المشي على قائمتين ، لماذا و كيف و ما آثاره علينا اليوم؟
لقد كان قيام أسلاف البشر بالمشي منتصبين على قائمتين قبل حوالي 6 ملايين عام نقطةَ تحوّلٍ مهمةً في رحلة البشر التطوريّة ، فالمشي على قائمتين حرّر أيدينا و مكّننا من استخدامها في صناعة الأدوات و استعمالها و هذا بحد ذاته كانَ أحد العوامل التي أدت إلى تطور أدمغتنا و زيادة حجمها.
و لأننا الوحيدون حالياً الذين نمشي على قائمتين من بين أكثر من مئتين و خمسين نوعاً من الرئيسيات و لأن هيكل الأسلاف الأقدم كان متكيفاً على المشي على أربع ، فهذا التحول الكبير رغم فوائده الهائلة لأسلافنا و لنا لم يكن ليمرّ مرور الكرام دون آثار سلبيّة تذكرنا إلى اليوم بماضينا البعيد.
– لماذا المشي على قائمتين؟
التغيرات البيئية في شرق إفريقيا و البحث عن الطعام و مقدار الطاقة المستهلكة في الحركة هي أهم عوامل هذا التحول.
في الفترة التي يُعتقد أن التحول في طريقة المشي حدث (8-6) مليون عام بدأت الغابات المطرية تتراجع و تختفي من شرق إفريقيا و هو ما جعل المنطقة مكشوفة أكثر فأكثر و تباعدت المسافات بين مصادر الطعام ، هذا دفع الأسلاف على النزول من على الأشجار و المشي على الأرض و من ثمّ الانتصاب لتناول الثمار من على الشجيرات و يعتقد العلماء أنّ هذا هو السبب الذي دفع الأسلاف على القيام بهذه النقلة.
يلعب موضوع الطاقة المبذولة في التنقل دوراً مهماً في التحول إلى المشي على قائمتين أيضاً ، بحسب دراسةٍ أُجريت حول حركة الشيمبانزي و البشر ، تُظهر النتائج أنّ التنقل على قائمتين أوفر و يحفظ طاقة الكائن حيث يستهلك البشر رُبع الطاقة التي يستخدمها الشيمبانزي في الحركة.
مراحل تطور المشي على قائمتين :
كان أسلافنا الأوائل قادرين على تسلّق الأشجار و المشي على الأرض ، و بين (6-3) ملايين عام خلت كانت طريقة مشيهم مزيجاً من المشي عند القرود العليا اليوم و البشر ، و يظهر السجل الأحفوري هذا التحول من كائنات تتسلق الأشجار إلى أخرى تمشي منتصبة بشكل تدريجي على مرّ الزمن ، و سنستعرض مراحل تطور المشي على قائمتين :
– قبل 7-6 ملايين عام : يعتقد أنّ Sahelanthropus ربما مشى على قائمتين في هذه الفترة.
– قبل 6 ملايين عام : أحد أوائل الأدلة التي قد تشير إلى المشي على قائمتين عند أسلاف البشر الأوائل هي في مستحاثة Sahelanthropus ، وجود الثقبة العظمى foramen magnum في جمجمة هذه المستحاثة المكتشفة في تشاد إلى الأمام أكثر من عند باقي القرود ، ما يفترض أنّ جمجمته كانت ترتكز على عموده الفقري بشكل أكثر عمودية من جماجم قرود اليوم و هي من أدلة الانتصاب و المشي على قائمتين ، يشكك بعض الباحثين في أن تكون هذه الصفة دليل قطعي على مشي Sahelanthropus على قائمتين لذلك لم يقل العلم كلمته الاخيرة في هذا الموضوع.
في هذه الفترة نرى أيضاً ما قد يفترض المشي على قائمتين عند Orrorin tugenensis ، فرغم أن القسم العلوي من الفخذ يساوي بالحجم ذلك عند القرود العليا الكبيرة فأن رأس و عنق عظم الفخذ يشبهان ما يملكه الإنسان الحديث و التي تشكل جسراً مع الورك لدعم وزن الجسم فوقهما.
– قبل 4.1 مليون عام : عند نمشي و نخطو نحن البشر فأننا عملياً نقف على رجلٍ واحدة في كلّ خطوة و هذا يجعل ضغط وزن الجسم كله على عظام الرجل.
نرى عند Australopithecus anamensis أن المنطقة الواسعة من العظم تحت مفصل الركبة ناتجةٌ عن ضغطٍ مشابهٍ و هو ما يفترض أنه مشى على قائمتين.
– قبل 4 مليون عام : معظم المستحاثات من هذه الفترة تعود للبشر الأوائل الذين عاشوا في مناطق مفتوحة بالقرب من غاباتٍ كثيفةٍ ، يبدو على أجسامهم أنهم استطاعوا المشي على قائمتين معظم الوقت و في الوقت نفسه تسلق الأشجار.
