شركة العمل المشترك (وي ورك WeWork) طلبًا للحماية من الإفلاس، وكان نموذج عمل الشركة بسيط منذ أسسها آدم نيومان وميكيل ماكالفي عام 2010، إذ توقع عقود تأجير طويلة الأمد لمبانٍ حضرية وتجهزها لتكون مرافق عمل عصرية، ثم تؤجر تلك المكاتب ومقرات العمل وغرف الاجتماعات للشركات والعاملين لحسابهم الخاص والباحثين عن أماكن عمل سهل الوصول إليها.
باختصار، كانت وي ورك تعمل في مجال تأجير المكاتب لكن نيومان روّج في عرضه التقديمي لشركته بوصفها شركة تكنولوجية باستخدام اللغة البهيجة لوادي السيليكون، واعدًا عملاءه بأن المكاتب ستزيد من التفاعل الاجتماعي للعاملين ما سيؤدي إلى ابتكارات غير مسبوقة. وطورت الشركة أيضًا شبكة تواصل اجتماعية خاصة بها تحت مسمى WeWork Commons. يقول نيومان واصفًا ووي ورك: «لكن المنصة الفعلية للتواصل والتعامل ستكون مساحة المكتب نفسها … شبكة تواصل فعلية تقدم المساحة كخدمة».
انهيار وي وورك زاد من الشك في أوجه التشابه بين أماكن العمل الفعلية والحواسيب التي انتشرت في السنوات الأخيرة، هل من الأفضل فهم المكتب (حيث يذهب الناس للعمل صباحًا، ويجلسون على المكاتب ويتبادلون الحديث عبر طاولات الاجتماعات) بوصفه جزءًا من البنية التحتية الرقمية؟
أحلام اليقظة الرقمية
عندما نظر نيومان إلى المكاتب بوصفها جزءًا من تكنولوجيا المعلومات، كان يروّج بذلك لفكرة كانت واسعة الانتشار في العقد الأول من الألفية الثانية، مفادها أن الحدود الفاصلة بين أماكن العمل الفعلية وأجهزة الحواسيب بدأت بالتلاشي. وتوقع رواد الأعمال والصحفيون المختصون في مجال التكنولوجيا انتشار إنترنت الأشياء (أجسام تُزرع بداخلها أجهزة الإرسال لتتمكن من تبادل البيانات)، والمدن الذكية (إذ تدار خدمات البلدية ومراقبتها وتحسينها رقميًا) والحياة الجماعية الجديدة في الواقع المعزز. وهذه الأفكار مبنية على تكنولوجيا حقيقية، ولكنها ضاعت في دوامة من الدعاية المتسارعة التي كانت منتشرة في وقت تأسيس شركة وي وورك.
الهندسة المعمارية السيبرانية
يمتد تاريخ هذه التنبؤات وأمثالها طويلًا، ففي الستينيات كان المهندسون المعماريون متحمسين لصعود مجال علوم الحاسوب، وحلموا بمبانٍ فعالة وسريعة الاستجابة مثل الكومبيوترات، وكانت غالبًا هذه الرؤى تعارض الثقافة السائدة في ذلك الوقت، فمثلًا، صمم المهندس البريطاني سيدريك برايس مركزًا ثقافيًا عملاقًا تعيد غرفه ترتيب نفسها بنفسها بمساعدة خوارزميات رقمية ورافعة مدمجة، وحاول الفنان الفرنسي المجري نيكولا شوفر تطبيق أفكاره على الصعيد الحضري بتخيل مدينة سيبرانية حيث يستطيع المواطن تغيير محيطه بضغطة زر فقط، وتخيل المصمم الياباني كينزو تانج المباني كأجهزة اتصال عملاقة إذ تخدم أروقة المبنى كقنوات معلومات.
المكتب بوصفه منصة
أثرت الأحلام التي ألهمت تلك الرؤى الراديكالية في تصميم مكاتب خاصة للشركات. ففي بداية القرن العشرين كان يُنظر إلى المكاتب بأنها مبانٍ صناعية، فهي مصانع المعاملات الورقية التي تنتقل فيها الوثائق من مكتب إلى آخر، مثل قطع السيارات في خط التجميع.
لكن خلال الحرب العالمية الثانية، لاحظ المديرون التنفيذيون استخدام الجيش لحواسيب مركزية عملاقة للأمور اللوجستية وفك الشيفرات، بعدها بدأ الكثير بالاعتقاد أن المكاتب المليئة بالعاملين نوع من أنواع البنى التحتية للحواسيب.
