يعمل كثير من الفيزيائيين الموهوبين في مختبر جينبينغ CJUL الذي يقع جبال جينبينغ بمقاطعة سيتشوان في الصين وتحت الأرض بعمق 2.4 كيلومتر، ذلك لأنه أكبر مكان أرضي للكشف عن المادة المظلمة حتى الآن.

في البحث عن شيء قد لا يكون موجودًا، يختبر مفهوم المادة المظلمة صبر فيزيائيي الجسيمات وعلماء الكونيات وإبداعهم في جميع أنحاء العالم، فعلى حد تعبير الدكتور يونغدوك كيم المادة المظلمة هي التناقض الأكثر وضوحًا في كوننا. ومع إن التقارير عن اكتشاف هذه المادة كثيرة وظهرت في جميع أنحاء العالم في العقود القليلة الماضية، انتهى معظمها بكونها إشارات زائفة.

كرّس الباحث كيمل أكثر من 30 عامًا في البحث عن هذه المادة، لكنه يدرك أنه من المحتمل تمامًا ألا يكون لديه وزملاؤه الباحثون أي شيء لعرضه عن كل سنوات عملهم. ومع ذلك يبدو أن العلماء غير متأثرين، بل على العكس يبدو أن تلك الشكوك بذاتها هي الوقود الذي يشعل سباق كشف هوية تلك المادة. لأن الجميع متفقون على شيء واحد: مهما كانت المادة المظلمة في النهاية، فإن مجرد تأكيد وجودها سيعيد كتابة قواعد الكون بغير ما نعرفه. فمثلًا من الممكن نظريًا استخدام الكمية الكبيرة من المادة المظلمة في كوننا لتكون مصدرًا مجانيًا وغير محدود للطاقة.

لكن كيف نفعل ذلك مع جسيمات ما تزال غامضة؟ يشرح كيم ذلك قائلًا: «لدينا نظرية جيدة وكاملة، وهي النموذج القياسي للفيزياء الجسيمية الذي يشرح تقريبًا كل سؤال وكل جانب من جوانب الطبيعة والمادة والذرات والجسيمات الأولية، كل الظواهر باستثناء المادة المظلمة».

يقول الدكتور دانييل هوبر عالم الكونيات في مسرع الجسيمات فيرميلاب في باتافيا في إلينوي وجامعة شيكاغو: «كل ما يمكن قوله على وجه اليقين هو أن تلك الجسيمات لا تتفاعل كثيرًا، ولو حدث ذلك لكنا قد رأيناها بالفعل، ولو كان لديها أي شحنة كهربائية مثلًا لكنا قد اكتشفنا الضوء منها بالفعل، إما الضوء الذي ستخلقه أو ربما الضوء الذي ستمتصه». وما تزال الأبحاث المتطورة مستمرة للوصول إلى الحقيقة حول المادة المظلمة.

يستفيد جهاز CJPL من ابتعاده عن السطح بكل هذا العمق، فواحد فقط من بين مليون شعاع كوني من أشعة الشمس التي يتلقاها كوكبنا باستمرار يستطيع اختراق هذا العمق، ما يجعل دراسة المادة المظلمة ممكنة.

يتألف بحث CJPL عن المادة المظلمة مدعومًا بالمولدات الكهرومائية من مشروعين بحثيين هما: (تجارب جسيمات وزينون الفيزيائية الفلكية – PandaX) و(تجربة المادة المظلمة الصينية – CDEX)، وهما خزانان كبيران من الزينون والجرمانيوم، يوضعان على التوالي في عزلة تامة عن بقية العالم. يستخدم كل من PandaX وCDEX طرقًا للكشف المباشر عن المادة المظلمة. وعلى وجه الخصوص يبحثان عن جسيمات ضخمة ضعيفة التفاعل أو WIMPs، وهي نوع من الجسيمات تحت الذرية الافتراضية والثقيلة وبطيئة الحركة التي بالكاد تتفاعل مع المادة العادية.

يلجأ العلماء إلى غازات الزينون والجرمانيوم بوصفها أفضل المرشحين للتفاعل مع جسيمات المادة المظلمة، إذ لا يتفاعل أي من هذين العنصرين بسهولة مع المواد الأخرى، لذا فإن أي تفاعلات تحدث من المرجح أن تكون نتيجة لوجود WIMPs. وما يجعل CJPL فريدًا هو استخدامه لكل من الزينون والجرمانيوم، بينما المنشآت المنافسة -مثل LUX-ZEPLIN في ساوث داكوتا أو XENONnT في إيطاليا- تعمل فقط على كاشفات الزينون.

يقول جوناثان إليس دكتور الفيزياء النظرية ورئيس اللجنة الاستشارية في CJPL: «لدى PandaX فرصة حقيقية في المستقبل لكي تصبح الرائدة العالمية الوحيدة، بينما CDEX أكثر تعقيدًا بعض الشيء، وذلك لأن التعامل مع الجرمانيوم أصعب».

ويوضح إليس بأن الجرمانيوم ليس فقط أكثر تكلفة بالمقارنة مع الزينون، بل أيضًا أصعب في التوسع من حيث الكتلة والحساسية، وأن كاشفات الجرمانيوم قادرة على تحديد ما لا تستطيع كاشفات الزينون التقليدية تحديده. ويضيف قائلًا: «الزينون مناسب جدًا للبحث عن جسيمات المادة المظلمة التي تزن عشرات أضعاف كتلة البروتون، بينما مادة الجرمانيوم التي يستخدمها CDEX هي أكثر ملاءمة للجزء الأخف من WIMPs».

