تجد تكنولوجيا الكم طريقها إلى حياتنا اليومية. فلم تعد محصورة في المختبر بل هي على وشك أن تغير شيئًا أساسيًا جدًا: طريقة تنقّلنا حول العالم.
تخيل غواصات تسافر تحت المحيط، دون الحاجة إلى الصعود إلى السطح لتحديث الموقع، وطائرات تحلق عبر القارات بدقة لا تتزعزع، غير متأثرة بانقطاعات الإشارات.
يمكن لفرق الاستجابة للطوارئ التنقل في المباني المليئة بالدخان أو الأنفاق تحت الأرض بدقة فائقة، في حين ترسم المركبات ذاتية القيادة طرقًا مثالية عبر البيئات الحضرية الكثيفة.
قد تبدو هذه السيناريوهات من الخيال العلمي، لكنها قد تصبح ممكنة بواسطة تقنية حديثة تُسمى الملاحة الكمومية.
ستُغير هذه التقنية قواعد اللعبة، وستُعيد تعريف الحركة والاستكشاف والاتصال بطرق لم نتخيل وجودها إلا حديثًا. إذن، ما هي؟
الملاحة عبر الأقمار الصناعية في مجالات متعددة
أنظمة الملاحة العالمية عبر الأقمار الصناعية، مثل نظام GPS، مدمجة بعمق في نسيج المجتمع الحديث. نستخدمها يوميًا في التنقل، وطلب التوصيل، وتحديد مواقع الصور. لكن تأثيرها يتجاوز حدود الراحة والسهولة بكثير.
تتحقق صفقات سوق الأسهم، وتتوازن شبكة الكهرباء وإشارات التوقيت باستخدام الأقمار الصناعية الموجودة في مدار الأرض. في الزراعة، توجه الملاحة عبر الأقمار الصناعية الجرارات ذاتية القيادة وتساعد على تجميع الماشية.
تعتمد خدمات الطوارئ على أنظمة الملاحة بالأقمار الصناعية للاستجابة السريعة، ما يقلل الوقت اللازم للوصول إلى المحتاجين.
رغم فوائدها، فإن أنظمة مثل نظام تحديد المواقع العالمي عرضة للعديد من الثغرات. يمكن تشويش إشارات الأقمار الصناعية أو التداخل معها. قد يحدث ذلك بسبب الحروب النشطة، أو الإرهاب، أو حتى لأسباب شرعية أو غير شرعية تتعلق بالخصوصية. تُظهر الخرائط مناطق التداخل في الوقت الفعلي، مثل تلك الموجودة في الشرق الأوسط، والمناطق المحيطة بروسيا وأوكرانيا، وميانمار.
تتأثر بيئة الفضاء بالتقلبات الشمسية، إذ تقذف الشمس بانتظام كرات عملاقة من البلازما تصطدم بالمجال المغناطيسي للأرض، ما يسبب ما نعرفه بالعواصف الشمسية، التي تؤدي إلى تعطيل الأقمار الصناعية وإشارات نظام تحديد المواقع العالمي. غالبًا ما تكون هذه التأثيرات مؤقتة، لكنها قد تسبب أيضًا أضرارًا جسيمة، اعتمادًا على شدة العاصفة.
إن انقطاع أنظمة الملاحة العالمية عبر الأقمار الصناعية أكثر من مجرد إزعاج، بل يعطل بنيتنا التحتية الحيوية.
تشير التقديرات إلى أن فقدان نظام تحديد المواقع العالمي سيكلف اقتصاد الولايات المتحدة وحدها نحو مليار دولار أمريكي يوميًا، ما يسبب حدوث فشل متسلسل عبر الأنظمة المترابطة.
الملاحة الكمومية لحل الأزمة
لا تعمل إشارات الملاحة من الأقمار الصناعية جيدًا في بعض البيئات. مثلًا، لا تخترق هذه الإشارات المياه أو المساحات تحت الأرض.
إذا حاولت استخدام خرائط جوجل في مدينة بها ناطحات سحاب، فقد تواجه مشكلات. تسبب المباني الشاهقة انعكاس الإشارة ما يقلل الدقة، تضعف الإشارات أو تصبح غير متوفرة تماما داخل المباني. هنا قد تتدخل الملاحة الكمومية.
يصف علم الكم سلوك الجسيمات على مقاييس أصغر من الذرة، ويكشف عن تأثيرات مذهلة مثل التراكب، إذ توجد الجسيمات في حالات متعددة في الوقت ذاته، والتشابك، إذ تكون الجسيمات متصلة عبر المكان والزمان بطرق تتحدى الفهم الكلاسيكي.
