تُعد المادة المظلمة بمثابة سقالات ساندة غريبة تفرض على المادة كيف تؤثر. تنهار أفضل النظريات في ظل نقص التقدم المحبط في تحديد ماهية المادة المظلمة بالضبط. لاحظ العلماء أن المجرات في الكون لا تدور بنفس الطبيعة الفيزيائية مثل لوحة الغزل الدوار، إذ تدور النجوم على حافة المجرة بشكل أسرع من المتوقع؛ ما أقلقهم حيال ذلك. ولا يمكن تفسير حركتهم إلا بوجود كمية كبيرة من المادة غير المرئية التي لا يمكننا رؤيتها؛ وبهذا تُعد أبحاث المادة المظلمة مقلقة.
بدا ذلك مشوقًا أكثر منه مقلقًا في بادئ الأمر عندما كان هذا المجال جديدًا وكانت الأفكار وفيرة ولم يثبت خطؤها بعد. وحد الباحثون الجهود في مجموعتين أساسيتين وهما: الأجرام الضخمة المضغوطة الهالية MACHOs (Massive Compact Halo Objects)، والجسيمات الضخمة ضعيفة التفاعل WIMPs (Weakly Interacting Massive Particles).
الأجرام الضخمة المضغوطة الهالية ليست هي الإجابة!
تمثل الأجرام الضخمة المضغوطة الهالية الاحتمال الأقل غرابةً؛ فأنا وأنت لا نتوهج أو نعكس الضوء بشكل جيد جدًا، لذلك قد يحتوي الفضاء والمجرات على الكثير من الأشياء التي لا يمكننا رؤيتها؛ ببساطة لأنها مظلمة فعليًا، يبدو هذا الاقتراح منطقيًا؛ فليس لدينا مصباح يدوي كبير بما فيه الكفاية.
لا تكفي الكواكب والنجوم لإشعال وإنارة الثقوب الدودية الفضائية التي تلتهم العالم؛ فهي صغيرة نسبيًا. باستثناء أنه يمكننا الكشف عن بعض تلك الأجرام الموجودة (غير الدودية) لأنها ضخمة جدًا لدرجة أنها تحني الضوء حولها. وبذلك نعرف بوجودها على الرغم من ظلامها.
ومع ذلك لا يوجد عدد كافٍ منها لتفسير دوران المجرات بشكل رياضي. تظهر المشكلة نفسها إذا تخيلنا كونًا مملوءًا بالثقوب السوداء المتناثرة، سنحتاج إلى رؤية هذه العدسات الجاذبية الحانية للضوء في كل مكان ولا نستطيع رؤيتها حتى عندما ننظر بتمعن شديد.
البحث عن الجسيمات الضخمة ضعيفة التفاعل
تحرك مجتمع الفيزياء الفلكية في الغالب نحو الجسيمات الضخمة ضعيفة التفاعل بدلًا من الأشياء الكبيرة، فقد يمتلئ الكون بالأشياء الصغيرة التي لا نستطيع رؤيتها.قد تكون هذه أسراب من جسيمات تشبه الذرات التي لا تعكس أو تمتص الضوء أو أي نوع آخر من الطاقة الكهرومغناطيسية، خلافًا لجميع المواد التي يمكن لمسها وقياسها ورؤيتها من حولنا على الأرض.
هذا المفهوم أكثر إثارةً للقلق؛ وذلك أن أيًا من قواعد العلم يُفترض بها أن تعمل على النحو نفسه في كل مكان في الكون. نحن نعلم بأن النيوترينوات موجودة بالفعل: وهي جسيمات صغيرة عديمة الكتلة غالبًا، وهي بالكاد تتفاعل مع الكون المحيط بها. المشكلة هي أنها في الغالب دون كتلة، ولا يمكننا معرفة كيف يوجد عدد كافٍ منها لتشكيل نسبة 84 بالمئة من مادة الكون التي لا يمكننا رؤيتها.