يوضح إليس إن الزينون السائل مثالي لصيد WIMPs لأنه عنصر مستقر نسبيًا لا يسمح بدخول ضجيج إضافي، بينما يكون ثقيلًا أو كثيفًا بما يكفي لتترك جسيمات WIMPs علامة. وتمتلك كاشفات الزينون القدرة على اكتشاف مرشحين محتملين للمادة المظلمة أصغر بنحو 12 مرة من متوسط نواة الزينون. بهذا المعنى يكمل كل من PandaX وCDEX بعضهما البعض من حيث قدرة المختبر على الكشف.

ويعود السبب في أن منشآت الكشف المباشر تقع على عمق بعيد تحت الأرض يحجب الضجيج الخارجي من السطح. ومع إن الاسم (الكشف المباشر)، فإن الكاشفات نفسها لا تطلق إنذارات عند اكتشاف المادة المظلمة. بل تمر المادة المظلمة عبر الكاشف طوال الوقت، ولكن نادرًا ما تتفاعل مع الزينون أو الجرمانيوم داخل الخزان، يقول خوان كولار الحاصل على الدكتوراه وفيزيائي الجسيمات في جامعة شيكاغو: «تخيل أن لديك هدفًا، فإذا كان صغيرًا جدًا ورميت مقذوفًا أو سهمًا نحوه، فلديك فرصة ضئيلة جدًا لضرب الهدف. أما إذا كان أكبر فإن السهم المقذوف الذي أرسلته قد يكون لديه فرصة أكبر لضرب الهدف».

يفحص العلماء الذين يراقبون الكاشف الإشارات التي يسجلها الخزان السائل بحثًا عن أدنى علامات اضطراب شبه غير مرئي، نتيجة تفاعل صدفة بين الكاشف والمادة المظلمة عبر حماية الكاشف من الأشعة الكونية المعروفة، يكون الهدف هو التركيز على الاضطرابات الغريبة غير المعروفة.

نظرًا للحساسية الشديدة التي تتطلبها هذه العملية، من الطبيعي أن يدفع البحث عن تلك المادة بحد ذاته حدود الفيزياء الفلكية، كما يبين الدكتور دون لينكولن العالم البارز في فيرميلاب. ومع إن البحث في هذه المادة قد يبدو غير منطقي، فإن كثيرًا من ألغاز الكون لدينا تبدأ في اتخاذ معنى أكثر ما إن ندخل المادة المظلمة في الحسابات. فإذا افترضنا مثلًا صحة نظريتنا حول الجاذبية، يجب أن تدور المجرات في كوننا المرئي بسرعة معينة. في الواقع تدور المجرات ليس فقط بسرعة أكبر بكثير مما تقول الرياضيات، بل أيضًا بسرعة تجعلها تتباعد عن بعضها. ومع ذلك فإن النظريات الفيزيائية الحالية لا تستطيع تفسير ما الذي يجمعها معًا.

يضيف لينكولن أيضًا: «والحل الممكن قد يكون المادة المظلمة، ولكن التفسير البديل قد يكون أننا لا نفهم قوانين الحركة ولا نفهم قانون الجاذبية».

وقد حاول الفيزيائيون طرح الحلول البديلة، ولكن لا شيء حتى الآن ربط النجوم حرفيًا مع نظرية وجود مادة أكثر مما يمكننا رؤيته في الكون على حد تعبير لينكولن.

والسعي لتوضيح ألغاز الكون لدينا يشبه في الغالب إغلاق الأبواب القديمة وفتح أبواب جديدة. فالفكرة التي يثبت خطأها تقضي على تشتيت إضافي، تمامًا مثلما يؤدي الحفر العميق تحت الأرض لتثبيت تقنية الكشف إلى القضاء على عامل ضجيج إضافي.

يوضح هوبر بأنه عندما اكتُشف الإلكترون، اعتقد الكثيرون عدم وجود أي تطبيق عملي له. ومع ذلك لو لم نكتشف الإلكترونات أو ندرسها، لكنا نعيش دون الحواسيب والموصلات الفائقة ومعظم الأجهزة الإلكترونية المنزلية.

يستطيع عالم الفيزياء الفلكية الدكتور إيثان سيجل -الذي يستضيف بودكاست (يبدأ بانفجار – starts with a bang)- تصوّر مستقبل يستخدم جسيمات المادة المظلمة بوصفها نوعًا من وقود الصواريخ. ويوضح أن كل مادة لها نظيرها من المادة المضادة، واصطدام المادة بالمادة المضادة يخلق طاقة نقية فعالة، وإذا انتهى الأمر بأن المادة المظلمة لا تحمل أي شحنة تقريبًا، فسيعني ذلك أن كل جسيم منها سيتصرف كجسيمه المضاد. إذا كان هذا صحيحًا، فإن اصطدام جسيمين من تلك المادة سيؤدي إلى انفجار مادة ومادة مضادة، وهذا مصدر مستمر للطاقة الفعالة مثالي للصواريخ.

يقول عالم الفيزياء الفلكية في جامعة هارفار الدكتور تشارلي كونروي: «هذا ليس كل ما قد نراه، ولن أكون مندهشًا على الإطلاق إذا كان لدينا آلة زمنية وذهبنا للأمام 1000 سنة، وعرفنا أن المادة المظلمة قد اكتُشفت، وكانت تستخدم على نطاق واسع في جزازات العشب والمكانس الكهربائية».

اقرأ أيضًا:

لماذا لا نستطيع رؤية المادة المظلمة؟

خريطة جديدة للكون تظهر أن المادة المظلمة ساهمت في تشكله

ترجمة: حمداش رانية

تدقيق: تمام طعمة

مراجعة: محمد حسان عجك

المصدر