هذه التأثيرات هشة وعادةً ما تنهار تحت الملاحظة، لهذا لا نلاحظها في الحياة اليومية. لكن هشاشة العمليات الكمومية تسمح لها أيضًا بالعمل بوصفها أجهزة استشعار رائعة.
المستشعر هو جهاز يكتشف التغيرات في العالم من حوله ويحول هذه المعلومات إلى إشارة يمكننا قياسها أو استخدامها. فكر في الأبواب الأوتوماتيكية التي تفتح عندما نسير بالقرب منها، أو شاشات الهاتف التي تستجيب للمس.
تتفاعل الجسيمات الكمومية مع التغيرات الطفيفة في بيئتها، ما يجعل أجهزة الاستشعار الكمومية حساسة للغاية. على عكس أجهزة الاستشعار العادية، التي قد تفوت الإشارات الضعيفة، فإن أجهزة الاستشعار الكمومية جيدة للغاية في اكتشاف حتى أدق التغيرات في الوقت أو الجاذبية أو المجالات المغناطيسية.
تأتي حساسيتها من كيفية تغير الحالات الكمومية بسهولة عندما يتغير شيء في محيطها، ما يتيح لنا قياس الأشياء بدقة أكبر بكثير من ذي قبل. هذه الدقة ضرورية لأنظمة الملاحة القوية.
يبحث فريقنا عن طرق جديدة لاستخدام أجهزة الاستشعار الكمومية لقياس المجال المغناطيسي للأرض للملاحة. باستخدام التأثيرات الكمومية في الألماس، يمكننا اكتشاف المجال المغناطيسي للأرض في الوقت الفعلي ومقارنة القياسات بخرائط المجال المغناطيسي الموجودة مسبقًا، ما يوفر بديلًا مرنًا للملاحة عبر الأقمار الصناعية مثل نظام تحديد المواقع العالمي.
لا تتأثر الإشارات المغناطيسية بالتشويش وتعمل تحت الماء، ما يقدم نظامًا احتياطيًا واعدًا.
مستقبل الملاحة
سيدمج مستقبل الملاحة أجهزة الاستشعار الكمومية لتعزيز دقة الموقع بواسطة المجالات المغناطيسية والجاذبية للأرض، وتحسين التوجيه بواسطة الجيروسكوبات الكمومية، وتمكين توقيت متفوق بواسطة الساعات الذرية المدمجة وأنظمة قياس الوقت المترابطة.
تَعِد هذه التقنيات بتكملة الملاحة التقليدية القائمة على الأقمار الصناعية، وفي بعض الحالات، توفير بدائل لها.
جعل الملاحة الكمومية حقيقة عملية يمثل تحديًا كبيرًا، رغم إمكاناتها الواضحة. يعمل الباحثون والشركات في جميع أنحاء العالم على تحسين هذه التقنيات، مع بذل جهود كبيرة في الأوساط الأكاديمية والمختبرات الحكومية والصناعة.
تعمل الشركات الناشئة واللاعبون الكبار على تطوير نماذج أولية من مقاييس التسارع الكمومية والجيروسكوبات، لكن معظمها ما زال في مراحل الاختبار المبكرة أو التطبيقات المتخصصة.
تشمل العقبات الرئيسية تقليل حجم ومتطلبات الطاقة لأجهزة الاستشعار الكمومية، وتحسين استقرارها خارج إعدادات المختبر الخاضعة للرقابة، ودمجها في أنظمة الملاحة الحالية.
تمثل التكلفة حاجزًا آخر، فالأجهزة الكمومية اليوم باهظة الثمن ومعقدة، ما يعني أن التبني واسع النطاق ما زال على بُعد سنوات.
إذا تغلبنا على هذه التحديات، قد تُغير الملاحة الكمومية الحياة اليومية بطرق خفية لكنها عميقة. مع أن الملاحة الكمومية لن تستبدل نظام تحديد المواقع العالمي بين عشية وضحاها، فإنها قد تصبح جزءًا أساسيًا من البنية التحتية التي تحافظ على حركة العالم.
اقرأ أيضًا:
نظرية جديدة قد تحلّ التناقض بين ميكانيكا الكم والنسبية العامة
فيزيائيون يكشفون طورًا جديدًا من المادة مختبئًا في عالم ميكانيكا الكم
ترجمة: إلياس الونيسي
تدقيق: أكرم محيي الدين