ظهرت الحركات الوعظية الأخلاقية التي إنبثقت عنها كبريات الأديان في العالم (البوذية والإسلام والمسيحية واليهودية والهندوسية) جميعها في الوقت نفسه تقريباً* في ثلاث مناطق مختلفة حول العالم. وحسب ما تفيد به الأبحاث، فقد توصل الباحثون إلى إبتكار نموذج إحصائي مبني على البيانات التاريخية إضافةٍ بيانات من علم النفس الإنساني للمساعدة على الإجابة أو تفسير سبب نشوء هذه الأديان في العالم، والتي كان ظهورها نتيجةً لتحسن معايير المعيشة في مناطق تلك الحضارات الكبرى.
ويتمثل إحدى تأثيراتها على الأرجح وجود قواسم مشتركة بين الحركات الروحانية العلمانية منها والدينية بشكلٍ أكبر مما هو معروف، إذ تتشارك جميعها بغض النظر عن عقائدها المجردة في كونها ترتبط بما يعرف بنظام المكافأة reward systems في الدماغ.
ومن الواضح أن معظم الأديان في الوقت الحاضر تتمحور حول المسائل الروحانية والأخلاقية، ولكن الحال لم يكن كذلك دائماً، إذ تركزت مبادئ وعقائد الأديان في حقبة الجمع والصيد حول مراسيم الدفن، وتقديم القرابين، وصياغة التابوهات (تحريم أمور معينة) التي يُراد منها جلب الحظ أو البركة وإبعاد الشر.
تغير هذا الوضع في الفترة الممتدة قبل 300 إلى 500 سنة قبل الحقبة الشائعة** فيما يسمى بالعصور المحورية “Axial Age”، إذ ظهرت عقائد جديدة في تلك المناطق، أكدت جميعها على قيم مثل سمو النفس، وأن وجود الإنسان على الأرض مرتبط بغاية مستقلة عن العناصر المادية، وأن هذه الغاية تكمن في الوجود الأخلاقي المتمثل في ضبط الرغبات البشرية المادية عن طريق تقييد تلبية هذه الرغبات من طعام وجنس وطموح …..إلخ، إضافة إلى الزهد والتعفف والصيام والإنعزال عن الناس (كالرهبنة مثلاً) وكذلك في العطف ومساعدة الغير ومشاركة الآخرين معاناتهم.
في حين يرى العديد من العلماء بأن الدين الوعظي ذو فاعلية أكبر المجتمعات الكبيرة، يعبر الباحثون في هذه الدراسة عن شكوكهم مستدلين على ذلك بالإشارة إلى أن أكثر الإمبراطوريات القديمة إزدهاراً كانت تخضع لآلهة لا أخلاقية إلى حدٍ كبير، كالإمبراطورية الرومانية ومصر وشعوب الإنكا والمايا. وتفحص الباحثون في هذه الدراسة العديد من النظريات للوصول لتفسير التاريخ بمنهج حديث قائم على جمع النماذج الإحصائية على المدى البعيد ضمن حلقات كمية مع نظريات علم النفس المبنية على المفاهيم التجريبية.
وبإستخدام هذا المنهج، توصل الباحثون إلى أن (الوفرة) التي يشيرون لها بوصفها بـ “حفظ الطاقة Energy capture” لا التعقيد السياسي أو حجم السكان، تمثل أفضل تفسير لما هو معروف من التاريخ الديني، إذا تشير تلك النماذج الخاصة بحفظ الطاقة إلى وجود تغير حاسم نحو هذه الأديان لدى الأفراد عندما تصل معدلات الطاقة لديهم لحوالي 20,000 كالوري يوميا، يدل هذا المستوى في وفرة الطاقة إلى أن الشعوب بحالة إكتفاء أو آمان من ناحية كمية الغذاء المتوفر والمسأكن الملائمة للحياة في الوقت الحاضر أو في المستقبل القريب بإعتبارها متطلبات لا غنى عنها في الوقت الحاضر.
ولكن الوصول لمثل هذا المستوى من الأمان الغذائي أو الراحة في المعيشة مسألة حديثة تماماً، ويستشهد أحد الباحثين بالقول بأن المجتمعات القبلية القديمة أو الإمبراطوريات السحيقة غالباً ما كان تمر بمجاعات وأمراض تنتشر بين السكان، وأن مستوى التحضر أو التمدن في العصور المحورية وصل لمستوى بدأ معه بالتحسن عن تلك الفترات السابقة.
ويضيف الباحثون إلى أن هذا الإنتقال أو التغير يتناسب مع الإنتقال من نمط إستراتيجيات الحياة الآنية أو السريعة والتي يكون التركيز فيها منصباً على معالجة المشاكل اليومية إلى الإستراتيجيات التي تركز على الإستغلال أو الإستفادة على المدى البعيد.
ملاحظة المترجم :
*يقصد بالوقت نفسه الحقبة الزمنية المتقاربة، لا الوقت نفسه كما نفهمه بالنسبة للفترات القصيرة الإعتيادية ولأن ظهورها هنا يقاس على مدى التاريخ الإنساني بكامله بحيث تصبح الفترات التي تفصل بين ظهور كل هذه الأديان صغيرة لا تذكر.
[divider]
[author ]ترجمة : Alan Hammet[/author]
[divider]