تَسهُل عملية تشخيص الاضطرابات العقلية في حال وجود علامات واضحة يمكن الاعتماد عليها. وفي حالة مرض الفصام ، وجد العلماء ومنذ أكثر من ثلاثين سنة ارتباطه باستجابة إجفالية غير طبيعية. إذ إن الأشخاص الطبيعيين لا يجفلون كثيرًا من الضوضاء إذا سبقتها ضوضاء أخفت تمهد لها تُعرف باسم نبضة باكرة prepulse.
تسمى هذه الظاهرة التثبيط بالنبضة الباكرة prepulse inhibition (PPI) لأن وجود صوت خافت يسبق الضوضاء العالية يثبط الاستجابة الإجفالية. أما الأشخاص المصابين بالفصام فيمتلكون PPI منخفضًا، وهذا يعني أن استجابتهم الإجفالية لن تقل بسبب وجود صوت خافت يسبق الضوضاء العالية.
يُعتَبر اختبار PPI إشارةً سلوكيةً جيدة، ومع أنه لا يرشدنا إلى بيولوجية الفصام، تُعتبر هذه نقطة البداية التي أدت إلى الاكتشافات الحالية.
بدأ الباحثون في مركز ريكن لعلم الدماغ، بالبحث عن اختلافات في بناء البروتينات في الفئران التي تملك تثبيط بنبضة باكرة ضئيل جدًا وأُخرى تملك تثبيط بنبضة باكرة عالي جدًا.
ووجدوا أن الإنزيم ميركابتوبايروفيت سلفاترانزفريز أو MPST وجد في أدمغة الفئران التي تملك PPI ضئيل بكميات أكبر من الفئران التي تملك PPI عالٍ. وبما أن ذلك الإنزيم مسؤول عن إنتاج مادة كبيرتيد الهيدروجين، قاس الباحثون نسبة تلك المادة في الفئران ووجدوا أن نسبته كانت عالية في الفئران التي تملك PPI ضئيل.
يقول مسؤول البحث تاكيو توشيكاوا: «لم يفكر أي أحد مطلقًا بوجود ارتباط بين كبريتيد الهيدروجين والفصام. منذ أن اكشفنا ذلك، كان علينا معرفة كيف حصل هذا الارتباط وإن كان الأمر ذاته يحصل لدى الأشخاص المصابين بالفصام وليس بالفئران فقط».
وللتأكد من كون إنزيم MPST هو المسبب، كوّن الباحثون فأرًا معطلًا جينيًا knockout mice ذا PPIضئيل، ووجدوا أنه امتلك مستويات أعلى من الـPPI (من الفئران التي تمتلك بطيعتها PPI ضئيل low-PPI mice الطبيعية). وبالتالي ساعد تقليل نسبة الإنزيم على جعل الفئران طبيعية.
بعد ذلك وجدوا أن التعبير الجيني للإنزيم MPST كان أعلى في أدمغة الأشخاص المصابين بالفصام بعد تشريحها. بالإضافة إلى ارتباط مستويات الإنزيم في تلك الأدمغة مع حدة الأعراض قبل الوفاة.
أصبح لدى فريق الباحثين الآن المعلومات الكافية لاعتبار التعبير الجيني لإنزيم MPST علامةً بيولوجيةً للفصام. إذ إنهم فحصوا بصيلات الشعر لأكثر من خمسين مصاب بالفصام ووجدوا أن التعبير الجيني الحمض النووي الريبوزي الإرسالي mRNA الخاص بالإنزيم كان أعلى بكثير عند الأشخاص المصابين بالفصام عن غيرهم.
على الرغم من أن النتائج ليست مثالية، ما يدل على أنه لا يمكن أخذ نسبة الكبريتيد بعين الاعتبار لكل المصابين بالفصام، فإن نسبة MPST في الشعر يمكن أن تكون علامةً بيولوجيةً جيدة للفصام قبل ظهور الأعراض الأخرى.
سواء كان سبب الفصام جيني أم بيئي فإن الاختبارات الجارية على الفئران والأدمغة بعد تشريحها تشير إلى نسب عالية من إنزيم MPST ترتبط بتغيرات في الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين DNA والتي تؤدي إلى تغير التعبير الجيني بشكل دائم. ولهذا كانت خطوة الفريق التالية إيجاد عوامل بيئية يمكن أن تؤدي إلى ارتفاع نسبة الإنزيم بشكل دائم.
ولأنه يمكن لكبريتيد الهيدروجين أن يحمي من الإجهاد الالتهابي، افترضت المجموعة أن الالتهابات التي تحصل خلال مراحل النمو المبكرة قد تكون السبب الرئيسي. يقول يوشيكاوا: «لقد وجدنا أن العلامات المضادة للأكسدة مثل إنتاج كبريتيد الهيدروجين والتي تعمل ضد الإجهاد الأكسيدي والالتهاب العصبي خلال فترة نمو الدماغ، ترتبط بنسب الإنزيم MPST في أدمغة المصابين بالفصام».
وافترض الباحث أنه بمجرد بدء إنتاج كبريتيد الهيدروجين فإنه سيتسمر مدى الحياة بسبب التغيرات الجينية الدائمة على الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين DNA، ما يؤدي إلى الإجهاد الكبريتيدي والذي يسبب الفصام.
تركز العلاجات الحالية للفصام على نظامي الدوبامين والسيروتونين في الدماغ. ولأن تلك الأدوية لا تمتلك فاعليةً عالية ولديها آثار جانبية كثيرة، فإن شركات الأدوية قد أهملت تطوير أدوية جديدة كما يقول يوشيكاوا.
وأضاف موضحًا: «نحتاج إلى نموذج جديد لتطوير أدوية جديدة. نحو 30% من المصابين بالفصام يمتلكون مقاومة لمضادات مستقبلات الدوبامين نوع D2. توفر نتائجنا مبدأً جديدًا لتصميم الأدوية، ونحن نعمل حاليًا على اختبار امكانية تخفيف تثبيط إنتاج كبريتيد الهيدروجين من الأعراض لدى نماذج الفئران المصابة بالفصام».
اقرأ أيضًا:
الفصام: الأعراض والأسباب والعلاج
الريتينويدات والفصام: دور الريتينويدات في مرض الفصام جينيًا وسريريًا
ترجمة: غند ضرغام
تدقيق: زيد الخطيب
مراجعة: آية فحماوي