– قبل 2.5 مليون عام : نرى لدى Australopithecus africanus انحناءً في أسفل العمود الفقري مشابه للانحناء الموجود في العمود الفقري عند البشر و هذه خاصية بشريّة بامتياز إذ يقوم هذا الانحناء بامتصاص الصدمات أثناء حركتنا على قائمتين ، لقد كان الـAustralopithecus africanus يتحرك بطريقةٍ مشابهةً لمشي الإنسان الحديث.
– قبل 1.95 مليون عام : الشكل العريض لعظم الورك و حجمه لدى Homo erectus مشابه لعظم الورك لدى الإنسان الحديث و هذا يُظهر أن الـHomo erectus فقد القدرة على تسلق الأشجار لصالح المشي.
– قبل 1.9 مليون عام : في هذه الفترة تبدو عظام الحوض و الفخذ لدى Homo erectus مشابهةً للإنسان الحديث ، و هو ما يعني قدرته على المشي لمسافات طويلة و هذه ميزة مهمة جداً لأن بيئات شرق إفريقيا كانت تتبدل بين الرطوبة و الجفاف و السهول المرجية كانت قد بدأت بالانتشار.
– قبل 1.89 مليون عام : عظم الفخذ الطويل للـHomo erectus سمح له بأن يخطو خطواتٍ أطول ممّا كان يفعله البشر الأوائل.
من الناحية الجسمانية الـHomo erctus يشبه الإنسان الحديث كثيراً.
مقارنة سريعة بين الشيمبانزي و الإنسان القديم و الإنسان الحديث :
يسير الشيمبانزي أحياناً على قدمين لكن هيكله العظمي غير متكيف مع هذا الشكل من الحركة ، و تظهر على هيكل الإنسان القديم بعض التكيفات التي ساعدتهم على دعم وزن الجسم و السير على قائمين ، أمّا الإنسان الحديث فجسمه متكيفٌ على المشي و الركض لمسافاتٍ بعيدة ، فما هي الاختلافات بين كلٍّ منهم:
– الجمجمة : يتصل العمود الفقري مع الجمجمة عند الشيمبانزي من الوراء مشكلاً مع الرأس زاوية ، أما عند الإنسان القديم فهو يتصل مع الجمجمة من نقطةٍ إلى الأمام قليلاً باتجاه المنتصف و هو ما يساهم بتثبيت الرأس عند المشي منتصباً ، و عند الإنسان الحديث فنقطة الإتصال تكون في المنتصف تقريباً حاملةً الجمجمة بشكل قائم.
– عظم الفخذ : الوصلة بين أعلى عظم الفخذ و عظم الورك قصيرةٌ لدى الشيمبانزي و هذا يمنع عضلات الورك من تقديم الدعم الكافي للمشي منتصباً عن الشيمبانزي ، عند الإنسان القديم كانت الوصلة أطول نوعاً ما و قاعدتها أقوى و هو ما سمح لعضلات الورك بالمساعدة على المشي.
في الإنسان الحديث الوصلة أطول و القاعدة قوية بما يكفي و قادرة على تحمل الضغط الناتج عن المشي و الركض.
– أسفل الركبة : بُنية مفصل الركبة عند الشيمبانزي ضعيفة و هذا لا يسمح للشيمبانزي بإلقاء كلِّ وزنه على ساقٍ واحدةٍ كما يحدث عند المشي لفتراتٍ طويلة ، الركبة عند الإنسان القديم قوية و قادرة على تحمل ضغط وزن الجسم بشكل متكرر عند المشي ، عند الإنسان الحديث الركبة قوية و الساق الواحدة تتحمل وزن الجسم عند المشي.
هذه النقاط السابقة تعطينا كبشر أفضلية للمشي على قائمتين بعكس بقية القرود العليا ، لكن المشي على قائمتين رغم كل الفوائد التي منحها للبشر ينطوي على سلبيات أيضاً إذ لابدّ و أن ندفع ثمن نهوض الأسلاف و مخالفتهم للتكيّف السابق.
– مشاكل و آلام الظهر :
آلام الظهر هي أحد أكثر المشاكل الصحيّة شيوعاً في العالم بـ15 مليون زيارة تقريباً سنوياً إلى الطبيب ، حيث يتعرّض عمودنا الفقري و خصوصاً الجزء الأسفل منه إلى الضغط الشديد بسبب وزن الجسم فوقه ، وهذا بسبب طريقة مشينا المنتصبة التي حولت ضغط وزن الجسم من على القوائم الأربعة عند الحيوانات التي تمشي على أربعة إلى الأقدام و العمود الفقري عندنا.
تقريباً كلُّ واحدٍ منّا سيعاني في مرحلة ما من حياته من آلام في الظهر و هذا يطرح تساؤلاً كبيراً حول تصميم عمودنا الفقري.