وصف المستشار الألماني الغربي البارز إيبرهارد شنيل المكتب بأنه: «منشأة لمعالجة المعلومات، تعالج فيها المعلومات بين الناس وإليهم». فبالنسبة لشنيل كان المكتب جهاز حاسوب قابل للبرمجة باستخدام ذكاء الخوارزميات التي يحددها الترتيب المميز للمكاتب.
وسط ازدهار اقتصاد المعرفة في ستينيات القرن الماضي، راقت فكرة تحسين مقرات العمل للمديرين التنفيذيين، إذ يستطيعون تحقيق ذلك بتحرير تدفق الاتصالات، وألهمت هذه النظرية إنشاء نوع من الأثاث المكتبي الجديد، مثل سلسلة مكتب العمل من تصميم هيرمان ميلر التي تتكون من مكاتب ورفوف وقواطع.
يعمل المديرون على التحسين من تدفق المعلومات في المكتب بإعادة تخطيط المكاتب لتتناسب مع تخطيط المكاتب النموذجية، مثل مبرمج يغذي خوارزميات محدثة لحاسوب مركزي.
كانت هذه الفكرة تتصور أن المكاتب فعالة وسلسة مثل برامج الحاسوب، ما أهمل حقيقة أن العقارات مادية، وتحتاج إلى صيانة دائمة مع تقدمها في العمر، وتغيير التصميم الداخلي مثلًا يُعد أمرًا فوضويًا، وحتى إعادة ترتيب المكاتب المرنة والقواطع قد تشمل مئات القطع المتخصصة، وفي نهاية اليوم لا شيء يضمن أن بيئة العمل سوف تتحسن.
انهيار وي وورك
تلاشت أوجه التشابه بين المكاتب والحواسيب خلال فترة الركود في السبعينيات ولكنها لم تمت حقًا وخصوصًا في منطقة خليج سان فرانسيسكو، حيث لاقت الشبكات الرقمية ارتفاع المتفاعلين معها من الهيبين السابقين الباحثين عن أشكال مختلفة من المجتمعات، عندما أسس نيومان ومكالفي شركة وي وورك في 2010، توقف عدد من مستثمري وادي السيلكون عن التشكيك في أوجه التشابه بين المكتب وشبكات التواصل الاجتماعي، أثار مشروعهم موجة كبيرة من الحماس لكل ما هو رقمي، وأمن استثمارات كبيرة من أصحاب رؤوس المال الكبيرة المهتمين بمجال التكنولوجيا. لكن المحللين أشاروا في وقت لاحق أن نموذج أعمال شركة التكنولوجيا لم يكن منطقيًا أبدًا بالنسبة لوي وورك، فشركة عقارات لا تتمتع بنفس المقياس الاقتصادي أو التأثير في شبكات العمل الذي تتمتع بها منصة عبر الإنترنت. في 2019 لم تستطع ووي وورك إخفاء حقيقة أنها ما تزال تخسر الأموال.
أدى إفلاس الشركة إلى إنهاء هذه الملحمة، وألقى أيضًا بظلال من الشك على فكرة أن المزيد من التواصل والترابط هو الأفضل دائمًا، وهو المبدأ المستمد من حركة فلاور تشايلد الأوائل في وادي السيلكون.
أن المزج بين الفضاء الحقيقي والمنصات الرقمية يقلل من التفاعل الاجتماعي في منطق الخوارزميات. أشادت وي وورك دائمًا بمنافع التواصل الاجتماعي، ولكن فقط مع وجود موظفين شباب من جيل الألفية الذين لديهم حب لتطوير الذات والحس الريادي.
إن تخيل المباني والمدن بوصفها منصات رقمية يؤدي إلى تآكل الإحساس بالواقع، إذ يشعر الشخص بالانتماء مع وجود علاقة بالحياة العامة.
إن التنبؤات بخصوص مستقبل مقرات العمل غالبًا ما تتوقف على يد أوهام ثورة في مجال العمل التي لم تتحقق فعليًا. إذا أخذنا نظرة على التاريخ، فإن المكاتب والأنظمة الإلكترونية ستظل تتطور جنبًا إلى جنب كتقنيات متميزة للعمل وغالبًا مكملة له، سيبقى المكتب مكانًا للعمل وليس منصة.
اقرأ أيضًا:
ما أهمية المضائق البحرية في التجارة العالمية؟
لماذا يزور صندوق النقد الدولي الدول؟
ترجمة: عمران كاظم حسين
تدقيق: حُسام الدِين طَلعَت
مراجعة: محمد حسان عجك