المصرف المركزي هو مؤسسة مالية تملك امتياز الإدارة والتحكم في إنتاج الأموال والأرصدة وتوزيعها في دولة أو مجموعة من الدول. المصرف المركزي في الاقتصادات المعاصرة هو المسؤول عادةً عن إدارة السياسة النقدية وتنظيم عمل المصارف الأخرى.
لا تقوم المصارف المركزية على أساس السوق التنافسية، ورغم تأميم بعضها، توجد الكثير من المصارف المركزية التي لا تُعَد مؤسسةً حكوميةً، أي إنها مستقلة سياسيًا. لكن حتى إن لم يكن المصرف المركزي تابعًا للحكومة، فإن امتيازاته محددة ومحمية بموجب القانون.
الخاصية التي تميز المصرف المركزي عن المصارف الأخرى هي حالة الاحتكار القانوني التي يتمتع بها، والتي تمنحه امتياز إصدار النقود، أما البنوك التجارية الخاصة فيحق لها فقط إصدار الالتزامات الجارية مثل حسابات الشيكات، أي أن المصرف المركزي وحده له حق إصدار نقود جديدة، أما البنوك الأخرى فتصدر أوراق دفع مثل الشيكات تكون قيمتها موجودةً سابقًا.
فهم المصارف المركزية
تختلف مسؤوليات المصرف المركزي بين دولة وأخرى، لكنها تصنف عمومًا إلى:
أولًا: المصرف المركزي هو المسؤول عن إدارة المعروض النقدي والتحكم فيه، وإصدار العملة وضبط معدلات الفائدة على القروض والسندات. يرفع المصرف المركزي عادةً معدلات الفائدة لكبح التضخم، ويخفض معدلات الفائدة عندما يريد تحفيز النمو والقطاع الصناعي وإنفاق المستهلكين، بهذه الطريقة يتحكم في السياسة النقدية لتوجيه الاقتصاد الوطني وتحقيق الأهداف الاقتصادية، مثل الوصول إلى مرحلة التشغيل الكامل، أي توظيف الموارد الاقتصادية للدولة بأقصى درجة كفاءة ممكنة.
مهم: تُدير معظم المصارف المركزية السياسة النقدية ومعدلات الفائدة بهدف تحقيق معدل تضخم سنوي 2-3%.
ثانيًا: تُنظِّم المصارف المركزية عمل البنوك الأخرى في الدولة، بتحديد ضمانات الإيداع والمتطلبات الرأسمالية والاحتياطي الإلزامي (المبالغ التي يُسمَح للبنك بإقراضها لعملائه وتلك التي يُلزَم بالاحتفاظ بها) وغيرها من الأدوات، وأيضًا تمنح المصارف المركزية القروض وغيرها من الخدمات للحكومة وللبنوك الأخرى في الدولة، إضافةً إلى إدارة احتياطي النقد الأجنبي.
ثالثًا: يتدخل المصرف المركزي لمساعدة البنوك التجارية والمؤسسات المالية المتأزمة بمنحها القروض، وقد يصل الأمر إلى إقراض الحكومة. مثلًا، عندما تحتاج الحكومة إلى المزيد من الإيرادات، يستطيع البنك المركزي تأمين بديل مقبول سياسيًا للنظام الضريبي، بشراء سندات الدين الحكومية.
مثال: الاحتياطي الفيدرالي
إضافةً إلى الإجراءات المذكورة سابقًا، تمتلك المصارف المركزية صلاحية استخدام عدة أدوات أخرى. مثلًا، يُسمى المصرف المركزي في الولايات المتحدة الأمريكية الاحتياطي الفيدرالي، ويديره مجلس الاحتياطي الفيدرالي. يستطيع الاحتياطي الفيدرالي التأثير في حجم المعروض النقدي في الولايات المتحدة بتغيير معدل الاحتياطي الإلزامي. عند تخفيض الاحتياطي الإلزامي، تستطيع البنوك إقراض المزيد من الأموال، ما يزيد حجم المعروض النقدي، والعكس بالعكس، أي أن الاحتياطي الفيدرالي يرفع معدل الاحتياطي الإلزامي لخفض حجم المعروض النقدي.
عندما يخفض الاحتياطي الفيدرالي معدل الخصم الذي تدفعه البنوك على القروض قصيرة الأجل (معدل الخصم هو معدل الفائدة على القروض التي يمنحها الاحتياطي الفيدرالي للبنوك التجارية والمؤسسات المالية الأخرى)، فهو بذلك يزيد السيولة. يزيد خفض معدلات الفائدة حجم المعروض النقدي، ويحفِّز النشاط الاقتصادي، لكنه قد يؤدي إلى التضخم، لذلك يجب أن يتسم الاحتياطي الفيدرالي بالحرص عند إدارة أسعار الفائدة.