بحسب عالم الانثربولوجيا و التشريح في جامعة ميسوري “Carol Ward” : ” العمود الفقري مُتكيفٌ بالأساس ليكون على شكل قوس ،لكن عندما تحولنا إلى المشي منتصبين أصبحت وظيفته كداعم لوزن الجسم من فوقه ، من أجل دعم الرأس و الحفاظ على توازننا ، تطور شكل العمود الفقري إلى تعرجات تشبه حرف “S” و هي بزخ (تقوس باتجاه الأمام) في أسفل الظهر و حدب (تقوس باتجاه الخلف) في أعلى الظهر”.
هذا التغيّر حدث على الأقل قبل أربعة ملايين عام و من الممكن في وقت أبكر من ذلك أيضاً.
قام Carol Ward و زميله Bruce Latimer مدير متحف التاريخ الطبيعي في كليفلاند بدراسة العمود الفقري لـ”لوسي” بالإضافة لهيكلين عظميين عائدين لـAustralopithecus africanus عمرهما أكثر من مليوني عام ، وجد الباحثان أنّ هذه الهياكل تملك التعرّجات الموجودة في العمود الفقري لدينا ، و هو ما يدعم أنّ الـAustralopithecus مشى على قائمين.
شكل العمود الفقري لدينا يساعدنا على توفير الطاقة كما المحافظة على توازننا أثناء الحركة.
البشر هم الوحيدون من الرئيسيات الذين يعانون مشاكل في الظهر إلى جانب الأسلاف طبعاً ، فقد وجد Ward و Latimer أنّ مستحاثة Nariokotome boy و هي تعود لـHomo erectus شاب كان قد عاش قبل 1.5 مليون عام تعاني من الجنف و هو انحراف جانبي خطير في العمود الفقري.
فإذا ما شعرت بألمٍ في ظهرك تذكرْ أنك تدفع ثمن مشيَكَ بزهوٍ و شموخٍ.
– صعوبة الولادة :
البشر هم الكائنات الوحيدة التي تحتاج إلى مساعدة عند الولادة نظراً لصعوبة الولادة و ما تسببه من آلام للأم الحامل و أيضاً من مخاطر على حياتها.
تشير دراسة من جامعة نيو مكسيكو راقبت 2500 حالة ولادة إلى أنّ معدل فترة المخاض و الولادة للحوامل لأول مرّة يبلغ 9 ساعات في حين أنّ القرود و القرود العليا تستغرق الولادة عندهم قرابة ساعتين فقط .
إنّ صعوبة الولادة عند البشر سببها حاجتان بشريتان متناقضان و ضغطان تطوّريان متعاكسان يعرفان باسم “المعضلة التوليديّة Obstetrical dilemma” ، الأول زيادة حجم الدماغ و بالتالي الرأس عند الإنسان ما يصعب مروره عبر عظم الحوض (و كبر الدماغ أحد أسبابه البعيدة هو المشي على قائمتين و تحرر اليدين و استخدامهما في صناعة الأدوات) ، الثاني هو تضيّق عظم الحوض ليناسب أكثر التنقل على قائمين و هو ما يؤدي إلى صعوبة خروج رأس الجنين الكبير عبر عظم الحوض (في البرنامج الوثائقي Origins of us إنتاج BBC ، تقوم الباحثة أليس روبرتس بتوضيح ذلك بتمرير جمجمة لجنين على وشك الولادة عبر قناة الولادة لأنثى الإنسان و يمكن بسهولة رؤية صعوبة الامر).
إن كبر رأس الجنين عند الولادة يتسبب في ولادة الأطفال قبل أن يكتمل نمو دماغهم و إلّا فلن يخرج رأس الوليد عبر قناة الولادة و لهذا السبب يكون أطفال البشر غير قادرين على المشي بعد ولادتهم مباشرةً بعكس بقية الحيوانات.
تشير إحصائية إلى أنّ واحدةً من كل ألف ولادة تتطلب تدخّلاً جراحي و عمليةً قيصريّة لإخراج الوليد بسبب كبر رأسه.
سيدتي إذا ما شعرتي بألمٍ أثناء وضعكِ لطفلك أو طفلتك فالضغوط التطوريّة التي طُبقت على أسلافنا و غيرت معالم جسمنا هي غريمك.
ضعف مفصل الركبة :
المشي على قائمتين يسبب ضغطاً كبيراً على أكبر مفاصل جسم الإنسان و هو مفصل الركبة بسبب وزن الجسم و هذا يؤدي إلى تضرّر مفصل الركبة
و إصابات الركبة تشمل الهلالة menisci و الأربطة و العضلات و العظام و الأوتار.
يخضع سنوياً قرابة 6 مليون شخص حول العالم لعلاج إصابات الركبة.
إعداد و ترجمة و صياغة : راوان خاشوق
مصدر 1 ،مصدر 2 ، مصدر 3 ،مصدر 4 ، مصدر 5 ، مصدر 6 ،مصدر 7 ،مصدر 8 ، مصدر 9 ،مصدر 10 ،مصدر 11 ،مصدر 12 ،مصدر 13