كان البحر الأبيض المتوسط والشرق الأدنى موطنًا لحضارة العصر البرونزي المزدهرة والمترابطة لأكثر من 3200 عام مضت، وكانت تغذيها تجارتها المربحة للمعادن الثمينة والبضائع الجاهزة، وكان لدى ممالك وإمبراطوريات ذلك الوقت -مثل: المصريين والبابليين والمينويين واليونان الموكيانيين والحيثيين- الدراية المعرفية في بناء القصور الضخمة ووظفوا الكتاب للاحتفاظ بسجلاتهم المالية وانجازاتهم العسكرية.
وبالرغم من ذلك شهدت تلك الثقافة المزدهرة انهيارًا شبه كامل وسريع بعد عام 1177 قبل الميلاد، وانحدر الناجون من انهيار العصر البرونزي إلى قرون طويلة من العصور المظلمة التي شهدت اختفاء كثير من اللغات المكتوبة وانهيارًا للعديد من الممالك العظيمة.
ولكن أي نوع من الكوارث يمكن أن يكون السبب في هذا السقوط الساحق والمفاجئ؟
وفقًا لإريك كلاين مؤلف كتاب: 1177 B.C : The Year Civilization Collapsed: «من المرجح أن الزوال المتزامن للعديد من الحضارات القديمة لم يكن بسبب حدث أو كارثة واحدة، بل كان بسبب العديد من العوامل منها الجفاف والقحط والمجاعات القاسية واللصوص المتجولون وأكثر من ذلك، ما أطاح بهذه الممالك المترابطة واحدةً تلو الأخرى».
العالم القديم الذي حكمته العولمة:
على عكس اليوم كان هناك اقتصاد معولم في العصر البرونزي المتأخر وفيه اعتمدت حضارات تاريخية عديدة على بعضها البعض؛ للحصول على المواد الخام وخصوصًا النحاس والقصدير لإنتاج البرونز وكذلك تاجروا بالسلع المصنوعة من السيراميك والعاج والذهب.
يقول كلاين وهو أستاذ في الدراسات الكلاسيكية القديمة لمنطقة الشرق الأدنى والأنثروبولوجيا في جامعة جورج واشنطن: «نحن نتحدث اليوم عن منطقة تمتد من إيطاليا في الغرب حتى أفغانستان في الشرق ومن تركيا من الشمال إلىٰ مصر في الجنوب، وكانت تلك المنطقة متصلة تمامًا، وإحدى الطرق لفهم مدى الترابط تكمن في الاكتشافات الأثرية، مثل: حطام سفينة أولوبورون قبالة سواحل تركيا الحديثة، وتم تأريخ هذا الحطام إلى أواخر العصر البرونزي حوالي 1320 قبل الميلاد، وكانت محتويات حطام هذه السفينة التي انتشرت في قاع البحر الأبيض المتوسط مجموعة مذهلة من المنتجات الفاخرة وحليًا من العاج المنحوت ومجوهرات من الذهب والعقيق والمواد الخام الثمينة، مثل: أنياب الفيلة وقشور بيض النعام التي أتوا بها من موانئ بعيدة ، وكان على متنها شحنات من سبائك النحاس والقصدير بنسب نموذجية من 10 إلى 1 وهي وصفة لصنع البرونز المعدن الأقوى والأكثر لمعاناً في ذلك الوقت».
ويقول كلاين أن النحاس قد استُخرج في قبرص والقصدير في أفغانستان بينما المعادن الثمينة، مثل الذهب والفضة جاءت من اليونان ومصر وحتى خشب الأرز الذي استُخدم في بناء هيكل السفينة تم استيراده من لبنان.
وأضاف كلاين: «تعد تلك السفينة نموذجًا مصغرًا للتجارة الدولية التي جرت في أواخر العصر البرونزي، سواء في المواد الخام والمنتجات الجاهزة».
غزوات شعوب البحر:
كان التفسير التقليدي للانهيار المفاجئ لهذه الحضارات القوية والمترابطة هو وصول غزو من اللصوص في مطلع القرن الثاني عشر قبل الميلاد، الذين عرفوا باسم شعوب البحر. وهو مصطلح صاغه عالم المصريات إيمانويل دي روجيه لأول مرة في القرن التاسع عشر الميلادي في أوغاريت، وهي مدينة ساحلية في كنعان.
كتب الملك عن الأعداء المجهولين الذين أحرقوا المدينة، وفي مصر قاتلت جيوش الفرعون هجمتين منفصلتين من هؤلاء الأجانب الغامضين، الأولى كانت في عام 1207 قبل الميلاد، والثانية في عام 1177 قبل الميلاد، ويصور نقش مذهل على جدران معبد رمسيس الثالث في مدينة هابو المعركة البحرية الضخمة الثانية التي انتصرت فيها مصر ضد شعوب البحر.
