حين كان عمر الكون لا يتجاوز كسرًا بسيطاً من الثانية، وحرارته الهائلة أكثر من تريليون
درجة، كان هدفه الرئيسي هو التمدد فقط ولا شيء سواه، ومع كل لحظة تمر كان الكون يكبر في الحجم، مع ظهور المزيد والمزيد من الفضاء من العدم.
وخلال تمدده بدأ الكون يبرد ويخفت، وعلى مدار مئات الآلاف من السنوات تعايشت المادة
والطاقة سويًا، حيث كان الكون كله عبارة عن إلكترونات، تصطدم بالفوتونات المنتشرة، ولو كنا نعيش في هذا الوقت، فلم يكن بمقدورنا رؤية أي شيء سوى الضباب، حيث كُلما قارب فوتون من الاقتراب من عينيك، لتقوم بالرؤية، يأتي إلكترون ويصطدم به فيشتته من أمام عينيك فيخلق الضباب ويستحيل عليك الرؤية.
وحين وصل عمر الكون الى 380 ألف عام، انخفضت درجة حرارته لما يقارب 3000 درجة مئوية، لذلك استطاعت البروتونات المنتشرة أن تتحد مع الإلكترونات لتكوّن أنوية إحدى نظائر الهيدروجين، وهو الديوتريوم، ومن هنا تكونت أولى الذرات في كوننا الفسيح، فقبل ذلك كان كل فوتون يتمتع بطاقة كافية لتمزيق أي ذرة حديثة التكوين إربًا، ولكن مع استمرار تمدد الكون فقدت الفوتونات طاقتها، وأصبحت هناك ظروف ملائمة لتكوين أنوية الذرات.
وهكذا استطاعت الفوتونات أخيرًا، بفضل قلة عدد الإلكترونات الحرة التي تعيقها، أن تتحرك بحرية عبر الفضاء دون الاصطدام بشيء، وسار الكون شفافًا للمرة الأولى، ومع استمرار تمدد الكون وتوسعه وانخفاض درجة الحرارة، زاد الطول الموجي للفوتونات وبالطبع قلَّت طاقتها حتى أصبحت الآن في نطاق الأشعة الميكرونية، التي يُطلق عليها إشعاع الخلفية الميكرونية، والذي يمكنك ملاحظته في التشويش الموجود في الإرسال، فهذا التشويش ناجم من أشعة الشمس والأشعة الكونية وإشعاع الرادار وشبكات الهواتف وغيرها، ومع استمرار الكون في البرودة سوف يزداد الطول الموجي لهذه الفوتونات حتى يصل إلى الإشعاع الراديوي.
تنبَّأ العالم الأمريكي الجنسية الأوكراني الأصل جورج جاموف وزملاؤه بوجود إشعاع
الخلفية الكوني في أربعينيات القرن العشرين، موحِّدين جهودهم في ورقة بحثية نُشرت
عام ١٩٤٨، والتي اعتمدت على ورقة أخرى نُشرت عام ١٩٢٧ بواسطة (جورج إدوارد
لومتير)، الفلكي البلجيكي، والمعترف به اليوم بوصفه (أبو علم كونيات الانفجار العظيم). إلا أن أول من قام بتقدير الحرارة المفترضة لإشعاع الخلفية الكوني هما الفيزيائيان الأمريكيان (رالف ألفر) و(روبرت هيرمان)، اللذان تعاونا من قَبل مع جاموف.
استند كلٌّ من ألفر وجاموف وهيرمان إلى أن نسيج الزمكان كان أصغر بالأمس عمّا هو عليه اليوم، وبما أنه كان أصغر، فمن المؤكد وفقاً لأبسط قواعد الفيزياء أنه كان أشد حرارة. وهكذا أعاد الفيزيائيون عقارب الساعة إلى الوراء لتخيل الحقبة الأولى من عمر الكون، عندما كان الكون حارًا للغاية حتى أن أنوية الذرات كانت مجردة من الإلكترونات، لأن اصطدام الفوتونات بالإلكترونات جعلها تتشتت في أرجاء الفضاء .
ومع أن جاموف كان هو صاحب النبوءة الحاسمة القائلة أن الكون المبكر لا بد أنه كان أعلى حرارة بكثير عن الكون اليوم، فإن ألفر وهيرمان كانا أول من حسبا رياضيًا الحرارة التي من المفترض أن يكون عليها الكون في الماضي: ٥ درجات كلفينية، ومع أن الرقم كان خاطئاً، إذ أن حرارة إشعاع الخلفية الكوني تبلغ ٢٫٧٣ درجة كلفينية فقط، إلا أن هذا يعتبر اكتشافاً جيداً وفقًا للتقدم التكنولوجي حينها.
ويعد إشعاع الخلفية الكونية هو واحد من أقوى الأدلة عن صحة نظرية الإنفجار العظيم، وكانت بمثابة الشعرة التي قصمت ظهر البعير لمبدأ ثبوت الكون وعدم تمدده.
وفي عام ١٩٦٤ اكتُشف هذا الإشعاع على نحو عَرَضي وغير مقصود على يد كل من (أرنو بنزياس) و(روبرت ويلسون) في مختبرات شركة بيل للهواتف في موراي هيل بولاية نيوجيرسي، ولم يمضِ عقد من الزمان حتى حصل بنزياس وويلسون على جائزة نوبل لحظّهما الحسن واجتهادهما.
عند النظر إلى إشعاع الخلفية الكونية على مستوى كبير نجد أن توزيعه منتظم، ولكن عند النظر إلى مستوى أدنى نجد أن هناك حالة من عدم التجانس واختلاف في درجة الحرارة، عدم التجانس هذا سببه أنه عند بداية الكون عندما أصبحت تلك الفوتونات حركتها أيسر بدأت المادة بالتجمّع في مناطق دون أخرى، وبسبب ذلك نجد اختلاف في الأطوال الموجية، فالمناطق التي تجمعت فيها المادة حيث وَجدت الجاذبية والفوتونات صعوبة فى الهروب والحركة، فقدت جزء من طاقتها مما أدى لزيادة في الطول الموجي وانخفاض حرارتها عن نظيرتها.
بتحليل ودراسة الأشعة الكونية تمكّن العلماء من تقدير نسب المادة العادية، والمادة المظلمة، والطاقة المظلمة التي يتكون منها الكون وهي ٤% و ٢٣% و ٧٣% على الترتيب.
فالمادة العادية هي كل ما نراه من كواكب ومجرات ونجوم وغيرها، والمادة المظلمة هي المادة التي تتسبب جاذبيتها في تجمع المجرات وبقائها على حالتها الحالية، بينما الطاقة المظلمة هي الطاقة المسؤولة عن توسع الكون على هذا النحو الجنوني.