يستطيع الاحتياطي الفيدرالي التدخل في عمليات السوق المفتوحة ليؤثر في معدل الأموال الفيدرالي (وهو سعر الفائدة على القروض التي تمنحها البنوك لبعضها)، فيشتري الأوراق المالية الحكومية من المتعاملين بها ويزودهم بالنقد، ما يزيد حجم المعروض النقدي، ويبيع الأوراق المالية عندما يريد سحب النقود من النظام الاقتصادي.
المصارف المركزية والانكماش الاقتصادي
بعد عدة أزمات مالية كبيرة، تزايدت المخاوف من الانكماش على مدار ربع القرن الماضي. مثل ما حدث في اليابان، بعد انفجار فقاعة سوق الأسهم والعقارات 1989-1990 التي تسببت في خسارة مؤشر نيكي ثلث قيمته في عام واحد، ما أدى إلى ترسيخ حالة الانكماش. كان الاقتصاد الياباني أحد أسرع الاقتصادات نموًا في العالم في الفترة بين 1960 و1980، وبعدها تباطأ بحدة، وسُميت فترة التسعينيات عقد اليابان الضائع، حتى أن القيمة الاسمية للناتج المحلي الإجمالي عام 2013 كانت أقل بنسبة 6% من مستواها في أواسط التسعينيات.
أثار الركود الكبير 2008-2009 -الذي ضرب الولايات المتحدة وامتد منها إلى العالم أجمع- المخاوف من حصول حالة مشابهة من الانكماش طويل الأمد في الولايات المتحدة وغيرها من الدول، بسبب الانهيار الكارثي الذي أصاب أسعار الأصول. تطور الأمر إلى إصابة النظام المالي العالمي بالاضطراب والفوضى بسبب حالة التعثر المالي التي أصابت عددًا من البنوك والمؤسسات المالية الكبرى في الولايات المتحدة وأوروبا، وأهم مثال هو إعلان بنك ليمان برذرز -رابع أكبر بنك استثماري في الولايات المتحدة- إفلاسه في سبتمبر 2008.
إجراءات الاحتياطي الفيدرالي
في ديسمبر 2008، واستجابةً للأزمة، اتخذت اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة -المسؤولة عن السياسة النقدية للاحتياطي الفيدرالي- إجراءين أساسيين من الأدوات غير التقليدية للسياسة النقدية. الأول هو توجيه السياسة النقدية المستقبلية، وذلك بخفض معدل الأموال الفيدرالية إلى الصفر حتى منتصف عام 2013 على الأقل.
الثاني كان شراء الممتلكات على نطاق واسع، وهو ما يُسمى سياسة التيسير الكمي. سيطرت هذه السياسة على عناوين الصحافة وقتها وأصبحت مرادفةً لسياسة التيسير التي اتبعها الاحتياطي الفيدرالي.
تتضمن سياسة التيسير الكمي إصدار الاحتياطي الفيدرالي نقودًا جديدةً واستخدامها لشراء الممتلكات من البنوك في الدولة، ما يساعد على ضخ السيولة النقدية في الاقتصاد ويخفض معدلات الفائدة طويلة الأمد، ويُفسح المجال أمام الاحتياطي الفيدرالي لشراء ممتلكات عالية المخاطر، مثل الممتلكات المرتبطة بالرهن العقاري وغيرها من الديون غير الحكومية.
تؤثر هذه السياسات في معدلات الفائدة عمومًا، إذ يحفز انخفاض معدلات الفائدة الطلب على قروض المستهلكين والمستثمرين، وتستطيع البنوك منح هذه القروض بفضل تمويل المصرف المركزي الناتج من شراء الأسهم والسندات المالية.
إجراءات أخرى لمواجهة الانكماش
أطلق المصرف المركزي الأوروبي نسخته الخاصة من التيسير الكمي في يناير 2015، عندما تعهد بشراء سندات بقيمة 1.1 ترليون يورو على الأقل بحلول سبتمبر 2016، بمعدل 60 مليار يورو شهريًا. بدأ المصرف المركزي الأوروبي خطة التيسير الكمي متأخرًا عن الاحتياطي الفيدرالي بست سنوات، في محاولة لدعم تعافي الاقتصاد الأوروبي، ولتلافي الانكماش، بعدما وضع خطة غير مسبوقة لتخفيض معدلات الفائدة القياسية إلى أقل من الصفر أواخر عام 2014، وكان نجاح هذه الخطة محدودًا.
كان المصرف المركزي الأوروبي أول مصرف مركزي كبير يُطبق سياسة أسعار الفائدة السالبة، وبعده تبنت عدة مصارف مركزية أوروبية هذه السياسة، من بينها المصارف المركزية في السويد والدنمارك وسويسرا.