لذلك قد تكون المادة المظلمة جسمًا مختلفًا لم نلاحظه على الإطلاق، شيء يُسمى (النيوترالينو-Neutralino). توصل الباحثون إلى وصف معقول لهذه الجسيمات، وكيفية نشأتها من الانفجار العظيم، وكيف ستتوافق مع النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات دون خرق أي شيء آخر على طول الطريق.
هل المادة المظلمة هي الأثير الجديد؟
نحن نبحث عن المادة المظلمة منذ مدة، لقد قمنا ببناء أجهزة استثنائية حساسة بشكل لا يصدق للبحث عنها. وتشمل هذه الأجهزة أحواض الزينون السائل المخزونة تحت الأرض بعدة أميال، والتلسكوبات التي تبحث عن جسيمات المادة المظلمة التي تتحلل إلى أشياء يمكننا رؤيتها وقياسها مثل أشعة جاما.
وتشمل مصادم الهيدرونات الكبير (LHC)، أحد أكثر التجارب العلمية المُنشأة تكلفةً على الإطلاق، ولكننا لم نعثر على المادة المظلمة، لم نعثر على الجسيمات الضخمة ضعيفة التفاعل، ولم نعثر على أدلة مقنعة على وجودها. باستثناء الأدلة المتواصلة التي لا يمكننا تجاهلها والتي تقول بإن الكون أثقل مما يمكننا رؤيته.
يتجدد الشعور المقلق مرة أخرى ويزداد هذه الأيام، فقبل عقود وثِق العلماء من وجود الأثير البراق باعتباره وسيلةً لحمل الضوء. أما الآن يبدو ذلك في نظرنا على أنه اعتقاد غير متقن كان ينبغي إسقاطه قبل ذلك بكثير.
أصر العلماء لأنهم كانوا على يقين بأن الضوء مثل الصوت يحتاج إلى وسيلة للتنقل على الرغم من الأدلة المتراكمة ضد هذا المفهوم. بعد خداعهم لمرة واحدة، يجب على العلماء أن يسألوا: هل المادة المظلمة هي الأثير الجديد؟
لعقود من الزمن قدم عدد من العلماء نظريتهم التي تسمى ديناميكا نيوتن المعدلة (Dynamic Newtonian Modified) القائمة على أساس أن الفيزياء لا تعمل كما نعرفها على أكبر المقاييس، وأننا نصيغ الاستنتاجات المغلوطة، والمادة المظلمة غير مطلوبة لتفسير الكون.
لم ينجح أحد في تطوير نظرية ديناميكا نيوتن المعدلة التي تفسر الكون من حولنا بشكل كافٍ، ولكنها في بعض الأحيان تكتسب المصداقية ببساطة لأن النظرية المنافسة للمادة المظلمة فيها عيب فاضح: وهو أنه لا يمكننا العثور عليها.
تضرب المستجدات العلوم القديمة؛ فقد نكون مخطئين في شيء ما في النموذج القياسي الذي يوضح كيف تتصرف أصغر الجسيمات في الكون وتتفاعل، وقد تكون المادة المظلمة موجودةً ولكن في شكل مختلف تمامًا عما نتوقعه. أو ربما نحن مخطئون في قوانين الجاذبية.
أو ربما تأتي إحدى التجارب بالنيوترالينو غدًا. يقول الباحثون أن اصطدام أي جسيم بحوض الزينون فائق البرودة، سيكشف لفريق مصادم الهيدرونات الكبير جسيمًا جديدًا.
العلم صعب عند التمعن في مراحل التقدم العلمي، ففي الأمس فقط بدأنا البحث عن المادة المظلمة، وبمجرد الاستدلال عليها قد نكتشف بأن الفيزياء المعروفة الآن مغلوطة للغاية، وهذا الاحتمال مقلق حتى الآن.
اقرأ أيضًا:
- متى وأين ظهرت المادة المظلمة والطاقة المظلمة؟
- إعصار سريع للغاية من المادة المظلمة يهب على الأرض الآن
- يمكن أن تُشكّل المادة المظلمة نجومًا باردةً وغريبةً في أرجاء الكون
إعداد: سرمد يحيى
تدقيق: تسنيم الطيبي