وبينما كان المصريون قادرين على محاربة شعوب البحر لم تحالف الحظوظ الممالك الأخرى، فملأت البقايا الأثرية للمدن المحروقة في تلك الفترات جميع مناطق حوض البحر المتوسط والشرق الأدنى، مثل هاتوسا العاصمة القديمة للإمبرطورية الحيثية، ومجيدو في كنعان، ويعتقد البعض أن أسطورة دمار مدينة طروادة قد كان نتيجة غزو شعوب البحر.
تُعد أصول شعوب البحر الحقيقية لغزًا تاريخيًا غامضًا لم يسبق حله، تشير إحدى النظريات الرائدة أنها نشأت من غرب المتوسط أو بحر إيجة أو حتى شبه الجزيرة الأيبيرية لما يعرف بأسبانيا الحديثة، وقادهم الجفاف والكوارث المناخية الأخرى شرقًا واجتاحت سفنهم الحصون الواقعة على ضفاف المتوسط مصطحبين نساءهم وأطفالهم، ما يدل على كون شعوب البحر غزاةً ولاجئين.
يقول كلاين: «كانت غزوات شعوب البحر كانت من أهم أسباب انهيار العصر البرونزي لكنها لم تكن السبب الوحيد».
الجفاف والقحط والزلازل المستمرة:
في 2014، حلّل باحثون من ألمانيا عينات أُخذت من بحيرة طبريا ووجدوا بمساعدة تقنية التأريخ بالكربون المشع أن الفترة من: 1250 حتى 1100 قبل الميلاد كانت أكثر الفترات جفافًا في العصر البرونزي بأكمله.
يقول كلاين: «كان هذا الجفاف حدثًا ضخمًا ويبدو أنه استمر ما لا يقل عن 150 عامًا وحتى 300 عامًا في بعض المناطق، نجا فيه المصريون والبابليون من أقسى فترات الجفاف بسبب قربهم من الأنهار الضخمة، النيل ودجلة والفرات، لكن الحضارات الأخرى لم يحالفها الحظ، فحين يوجد الجفاف توجد المجاعة. ولم يكن تزامن أسوأ سنوات المجاعة مع اجتياح شعوب البحر هربًا من المناخ القاسي وبحثًا عن الموارد محض صدفة».
لم تقتصر الكوارث الطبيعية على الجفاف لزعزعة استقرار حضارات نهاية العصر البرونزي، فقد أجرى كلاين بحثًا مع الجيوفيزيائي عموس نور، الذي كشف عن تعرض إقليم المتوسط خلال فترة خمسين عامًا بين 1225 و1157 قبل الميلاد إلى سلسلة من الزلازل الكبرى.
وأضاف كلاين: «إذا نظرنا إلى كل هذه الأحداث بشكل منفصل: القحط والمجاعة و الغزاة وربما الأمراض، أي واحدة منها ليست كافية لإنهاء حضارة كاملة فما بالك بثمان حضارات أو أكثر، ولكن إذا اجتمعت ثلاث أو أربع من هذه الكوارث بتعاقب سريع يصبح الوضع كارثيًّا دون وقت كافٍ للتعافي».
ما بعد الانهيار وضياع المعرفة:
وعلى عكس المتوقع كان الترابط المتبادل الذي توطد بين ممالك العصر البرونزي قد ساهم في تسارع سقوطها، فبمجرد انقطاع طرق تجارة القصدير والنحاس بدأت المدن بالانهيار.
ومن بين خسائر انهيار العصر البرونزي مبنى ذو أهمية واسعة ونظام كتابة كامل عرف باسم النظام الخطي ب (Liner B) وهو شكل قديم من اليونانية استعمله الكتاب اليونان الموكيانيون لتسجيل الصفقات الاقتصادية.
يقول كلاين: «إن نسبة 1% من هذه الشعوب فقط استطاعت القراءة والكتابة وبعد الانهيار فقدت تلك الشعوب القدرة على ذلك واستغرق الأمر قرونًا حتى عادت الكتابة مرة أخرى بعد جلب الفينيقيين لأبجديتهم».
لم تتأثر جميع الحضارات بنفس القدر، فقد عانت بعض الحضارات، مثل الموكيانيين والمينيين من انهيار كامل، أما بالنسبة للحيثيين فقد اختفت هذه الحضارة عن الوجود، أما المصريون والأشوريون فلم يتأثروا كثيرًا. وأظهر الآخرون قدرتهم على التكيف مثل اختيار الحديد بمجرد حدوث نقص في النحاس والقصدير وانخفاض الطلب على البرونز في اليونان.
يقول كلاين: «هكذا تحول القبارصة من كونهم أسياد النحاس إلى أسياد هذه التقنية الحديدية الجديدة. واتضح لهم أن الحديد كان أفضل للحراثة وصناعة سيوف أفضل للقتال».
اقرأ أيضًا:
علماء آثار يكتشفون مدينة مفقودة من حضارة المايا
ترجمة: لؤي بوبو
تدقيق :حُسام الدِّين طَلعَت