نتائج إجراءات مواجهة الانكماش
إن الإجراءات التي اتخذتها المصارف المركزية لمحاربة الانكماش تبدو ناجحةً حتى الآن، لكن من المبكر معرفة هل حسمت القضية نهائيًا؟ خاصةً أن هذه الإجراءات لها عدة عواقب غريبة منها:
- قد يؤدي التيسير الكمي إلى حرب عملات خفية:
أدت برامج التيسير الكمي إلى انخفاض قيمة عدة عملات كبرى أمام الدولار الأمريكي، ومع استنفاد كثير من الدول خياراتها لتحفيز النمو، قد تكون الأداة الوحيدة المتبقية لتحفيز النمو الاقتصادي هي تخفيض قيمة العملة، ما قد يؤدي إلى حرب خفية بين العملات، أي تعمُّد الدول تخفيض قيمة عملاتها المحلية لتحفيز اقتصادها وزيادة مقدرتها التنافسية في أسواق التجارة الدولية وتخفيف أعباء الديون الخارجية.
- أصبحت قيمة عائدات السندات الأوروبية سالبة:
أصدرت الحكومات الأوروبية كمية كبيرة من سندات الديون، وأصبحت عائدات ربع هذه السندات -بقيمة تقديرية 1.5 ترليون دولار- سالبةً، الأمر الذي قد يكون نتيجةً لبرنامج المصرف المركزي الأوروبي لشراء السندات، وقد يكون دليلًا على تباطؤ اقتصادي حاد مستقبلًا.
- تضخم الميزانيات العامة للمصارف المركزية:
أدى شراء الاحتياطي الفيدرالي، ومصرف اليابان والمصرف المركزي الأوروبي، الأصول على نطاق واسع إلى زيادة حجم الميزانيات العامة للمصارف المركزية بمستويات قياسية، ما قد يحمل عواقب وخيمة في المستقبل.
تجاوزت عمليات الشراء التي أقدمت عليها المصارف المركزية في أوروبا واليابان شراء سندات الديون غير الحكومية بمختلف أنواعها، وبلغت التدخل المباشر لشراء أسهم الشركات بغرض إنقاذ أسواق الأوراق المالية، والتدخل غير المباشرٍ بشراء حصص كبيرة في صناديق الاستثمار المتداولة، ما جعل مصرف اليابان أكبر مالك لأسهم عدة شركات، منها شركة كيكومان، أكبر منتج لصلصة الصويا في اليابان.
قضايا المصارف المركزية المعاصرة
يعاني الاحتياطي الفيدرالي والمصرف المركزي الأوروبي وعدة مصارف مركزية كبيرة أخرى الضغط بسبب الحاجة إلى تخفيض حجم ميزانياتها العامة التي تضخمت بعد فورة سياسات شراء الممتلكات لمكافحة الركود، إذ ارتفعت ممتلكات أكبر 10 بنوك مركزية بنسبة 265% في العقد الأخير.
لكن قد يؤدي تقليص هذه الميزانيات تدريجيًا إلى حالة من الخوف في الأسواق، إذ لن تُقابل هذه الزيادة في العرض تغيرًا في الطلب، أي أن بيع المصارف المركزية ممتلكاتها مع ثبات الطلب في السوق على هذه الممتلكات سيؤدي إلى خفض أسعار الممتلكات.
إضافةً إلى ذلك، في الأسواق الأكثر سيولة مثل سوق الأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري، أصبحت المصارف المركزية هي المشتري الأكبر دون منافسٍ. مثلًا الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة، لم يعد يشتري الممتلكات من هذه الأسواق، بل إنه مضطر للبيع، ولا نعرف حتى الآن هل يوجد عدد كافٍ من القادرين على شراء هذه الممتلكات من الاحتياطي الفيدرالي بأسعار جيدة؟
يكمن الخوف هنا في انهيار الأسعار في هذه الأسواق، ما سينشر ذعرًا أكبر. فإذا انهارت قيمة سندات الرهن العقاري، سيتبعها ارتفاع أسعار الفائدة المرتبطة بالأصول، ما سيشكل ضغطًا على معدلات الرهن العقاري، وسيبطئ التعافي طويل الأمد لقطاع الإسكان.
الاستراتيجية الوحيدة التي قد تهدئ هذه المخاوف هي بترك بعض السندات حتى موعد استحقاقها مع الامتناع عن شراء سندات جديدة، بدلًا من طرح السندات للبيع مباشرةً. ولكن حتى مع سياسة وقف الشراء تدريجيًا، ما زالت مرونة الأسواق غير واضحة، لأن المصارف المركزية كانت المشتري الأكبر وبمعدل ثابت مدة عقد من الزمن تقريبًا.
اقرأ أيضًا:
ترجمة: كميت خطيب
تدقيق: أكرم محيي الدين